يا أخانا القهقرى، ألا تبصر وترى؟!
((يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)) قالتها قبلي البتول ابنة عمران سيدة نساء العالمين، لكن شتان شتان بيني وبينها وإن بات هذا دعائي الذي ألح به مراراً وتكراراً لما أصابني من داء أظن أن فيه هلاكي.
بدأت مشكلتي منذ عدة أسابيع وقد أذّن المؤذن لصلاة الظهر فذهبت للمسجد كعادتي للصلاة، وبينما كنت أصلي ركعتي تحية المسجد وجدت وسواساً يوسوس في قلبي يقول ليك "يا للأسف تصلي ولكنك لن تجازى على عملك، فما من بعث ولا نشور، وما بعد موتك سوى الفناء والدثور" أصابني الذهول، استعذت بالله من ذلك لكن ذلك الوسواس لم ينقشع عني بل أصبح يرددها مراراً وتكراراً، كدت أسقط مغشياً عليّ لما يقول. أقيمت الصلاة وما زال الوسواس يطاردني، انتهت الصلاة وعدت إلى المنزل وأغلقت باب حجرتي ولم يتركني ذلك الشيء، استعذت بالله كثيراً لكنه ما فارقني وأصبح يشككني في ديني الذي هو نجاتي بعد حياتي الفانية، لم أملك أعصابي وانهرت باكياً أتضرع إلى الله لكني امتنعت عن الدعاء بعدها لقوله تعالى ((وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)).
ما هذه الوساوس؟ وماذا يريد مني؟ يوسوس لي بأقوال تقشعر لها الأبدان وتتصدع لها الجبال وتشيب لها رؤوس الولدان وهي على المؤمن أشد من طعنات الرماح والسهام، وكأنها تقطع قلبي وريداً وريداً، لم أملك سوى البكاء ولم يشهد على هذا سوى جدران حجرتي.
سمعت العصر يؤذن فنهضت وذهبت للصلاة وذلك الوسواس لم يتركني، ظللت على هذه الحال كثيراً (ظهرت مأساتي هذه منذ ثلاثة أسابيع تقريباً) وأنا لا أملك سوى البكاء والصلاة فإذا انقضت الصلاة عدت فنازعتني هذه الوساوس وهي لم تتركني أصلاً لا في صلاة ولا في غيرها؛ أستيقظ فتأتيني هذه الوساوس فأنطق بالشهادتين، لكنها لا تفيد إذا لم تكن من اعتقاد راسخ في القلب! ومن هنا يئست وعلمت أني مخلّد في الجحيم لقول الله تعالى (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) وقوله تعالى (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور)، بدأت أفتح كتاب الله تعالى فأجد فيه من الوعيد ما يجعل صفحات المصحف تبتل من دمعي ولا تفارقني تلك الوساوس (التشكيك ثم الشك والارتياب).
أحسست وكأن الدنيا ضاقت بي فقررت العزلة والاختلاء بنفسي ومعي كتاب الله أقرأ فيه، فما أكاد انهي عدة آيات إلا ووجدت فيها ما يقشعر له بدني وأرتعد منه ارتعاداً شديداً وتنتابني حالات رعشة شديدة تمنيت الموت على هذا العذاب، ولكن أنّى هذا؟! فليبعثني الله ثم لأٌقذفن في النار خالداً فيها! وبدأ فكري يطوف بي مذ قبضني الله ثم هول الملكين فلا أجيب ثم عذاب القبر ثم البعث الأكبر، ثم حوض إمام المتقين وسيد الغر المحجلين فكأني أقترب منه ولكنه يقول سحقاً سحقاً أتذكر مواقف الخذلان ثم قول الله تعالى (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنعام:27)، وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً) (النساء:42).
أتمنى من الله الآن موتٌ معجلٌ فموت بيقين أحب إليّ من حياة مليئة بالشكوك ثم العذاب الأليم، ولكني لا أتمنى الانتحار أفأفر من عذاب إلى عذاب؟ وقد قال الجبار (..... فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً)(النساء:30)، (ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة.... بدار الشك أبكي نهاري وليليا). لكن ما مصدر هذه الوساوس ومن هو هذا الذي يوسوس؟ أهو نفسه ذلك الذي أبى أن يسجد لأبي؟ أم أنه أحد أحفاده من أولئك الملاعين؟ هل هذا من آثار سحر أو دجل؟ فكأن شخصاً أراد بي هذا فاستعان بأحد أولئك ليمضي بي إلى هذا المصير؟ فإن فعل فلقد أفسد عليّ دنياي وآخرتي إن لم يتغمدني الله برحمته، لكن أنسى عدوي هذا من أنا؟ أنا الذي ربتني المساجد وسعيت جاهداً لرفقة الأماجد وقمت أواخر الليل هاجد وأغلب أوقاتي لله ساجد، المسلم كالشجرة التي لها جذور وفروع وأوراق؛ فجذوره هي عقيدته العصماء التي تدفعه إلى العلياء، وعقيدته هذه تتمثل في اليقين الجازم البعيد كل البعد عن الشك، فإن حدث فهذه ليست بعقيدة.
