اختيار التخصص الطبي
بداية أحب أن أتوجه بالشكر لكل القائمين على هذا الموقع الرائع جزاكم الله عنا كل خير وجعل كل مجهوداتكم في ميزان حسناتكم بإذن الله.
أنا طبيب تكليف حديث التخرج، ومشكلتي هذه هي مشكلة شائعة جدا ويمر بها تقريبا كل طبيب في هذه المرحلة ألا وهي اختيار التخصص، فأنا أحب الطب النفسي جداً، ومع أن الكلية التي درست فيها لم تهتم به كثيراً إلا أنني درسته وحدي وقرأت فيه كثيراً وحضرت عيادته في الجامعة أيضا حيث شاهدت بعض الحالات، كانت لدي حينها نية قاطعة للتخصص في هذا المجال لكن عندما حان وقت الاختيار الفعلي وجدتني مترددا وحائرا للغاية.
فقد ظهرت العديد من العقبات كان أولها وأخطرها العائق المادي.. حيث من المعروف أن الطب النفسي من أقل التخصصات التي تدر دخلا في بلادنا لأن العيادات الخاصة أو شغل (البرايفت Private) الخاص به كما نقول بلغتنا هو الأقل رواجاً بين فروع الطب المختلفة -وبالتالي من أقلها دخلا- بالذات في المحافظات الإقليمية كمحافظتي نظرا لثقافة الناس التي لا تؤمن بالطب النفسي أصلا وتفضل ترك المريض يجوب الشوارع مشرداً على أن يذهبوا به لطبيب نفسي ناهيك عن أنه لا يحتوي على ( Interventional procedures) اللهم إلا الECT وهي شيء ضئيل ولا يقارن مثلا بالمناظير في تخصص الكبد والجهاز الهضمي أو القسطرة في تخصص القلب والأوعية الدموية.
بالطبع المادة ليست كل شيء لكنها شيء هام لا يستهان به بالذات في بلادنا التي تجبر الطبيب على أن يعطيها اهتماما كبيرا لأن الراتب الحكومي وحده كما تعلمون لا يكفي قطة ويضطر الطبيب اضطرارا للاعتماد على العمل الخاص وعيادته الخاصة.. ولهذا السبب بالذات كانت معارضة أبي وهو بالمناسبة طبيب نساء وتوليد وكذلك معارضة أغلب من أسألهم في هذا الأمر.
هكذا وجدت نفسي أمام مجموعة من الأسئلة المصيرية المحيرة جدا والتي يجب أن أجيب عنها بكل دقة إذا أردت أن أتخذ قرارا صائباً:
1- هل أحب الطب النفسي فعلا لهذه الدرجة؟ وإلى أي مدى يمكن أن أضحي لأجله؟ صحيح أنني قرأت في الطب النفسي وشاهدت بعض حالات الفصام والاكتئاب وغيرها لكني بالطبع لم أجرب قضاء عمري كله وسط مرضى الفصام مثلا، لم أجرب عيوب الطب النفسي -وإن كنت أعرفها إلى حد ما- ولا أدري إن كنت سأتحملها أم لا، كيف لي أن أعرف هذا الآن؟؟
ما أعرفه الآن يقيناً هو أن ثمة تخصصات لا أحبها ولا تناسبني إطلاقا مثل الجراحة بفروعها وكذلك النساء والتوليد والتخدير والطوارئ، هكذا لا يتبقى تقريبا سوى الطب الباطني بفروعه، أي أنني أعرف جيدا ما الذي لا أريده لكني لا أعرف ما الذي أريده بالضبط.. وهو حال العديد من زملائي بالمناسبة.
