الشاعرة بالنقص..!؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أشكركم جزيل الشكر على هذا الموقع الناجح والمميز والذي يتيح مجال الاستشارة وطلب النصيحة المجانية، فجزاكم الله عن هذا كل خير وأجر.
مشكلتي تؤرقني من فترة طويلة؛ أرهقتني فلم أعد أستطيع النوم إطلاقاً، أصبح الفراش عنوان للحزن والألم، وأصبحت الساعة الحادية عشر هي وقتي للحزن والألم، حينما أتفقد نفسي وأرى مستقبلي فلا أرَ سوى الوهم والألم والعتمة. أنا أحد ذوي الاحتياجات الخاصة، ولله الحمد، أستطيع المشي لكن لدي إعاقة متعبة في القدم وخلع في الورك الأيسر وقصر في القدم اليسرى، ومضاعفات هذه المشكلة كثيرة منها آلام في الظهر متعبة جداً سببت لي الكثير من المشاكل وآلام جسدية، وألم حقيقي وهو النفسي.
شعوري بالنقص أصبح شيئاً ملازماً لي منذ صغري، وللأسف تربيت على النقص حتى من أسرتي التي كانت تميز بيني وبين إخوتي بشكل فاضح؛ فأمي لم تكن ولا تزال لا تفتخر بي إطلاقاً، كانت في أوقات المناسبات العائلية تعطيني بعض النقود وتطلب مني أن أمكث في البيت ولا اذهب معهم بحجة رعاية إخوتي الأطفال بالرغم من وجود خادمة معهم، كانت تطلب مني المكوث بحجة البقاء معهم وإلا سيضطر أبي للرجوع لرعايتهم إذا ذهبت إلى أي مناسبة، كانت هذه هي حجتها!.
كنت أمكث في أغلب المناسبات إن لم تكن جميعها. كان أخي الأكبر والأصغر، وحتى أخي الرابع يذهبون جميعاً إلى المناسبات والاجتماعات والاحتفالات العائلية وأنا أبقى في البيت، وهذا الموقف أحمد الله على أني لم أكن أفهمه بهذا الشكل وهذا المنطلق في صغري؛ فهذا الشعور شعور صعب والإحساس بالنقص والضعف والنبذ إحساس صعب ومتعب جداً. في يوم من الأيام -ما زلت أذكر الموقف بكل تفاصيله ومكانه وزمانه وساعته أيضاً-؛ كانت أمي تستعد للخروج للتسوق مع أخي الأصغر فطلبت منها الذهاب بحجة أني لم أخرج معها إطلاقاً، وبعد إصراري رمتني بأصعب وصف وأجرح وصف من شخص من المفترض أن يكون الراعي والحاني والعاطف عليّ، ربما لم تكن تتوقع مني فهمه بهذا الشكل أو توقعت عدم مبالاتي أو استيعابي، أخبرتني بصريح العبارة "أنت تحرجني" أنا لم أكن صغيراً جداً -في قرابة الحادية عشر من العمر- فبعد ردها عليّ بهذا أقسم لكم أني ألجمت فلم أستطع استيعاب ما قالته، ولم أتوقع منها أو من أي شخص بعيد أيضاً هذا الرد الجارح الذي خلق جرحاً لا يصعب نسيانه ومداوته.
حاولت جاهداً أن أمنع دمع عيوني أمامها وأن أنسحب وأتظاهر وكأن شيئاً لم يكن حتى خروجها، وبعد خروجها ذهبت إلى "دورة المياه" لأنه المكان الوحيد الذي أستطيع إغلاق الباب به على نفسي، وظللت أبكي لساعة كاملة وأكثر. ولك أن تتخيل حجم المعاناة تلك لطفل في العاشرة أو الحادية عشر من عمره. عند ذهابي أو خروجي إلى أي مكان مختلط بالناس، تكون عيون الناس على أقدامي فقط وكأني كائن من الفضاء، نظرات الإهانة وأحياناً الشفقة من الكبار والاستنكار والاستعجاب من الصغار، سببت لي عقدة الاجتماعات فاعتزلتها منذ فترة طويلة، أكره الاجتماعات الكبيرة والأماكن المزدحمة والمختلطة، وإن تواجدت في أي مكان كذلك فـإن نظراتي للأرض وأتجنب رفع بصري لئلا أرى الإهانة في عيون المجتمع.
ما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي رفضت فيه الذهاب إلى طبيب العناية بالقدم وأنا طفل في قرابة العاشرة من العمر، تصنعت النوم والتعب لئلا أذهب، والسبب أن العائلة ستخرج جميعها معي، رفضت أن أريهم ضعفي وانكساري، أصرت العائلة على الذهاب وأنا رافض أشد الرفض فاضطررت للذهاب باكياً مكسوراً ضعيفاً، فانزعج أبي من بكائي وقام بضربي بحذائه ضرباً شديداً وقد بانت آثار الضرب على يدي لفترة ليست بالقصيرة. فقدت الثقة بنفسي منذ صغري فكرهت نفسي وكرهت مجتمعي وفضلت الانعزال عن المجتمع والعيش بسلام.
