من الاكتشافات العشرة لسنة 2009
ألم الطفولة الذي يتبعنا في الكبر
الأطفال المعتدى عليهم هم أكثر عرضة لوضع حد لحياتهم في مرحلة الرشد. والسبب، هو أن الصدمات التي تعرضوا لها في صغرهم تبقى مسجلة في دماغهم.
كان محكوما عليهم باليأس. يأس عميق، شديد لدرجة أنهم عندما صاروا كبارا، لم يعودوا قادرين على مواصلة العيش: فالانتحار.
اكتشف باحثون من مونتريال، أن الانتحار كان مكتوبا في أدمغة هؤلاء الرجال ذوي طفولة مطبوعة بفترات قاسية من سوء المعاملة. "لقد لاحظنا في أدمغة الرجال المعتدى عليهم خلال طفولتهم، علامات لا تظهر لدى الرجال الذين لم يكونوا ضحايا التعنيف في السن المبكرة"، يفسر غوستافو توريكي، وهو طبيب نفسي في معهد الصحة العقلية "دوغلاس" في مونتريال، ومدير الفريق "مكغيل" للدراسات حول الانتحار.
علامات جينية بؤرية
للتبسيط، لنقل أن هناك علم جديد للجينات epigenetics يدرس كل ما يمكن أن يغير، ليس جيناتنا بالذات، ولكن تعبيرها. وهكذا، فإن سوء المعاملة قد تحد من تعبير بعض الجينات التي تلعب دورا أساسيا في مقاومتنا للإجهاد.
وكانت نتائج الدراسة، التي نشرت في مجلة "Nature Neuroscience" في مارس 2009، والتي شارك فيها أيضا الباحثون مايكل ميني، موشيه سيزيف، باتريك مكغوان، قد أحدثت ضجة كبرى. لأنها تنير بشكل غير متوقع ما يلاحظه الأطباء والأخصائيون النفسانيون منذ فترة طويلة في دواخل عياداتهم. "للصدمات المبكرة تأثير كبير على العلاقات البين الشخصية في سن الرشد وعلى القدرة على التغلب على الصعوبات. نحن نعلم أن بيئة معينة سلبية في بداية الحياة تزيد من خطر الانتحار"، يقول الدكتور توريكي.
في مختبر آخر لمعهد دوغلاس، يدرس مايكل ميني، مدير برنامج البحوث حول السلوك والجينات والبيئة في جامعة ماكغيل، أثر رعاية الأم على نمو الصغار؛ صغار الفئران. فقد أظهر في عام 2001، في المجلة السنوية لعلم الأعصاب Annual Review of Neuroscience، أهمية اللعق، الملاطفة والعناق لهذه القوارض.
مثل البشر، تحب الفئران من يدللها ويلاطفها. هذه الاحتكاكات البدنية المتكررة ليست فقط ممتعة؛ بل إنها تعدهم لمواجهة الحياة. وهكذا اكتشف مايكل ميني أن صغار الفئران التي تم لعقها كثيرا من أمهاتها تستجيب للإجهاد بشكل أفضل بكثير من تلك التي... لم تلعق كثيرا.
في المنطقة الدماغية &ndashالهيبوكامب (فرس البحر أو قرن آمون Hippocampus)- تخرج الأمور عن النظام. فهذه البنية الدماغية الصغيرة تلعب دورا هاما في كيفية تفاعل الفئران (والبشر) مع المواقف العصيبة. لأن الهيبوكامب يحتوي على كميات كبيرة من مستقبلات glucocorticoid، هذه الهرمونات التي تغرق جسمنا بمجرد وقوع حالة منذرة بالخطر.
"لدى الجرذان الصغيرة التي لم تتلقى الرعاية المستمرة من أمهاتها، الجين الذي يشفر مستقبلات glucocorticoid يتمظهر أقل بكثير مما لدى الجرذان الأخرى"، كما يفسر مايكل ميني. كل شيء يحدث كما لو أن أجسامهم لم تكن قادرة على الاسترداد. لدى أدنى تنبيه، أنه الذعر!
حسنا، هذا بالنسبة للفئران. ولكن ماذا عن البشر؟ لإعادة تجربة زميله، كان في حوزة غوستافو توريكي مواد كثيرة للاختيار: مئات من الأدمغة، محفوظة جيدا في الطوابق السفلى المتاهية لمستشفى دوغلاس.
يلفحك البرد على الفور عندما تدفع باب هذا المستودع الغريب. ذلك لأن البضاعة ذات قيمة، هشة، ويجب أن تحفظ في أفضل الظروف. "يتم الاحتفاظ فيها في مجمدات عند 80 درجة مئوية تحت الصفر، ما يقرب من 1000 دماغ وهبها رجال ونساء للعلم"، توضح روث ساويكي، حارسة هذا المصرف، مصرف "الذهب الرمادي"، وهي تلوح بمخيخ مجمد في كيس تجميد.