2- ما هو موقع الحب في اختيار التخصص؟ إذا سألت أي طبيب عن أفضل تخصص عادة ما يجيبك "الكبد والجهاز الهضمي شغله كثير ودخله كثير هذا أفضل" أو مثلا "
التحاليل مطلوبة من كل التخصصات ومريحة" أو "الأشعة مذاكرتها سهلة ومربحة" هكذا، الكل يضع في الاعتبار العامل المادي والقليل من العوامل الأخرى على استحياء لكن لا أحد يقيم وزنا لما تحبه أو تميل إليه، هل كلهم مخطئون وأنا الوحيد المحق أم أنني ذو تفكير ساذج سأندم عليه لاحقا؟
3- كيف يمكن التعامل مع الغيبيات في هذا الموضوع؟ لأن نصف المعلومات اللازمة لاتخاذ هذا القرار هي معلومات غيبية مستقبلية، مثلا يقول أحدهم، هل تنوي السفر أم البقاء في مصر؟ لأنك إذا كنت تنوي السفر للخليج مثلا فاختر تخصص كذا أو كذا فهو مطلوب هناك أما إن كنت تنوي البقاء في مصر فاختر كذا، رائع... لكن ثمة مشكلة بسيطة، ما يدريني الآن؟؟
هناك من الأطباء من سافروا للخليج وقضوا كل أعمارهم هناك وهناك نوع آخر ممن سافروا ولم يحتملوا الغربة أكثر من عامين أو ثلاثة ثم عادوا فورا إلى مصر، أي النوعين إذن أنا؟ كيف لي أن أعرف الآن وأنا لم أجرب؟ هناك أيضا من يقول أن الطب النفسي ينمو وسيكون من التخصصات الرائجة عما قريب أو أن مشروع كادر الأطباء مثلا سيطبق قريبا وسيحسن أحوال جميع الأطباء، لكن ما يدريني الآن؟؟ هذه كلها عوامل مستقبلية قد تحدث وقد لا تحدث لكنها للأسف هامة جدا في اتخاذ القرار الآن، كيف يمكن التعامل معها؟؟
4- أصبت أثناء سنين الدراسة في الكلية بمرض الوسواس القهري (OCD) لكني عولجت منه بفضل الله واختفى تقريباً، أنا الآن أتعايش جيداً ولله الحمد مع ما بقي منه، ومع أني كنت أميل للطب النفسي قبل الإصابة بهذا المرض، إلا أن تلك الإصابة جعلتني أدرك كم أن المعاناة النفسية مؤلمة وقد تكون أسوأ بمراحل من المعاناة الجسدية، وأدركت أيضاً كم أن الأطباء النفسيين المميزين في بلادنا قليلون جدا جدا، وهي كلها عوامل دفعتني أكثر لاختيار الطب النفسي، لكنني أحيانا أتساءل، هل سيكون لهذه الإصابة السابقة -وبقاياها القليلة الموجودة الآن- أي أهمية في اتخاذ هذا القرار؟؟ أعني هل ستؤثر في عملي كطبيب نفسي إذا ما قررت اختيار هذا التخصص أم لا؟؟؟
هذه كلها أسئلة حائرة أرجو أن تساعدوني في الإجابة عنها، فكل ما أريده هو أن أقدم لأمتي ومجتمعي ووطني خدمة حقيقية ومميزة، شيئاً جديداً، أريد أن أكون متميزاً لا أن أكون مجرد رقم يضاف إلى أرقام الأطباء الكثيرة في بلادنا فحسب.
وقبل أن أنهي كلامي أود أن أضيف نقطة هامة، هذه أول مرة في حياتي أتخذ قرارا، نعم، لا أقصد قرارا كبيرا أو خطيرا كهذا بل هي بالفعل أول مرة أجدني مخيرا فعلا ومضطرا للاختيار بنفسي، فأنا بالطبع لم أختر طريقة تنشئتي وحياتي ولا مدرستي ولا حتى كليتي، لا أقول أن أحدا أرغمني على دراسة الطب ولكن لم تكن هناك بدائل فقد تربيت منذ نعومة أظفاري على نمط حياة معين وعلى أنني يجب أن أكون طبيبا وإلا انتهت الدنيا وقد كان والحمد لله على كل حال.
كانت حياتي باختصار (أبصرت أمامي طريقا فسرت) على حد قول الشاعر الحائر وكانت أكبر قرارات أتخذها قبل ذلك هي هل أشتري هذا القميص أم ذاك؟؟ هل أسهر لأذاكر أم أنام وأذاكر صباحا؟؟
هكذا.. والآن أجد نفسي مطالبا باتخاذ القرار لأول مرة في حياتي في سن الخامسة والعشرين!!!! أي أن أول قرار أتخذه في حياتي -بدون أية تجارب أو خبرات سابقة إطلاقاً- هو بالمصادفة أخطر قرار على الإطلاق، لست أدري حقا من الملام هنا لكن هذا بالتأكيد ليس عدلا ولم يكن يجب أن تكون الأمور هكذا،
على أية حال أرجو أن أجد عندكم ما يعوض انعدام خبرتي ويساعدني على اتخاذ القرار الصائب بإذن الله.