مسيرة حياتي كاملة لم أتعرف إلا على 6 أصدقاء فقط وانقطعت علاقتنا بعد أن انتهينا من المرحلة الثانوية عدا أحد الأصدقاء الذي ما أزال أتواصل معه وأكن له الحب والتقدير فهو منفذي الوحيد في الحياة الاجتماعية، ودونه أصير منعزلاً تماماً عن المجتمع والعلاقات الاجتماعية، فقد اقتصرت علاقاتي العائلية على يوم واحد وهو يوم عيد الفطر المبارك والاجتماع معهم والسلام عليهم لفترة تقارب الساعة وبعدها أعود لعالمي المنعزل.
كل ما كتبته أعلاه ليس مشكلتي الحقيقية، فقدت تعايشت مع هذه الأشياء وتأقلمت معها بشكل جيد ولا أرى أنها المشكلة الكبيرة في هذه الرسالة إطلاقاً.. أنا إنسان محافظ ومتدين قليلاً ولي التزامي في بعض المواضيع الدينية، فأنا ولله الحمد ليست لدي أي علاقات ولم أبحث عنها، ولم يكن لدي تجارب إطلاقاً. مذ قرابة السنة والنصف بدأت قصتي وبدأ حياتي وموتي. لا أرى سواها ولا أرى غيرها؛ تعرفت عليها بمحض الصدفة عن طريق أحد معارض الفن التشكيلي فكانت تناقشني بخبرتها الكبيرة في الفن التشكيلي بتعديل وإضافة واستخدام أنماط معينة وأنواع معينة في مجال الرسم، فكانت أمينة وحريصة فعلاً في نصحي ومتابعتي والوقوف على آخر لوحاتي، كانت متمرسة جداً في مجال الرسم بالرغم من صغر سنها -أنا أكبرها بقرابة العامين-، بل طلبت أيضاً متابعتها تفاصيل اللوحة من البداية وحتى النهاية للوقوف على بعض الآراء والأخطاء التي من ربما أقع فيها.
كان تواصلنا عن طريق "الماسنجر" في البداية كنت متحفظاً في الحديث معها لأني لم أعتد إطلاقاً على محادثة الفتياتن فكان محور حديثنا الفن التشكيلي، وكان حديثاً يمتد لساعات طويلة وبشكل يومي. استمرت علاقتنا وكبرت وتوطدت بشكل كبي، فأمنتها على أسراري وباتت تعلم كل شيء عني وتعلم حالي بل أيضاً تعلم ما بي إن كانت لدي مشكلة دون أن أحادثها أو أتكلم معها، وهي على العكس أيضاً. لم أفكر إطلاقاً في أن أتقدم خطوة غير صحيحة في مسيرة علاقتنا، فلم أفكر إطلاقاً في أن أتواصل معها عبر الهاتف أو أن أراها، لقد أحببتها حباً عذرياً متعباً.
لم أستطع أن أخرجها من عقلي أو أن أنسى أفكاري، ولم ولن أستطيع أن أخبرها بمشاعري، أحادثها بشكل يومي وأنا أتألم على حالي، مشاعري ممزقة وقلبي متعب، لم أعد أفكر في سواها ولا أريد الأذية لها أو الشقاء والألم.. كتمت مشاعري وتألمت على ذلك. أنها هي الأمل الوحيد بالحياة والنجاة، وهذا الأمل أصبح هاجساً وسبب لي الكثير من المتاعب النفسية، فأنا أراها كالنقطة القريبة مني، لكن لا أستطيع الوصول إليها أو أن أمتلكها أو أن تكون جزءاً مني. وضعت قلبي جانباً وكتمت مشاعري لأنني لا أرى إطلاقاً أني أستحقها ولا أرى من العدل أن أشقيها معي وأن أسبب لها حتى قليلاً من الألم.. فمن أنا سوى الرجل الضعيف المعاق الكسير، لا أملك من الدنيا سوى الألم والمتاعب والهموم. فلا أريد أن أكون عائقاً لها أو أن أشقيها معي أو أتعبها.
كتمت مشاعري في قلبي وتجرعت الألم، لك أنت تتخيل شعوري أثناء حديثي معها فأبسط كلمه تحزنني على نفسي تشعرني بضعفي، أنا لا أستطيع مصارحتها بمشاعري إطلاقاً، أحببتها أكثر من نفسي، وكتمت حبي لها من أجلها. تجرعت الألم من أجلها فلا أريد أن أخسرها أو أن أخطو خطوة غير صحيحة تكلفني إياها، من أنا لأُحِب ومن أنا لأُحَب؟! لو علمت أن سعادتها في بعدي لقتلت نفسي، فأنا لا أتخيل الحياة دونها ولا أتخيل حياتي مع غيرها إطلاقاً. أحب لها الخير أكثر من نفسي، ولو أصيبت بأي مرض لا قدر الله سأفديها بما لدي فليس لدي ما أخسره.