ولم يكن لنسبة لا بأس بها من هذه الأمخاخ أن تصل إلى هناك لولا تعاون مكتب الطبيب الشرعي. ما يقرب من 200 عينة تم جمعها من أشخاص وضعوا حدا لحياتهم تشكل بنك حالات الانتحار للكيبيك. ففي المادة الرمادية لهؤلاء الأشقياء حاول توريكي وزملاؤه الإجابة عن أسئلتهم المقلقة. "لقد درسنا 36 دماغا:
12 كانت لأفراد الذين تعرضوا لسوء المعاملة خلال طفولتهم، وانتحروا في سن الرشد؛
12 لأفراد أقدموا على الانتحار، لكنهم لم يتعرضوا لسوء المعاملة؛
و 12 لأفراد دون تاريخ من سوء المعاملة، توفوا نتيجة مرض أو حادث".
ولمعرفة أي من هذه الأدمغة حياة راشدين ضحايا سوء المعاملة في الطفولة، أجرى الباحثون مقابلات مطولة مع أقارب المتوفين، ثم عملوا على تقاطع معلومات السجلات الطبية، مكتب الطبيب الشرعي، وفي بعض الحالات، مع مديرية حماية الشباب. وهكذا أعادوا تشكيل طفولة هؤلاء الرجال.
بقي تقطيع الأدمغة إلى شرائح، وتعريضهم لمختلف المعالجات في المختبر، ومراقبة سلوك هذا المستقبِل المعني. ليس هناك أدنى شك: لدى جميع أفراد الاختبار الذين تعرضوا لسوء المعاملة في طفولتهم، يعمل مستقبل glucocorticoid بحركة بطيئة.هذا ما يهيء لمواجهة التعاسات في هذه الحياة!
وتفتح الدراسة التي أجريت في مونتريال &ndashوإن كانت على عينة محدودة- آفاقا واسعة، وتعد بالحسم النهائي في الجدل القديم بين دور البيولوجي والاجتماعي في نمو الأفراد. "الطب النفسي هو مجال جد منقسم منذ الخمسين سنة الماضية، يشرح غوستافو توريكي. هناك أولئك الذين يؤكدون على الجانب البيولوجي من الاضطرابات النفسية: إنها وجهة نظر قطعية جدا لرؤية الأمور . وهناك المقاربة السيكولوجية التي تولي أهمية أكثر للعوامل الاجتماعية وإلى أحداث الحياة. أعمالنا تسمح بإقامة حوار بين الجانبين".
جاءت دراسة معهد دوغلاس لتذكر خصوصا بالأدلة العلمية الأضرار التي تلحقها الطفولة الصعبة. ولكن هذه الملاحظة ترافقها أنباء جيدة فعلا إذ يوضح مايكل ميني "تشير دراساتنا إلى أن التغيرات الجينية قد تكون قابلة للعكس". بواسطة علاجات ملائمة، وربما يوما ما بعلاجات دوائية. فيما يؤكد "في مجال السرطان، بدؤوا العمل بالفعل على عقاقير من شأنها أن تعكس الآثار الجينية من خلال تفعيل أو تعطيل بعض الجينات"، قال الدكتور موشي سزيف دائرة الصيدلة لجامعة ماكغيل، أحد الأعلام في مجال علم epigenetics.
يدعونا هذا العلم الناشئ قبل كل شيء إلى إعادة النظر في وجهة نظرنا اتجاه مصير الأفراد. وأضاف "بالتأكيد، يبرمج علم الجينات نمونا، ولكنه ليس كل شيء. مصيرنا ليس مكتوبا في جيناتنا"، يعتقد مايكل ميني. حتما، لا تحسم كل الأمور قبل ست سنوات!
شوكة.. مسمار... ماذا؟ الحمض النووي لدينا غير قابل للتغيير، ولكنه يخضع ل"تأثيرات" خارجية تستطيع تغيير حياتنا!
لو افترضنا أن جسمنا هو منزل كبير، فإن الجينوم (التراث الجيني) هو التصميم الأساسي. فيما epigenome، هو رئيس ورشة العمل؛ إنه هو الذي يعطي التعليمات، مبينا للجينات ما يجب القيام به، في أية خلايا عليها العمل ومتى.
إلا أن المشرف قد يساء نصيحته، ويقرر تغيير التعليمات أثناء البناء. نفس الأمر ينطبق على أجسامنا: صدمات الطفولة، ولكن أيضا التعرض الطويل الأمد للإشعاعات أو المواد الضارة، يمكن أن يؤثر على تعبير جيناتنا. هذه التأثيرات يتم استشعارها خلال عملية تدعى méthylation، التي يتم أثناءها تغيير الطلاء البيوكيميائي لجيناتنا. كلما كانت تجارب الصدمات أو التعرض للمواد الضارة مبكرة، كلما كانت هذه العملية أكثر أهمية. وكلما كانت هذه العملية للجين هامة، كلما قل تعبير هذا الجين.
لقد كنا نعرف فيما قبل بالفعل أن هذا الصمت يمكن أن يسهم في حدوث أنواع معينة من السرطان؛ الآن، نعتقد أنه يمكن أن يؤدي إلى الانتحار.
المصدر: مجلة quebec science عدد فبراير 2010
واقرأ أيضاً:
التحرش الجنسي بالأطفال / تحرش جنسي Childhood Sexual Abuse