أما عن تلك الجذور والأوراق فهذه أعماله من صلاة وصدقة وصيام.. إلخ، فالجذور تأتي بعناصر التربة للفروعن لكن.... ماذا يحدث إذا قطعت هذه الجذور عن الفروع؟ فما هي إلا عدة ساعات وتموت الشجرة! فمثلها تماماً كمثل المسلم إن ضاعت عقيدته ضاع دينه حتى وإن صام وصلّى وفعل وفعل... كانت لي صحبة جميعهم يكبرونني سناً، اجتمعنا على طاعة الله لكن للأسف يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً، فمذ أصابني ما أصابني انقطعت عنهم وسبقوني بأميال، بينما أنا عالق في حفرة عميقة هل سيذكرني أحد منهم؟ أم أنهم سيشقون طريقهم نحو ربهم ويتركوني؟ أحتاج إلى من يأخذ بيدي وإلا فستكون حفرتي الأبدية.
اللهم ارحمني فأنت خير الراحمين -مع العلم أني في المرحلة أولى للثانوية العامة-، هل سبق الكتاب والقلم بأني مخلد في عذاب الله لا أموت ولا أحيا؟ أم أنه مما قيل فيه (والنفس إن رضيت بذلك أم أبت... منقادةً بأزمة المقدار) أطلت كثيراً وسؤالي: ما سبب هذا التغير المفاجئ وما هي طبيعة هذه الوساوس؟.
14/01/2010
رد المستشار
السلام عليكم،
أبدعت أيها الأديب الأريب، والكاتب النحرير، والسّجاع البارع!.
تتمنى أن تدخل القبر، ولم يمضِ على وسواسك شهر!.
وما كتبته هو المضحك المبكي! مبكٍ لأنه معاناة مريرة...، ومضحكٌ لأنك ذكرت في آخره حلّ أوله...
يا أخانا "القهقرى"، ألا تبصر وترى؟!
كيف ترتعد فرائصك من جهنم والعذاب الأليم، وتتحسر على طردك من الجنة دار النعيم، ثم تزعم أنك لا تؤمن بالبعث ومقابلة العزيز العليم؟! لو كنت بالله تشرك، لما أزعجك ما دار في صدرك! ولكن من سكن قلبه الإيمان، يأبى قبول وساوس الشيطان! فيحاسب نفسه على الخاطر، ويوقن أن الله إليه ناظر. ولكن هذا الخاطر لا حساب عليه، والله الرؤوف الرحيم لا يسأل عنه ساعة الوقوف بين يديه! فدع عنك الأسى والأحزان واستعذ بالله من وساوس الشيطان...، سواء كان الموسوِس إبليس، أم واحدٌ من أحفاده المناحيس!
أخي الكريم،
إن الشيطان لما يئس من إغرائك بالمعاصي، ومن صدك عن الطاعة والإقبال على الله تعالى، غير حيلته فأخذ يقنعك أنك مشرك كافر، وأنه لا فائدة من عبادتك مع الكفر... وهذا يجعلك تتكاسل عن الطاعة ثم تتركها... وبذلك يحقق اللعين مراده منك من حيث لا تدري!!.
ثم إن لله حكمة بالغة من تسليط ذلك عليك، وذلك ليكسر شوكة النفس وإعجابها بطاعاتها، فترى نفسك لا تقدر على التحكم بأفكارك! يسكن قلبك ما لا تريده...، ويفارقه ما تسعى إليه...! فتدرك –حينئذ- وتوقن تمام اليقين أنه لولا معونة الله تعالى لما تحركت، ولما مشيت، ولما تقربت إليه بشيء... وهذا الفهم كنز من كنوز المعرفة بالله تعالى.
يا أخانا القهقرى، إن الصحابة عانَوا مما تعاني منه –وهم الصحابة!- فلا تجزع... وحين اشتكوا إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، بشرهم بأن ذلك يدل على صريح الإيمان، وأن مصدره وساوس الشيطان! وأمرهم أن ينتهوا عن التفكير في ذلك، لأن قطع تلك الوساوس وعدم تصديقها خير علاج لها، وأيسر سبيل للخلاص منها...
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ»)).
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ».
فليس لك الاعتراض على قول نبيك، وليس أمامك إلا التصديق بأن إيمانك خالص وقوي، واستعذ بالله تعالى وانته عن التفكير، وكلما جاءتك فكرة، ذكر نفسك بهذه الحقائق وقل: عرفتك، إنما أنت وسواس لا قيمة له، فلن أستمر في التفكير بك، ولا في إضاعة وقتي باجترارك...
فإن وجدت نفسك ما زالت تعاني، ووجدتها تنتقل من وسواس إلى آخر، فسارع إلى الطبيب، لأن هذا يدل على وجود حالة مرضية، تجعلك تعجز عن طرد الوساوس الشيطانية الواردة عليك... وحينها لا بدّ من تناول الدواء مع المثابرة على اتباع النصيحة النبوية، والإعراض عن كل فكرة غير منطقية.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياك على الإيمان، ويعيذنا من نزغات الشيطان، وأن يكرمنا بالشفاء من كل داء.