ربما تظن أنها قصة من محض الخيال لكنها واقعة فعلاً. أصبحت كل خطوه أخطوها لنفسي ولنجاحي من أجلها، أجتهد في دراستي وعملي وكل شيء لأجلها، أحبها من صميم قلبي ولا أستطيع أن أراها حزينة أو ضعيفة أو باكية، فما بالك بأن أكون مصدر الألم له... شعور يقتلني ويتعبني، كرهت نفسي وكرهت مجتمعي وأحببتها هي فقط. ولو وقفت الدنيا كلها ضدي، وكانت هي معي لاخترتها هي فقط لا غيرها. في كل ليلة أفكر فيها ولها ومن أجلها، أحلم لها وأطمح أن تكون جزءاً مني، أرى نفسي وحالي وأبكي ألماً لما أنا عليه، أتجرع المرّ وأنام باكياً متلحفاً بدموعي كسيراً ذليلاً محطماً، وأصبح ليوم جديد كحال سابقه.
في يوم من الأيام كانت لديها مشكلة رفضت أن تخبرني أيها لخصوصيتها، لك أن تتخيل أني لم أستطع النوم لفترة طويلة تمتد لأسبوع لقلقي عليها وخوفي عليها. الآلام لم تخلق لها، ولا الدموع خلقت لعينيها. وفي كل مرة أصرّ عليها أن تخبرني ولو بجزء يسير من أي شيء، كان قلقي عليها أكثر من قلقي على نفسي، كنت أتألم لأجلها ولها. لا أريد أن أسبب لها الألم معي لأني أحبها بصدق ووفاء، فهل تستطيع أذية من تحب؟ أريد نصيحتكم وتوجيهي لما ترونه لمشكلتي. فأنا لم أعد أطيق العيش وكرهت نفسي وحالتي وإعاقتي.. فلا ذنب لي إلا أني معاق في بلد المعاقين!.
27/12/2009
رد المستشار
أهلاً بك معافىً في بلد المعاقين،
أقرأ رسالتك وفي نفس الوقت أتذكر جارتي التي لم تكن أسعد منك حالاً في إعاقتها أو في نظرة المجتمع والأسرة لها ومعاملاتهم لها وبالرغم من كل هذه لم تستسلم ولم أرها يوماً كسيرة النفس، فهي تملأ الدنيا ضحكاً وحباً نظرة الثقة ملء عينيها بشكل لافت، فهي مثال للتفوق والرقي الخلقي لكثيرات. أين أنت منها ومن كثر مثلها!.
قتلتك نظرات الشفقة في عيون الناس فاستسلمت لها وأعطيتهم مبرراً لينظروا إليك تلك النظرة مرة أخرى، أنت من يعطيهم الدافع لهذا، أين إيمانك بالله؟ "كل شيء بقدر" فبقدر ما أخذ منك أعطاك فهو العدل الرّحيم. ترى أنك أقل من الناس وهذا ليس صحيحاً، ربما جسدياً كفتك تنقص بعض الشيء ولكن على قدر هذا النقصان زاد عندك شيء... هل بحثت عن هذا الشيء؟ لماذا ركزت على نقصك ولم ترَ زيادتك؟.
أعيب عليك حسراتك على نفسك وكأنك في هذه الدنيا مفعول به لا فاعل، لست بحاجة أن أذكرك بأمثلة لمعاقين صنعوا تاريخاً ليس فقط لأنفسهم بل للبشر كافة، أتعرف ما يقتل الإنسان في الحياة هو ذل النفس بيد صاحبها، لماذا تجعل حياتك كلها بلا هدف وإن صح لك هدف في حياتك فهو من أجل شخصين كنت ترى أنك إنسان فقط بهذه الفتاة فلن تكون إنساناً قط إن كانت هي من تكملك فلن تكتمل أبداً.
اصنع نفسك بنفسك ولنفسك، كن ما تبتغيه... انسَ أنك معاق لبعض الوقت وسترى ماذا ستكون، لقد أضعت من عمرك كثيراً وأنت تلبس ثوب المعاق المسكين، فهل تريد أن تكمل حياتك على هذا الشكل؟ من اليوم ضع حداً لكل هذا، من اليوم لا مزيد من انكسار النفس بل مزيد من الثقة والتفاؤل... اختلط بالناس... أملأ الدنيا صخباً ولهواً ولم لا؟ ما الذي يعيقك قدمك أم مجتمعك أم نفسك؟ مهما تكن الإجابة ستقهرها بإرادتك وبشخصك، ابحث في ذاتك عن الإنسان الآخر، عن الإنسان الذي تتمناه لنفسك وتتمنى أن تكون عليه، وابدأ في إخراجه للحياة من الآن. وبالنسبة للفتاة التي ترتبط بها عليك أن تضع تصور هذا الارتباط وأن تعرف على أي أساس تتعامل معك وتتعامل معها؛ هل هي صداقة؟ حب؟ إعجاب؟ يجب أن تعرف ولا تدع شكل العلاقة هو ما يملي عليك تصرفاتك ويشكل لك حياتك.
وفقك الله.
واقرأ أيضاً:
خطأ التأويل وجنسنة التفسير والله أعلم
لدي إعاقة .. هل هي حقيقية ؟؟؟
الإعاقة والزواج ماذا سيقول الناس