وجزاكم الله خيرا
13/12/2012
رد المستشار
استشارة نفسية تعليمية Psychoeducational Consultation
نظرة عامة Overview : خريج كلية طب يستفسر عن اختيار الاختصاص وبالذات الطب النفسي.
التوصيات Recommendations :
٠ شكراً على استعمالك الموقع متمنياً لك النجاح والتوفيق.
٠ هناك من طلاب الطب من يصب تركيزه على اختصاص ما في مرحلة التعليم الجامعي، وتراه يخطط للعمل في هذا الاختصاص واضعاً خطة عمل يضمن من خلالها الاتصال بالمؤسسات الطبية الأكاديمية المعنية. الطالب الذي ينوي التوجه في هذا المجال ترى له الاستعداد للخوض في المجالين الأكاديمي والمهني في نفس الوقت. البعض منهم يكتشف بعد تخرجه والعمل في هذا الاختصاص بأنه غير مناسب له والبعض الآخر يزداد تعلقاً به ويزداد تصميماً أيضاً على الإبداع في هذا المجال.
٠ إن اختيار الاختصاص على ضوء مكاسبه المادية فقط كارثة. في الكثير من الأحيان المكاسب المادية لا تعوض أبداً عن شعور الإنسان بالرضى والارتياح والمتعة من جراء أداء عمله. إن لم يشعر الإنسان بالمتعة من جراء ممارسة المهنة فستراه دوماً إنساناً متعكر المزاج يشكو من الدنيا وتشكو منه وتنفر الدنيا ومن حوله من تعكر مزاجه. إياك واختيار الاختصاص استناداً إلى المكاسب المادية.
٠ الغالبية العظمى من الأطباء لا يفكر باختصاص معين ويبدأ باتخاذ القرار بعد تدريبه في مختلف الفروع بعد التخرج. الجوانب العملية للمهنة تختلف تماماً عن دراستها، ولذلك هناك من الفروع التي يبغضها الطالب أثناء الدراسة قد يتوجه إليها بعد التجربة المهنية، والعكس صحيح تماماً. كذلك هناك عامل آخر يلعب دوره في اختيار الاختصاص وهو الاستشاري الذي تعمل معه والمشرف على تدريبك. الكثير من هؤلاء الاستشاريين يلعب دوره في جذب الأطباء إلى اختصاصه ويحرص على تدريبهم بصورة جيدة.
٠ الطب النفسي فرع من فروع الطب، ويستحسن أن تتم تدريبك الأولي في الطب الباطني والأمراض العصبية قبل أن تتوجه بالكامل نحو الطب النفسي.
٠ المحيط الثقافي للطب النفسي يختلف تماماً عن فروع الطب الأخرى من ناحية الممارسة والتفاعل مع الزملاء من الممرضات، والمعالجين النفسيين والباحثين الاجتماعيين. لذلك يحتاج الفرد إلى فترة زمنية يتأقلم خلالها على الطب النفسي. بعض الأطباء لا يتأقلم لمحيط الطب النفسي وقد يترك الاختصاص بعد ستة أشهر.
٠ الطب النفسي لا يخلو من التحديات التي تواجه الكثير من الأطباء في مختلف الاختصاصات، وربما هذه التحديات في الممارسة المهنية أشد من بقية الاختصاصات. هناك الانتحار على سبيل المثال وهو كابوس يلاحق الطبيب النفسي أحياناً. لذلك لابد من تنظيم الوقت والحرص على عمل البحوث العلمية في مجال معين من الاختصاص. هذه الفعاليات لها جوانبها العلاجية الإيجابية للطبيب نفسه.
٠ لا يخلو الطب النفسي كذلك من مكاسب مادية في الغرب لتداخله في القضايا القانونية أكثر من غيره من الفروع. لكن هذا العامل لوحده لا يعني شيئاً مقارنة بشعورك بالرضى والسعادة من خلال تجاوز التحديات المهنية.
٠ أما مسألة الحصار المعرفي (الوسواس) فلا تقلق منها وترى الكثير من الأطباء يميلون إلى اكتساب صفات شخصية حصارية (وسواسية) حرصاً على الدقة في العمل.
٠ إن كان لديك استفسار آخر فلا تتأخر.
وفقك الله.
واقرأ على مجانين:
الدكتور أحمد والطب النفسي
أحببت علم النفس والطب النفسي
دراسة الطب النفسي
اختصاص الطب النفسي للبنات
أنا... والطب النفسي... والصور !! م
التعليق: هل أستطيع التواصل مع صاحب المشكلة ؟؟