هل هناك فرق بين انتحار المصريين وانتحار غيرهم؟!
نعم. الإجابة صريحة وسريعة وقاطعة أياً كان الانتحار واحد، عام، كوني، ومسألة نفسية اجتماعية معقدة للغاية تعم على البشر جميعاً. فهو ليس جديداً. لكن المؤشرات تدل على ازدياد نسبته واتخاذه شكلاً عنيفاً تراجيدياً عميقاً يشق الصدر ويقطع القلب. ولم يعد الأمر نادراً ـ مثل زمان ـ حيث كان باعة الجرائد من الصبية والمراهقين يجوبون المحطات والطرق يصرخون بأعلى صوتهم (انتحار رئيس الحيّ) (انتحار شاب غرق في النيل). ولم يعد المشهد هكذا، كمن الصبية وباعة الجرائد في زواياهم وعلى أرصفتهم تتناثر أمامهم كتب رخيصة، عيونهم زائغة، مكتئبون يبيعون جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم (من غير نِفس).
وعلى الرغم من أن البعض مازال يرى الانتحار في مصر غريباً وغامضاً، إلاّ أن المصريين صاروا يتلقون تلك الأخبار ببساطة أو بفزع مؤقت، أو بانزعاج عابر، ثم يندمجون فيما كانوا يفعلونه، تلهيهم الحياة الدنيا، وتصبح تلك الأخبار (مضغة) انتهى طعمها، بمعنى آخر صار انتحار المصريين مثل اكتئابهم، مثل الفساد، مثل التوتر الاجتماعي، كالظلم والقهر والقتل (أشياء تحدث)... نُزعت عنّا الحساسية تجاهها ـ وللأسف ـ لا نفعل أي شيء تجاهها، لا ندرسها، لا نحقق في أسبابها، ولا نتعمق في دوافعها.
نراها ببلاهة منقطعة النظير ـ نشاهدها كمسلسلات رمضان، ثم ندير أوجهنا إلى نواحٍ أخرى، (نبحث عن لقمة العيش) أو (نستمرئ السرقة والفساد)، أو (نربي عيالنا) أو (نشيش علي قهوة في حي شعبي أو في كوفي شوب في حيّ راق)...
فمن انتحر لأن زوجته (تعزم) ناس كتير على الإفطار، ينطبق عليه المثل القديم (حجة البليد مسح التختة)، حجة البليد هنا هي الهروب من الحياة، مخاصمتها للأبد، هل كان يائساً بائساً تحيّن الفرصة للموت، أم أنه بالفعل (مرتبط جداً بالحياة، ومتفاعل معها)، وأن مخه نصفين، (نصف في البطاطا في الباي باي يعني) كما قالت طالبة جامعية لا يتعدى عمرها (19 سنة)، والنصف الآخر (في الفطار، ومراته، والمعازيم)، النصفين منفصلين عن بعض تماماً. إذن فهل هي حجة، ذريعة وأن (المنتحر) هنا أو هناك عنده أسباب أخرى (دفنت معه) ولا نعرف إلاّ المحيط بها من خارجها، ما نشرته الصحف وما تبادله الجيران والجورنالجية.؟!
انتحر (عبد الحميد شتا) لعدم قبوله في قسم التجارة الخارجية رغم تفوقه لأن أصله الاجتماعي (لا يليق). وأثار انتحاره الكثير من الجدل على صفحات الصحف، وكان بحق شهيد (الصراع الطبقي) المحسوم لصالح (النخبة) ومجتمع (رجال الأعمال الجدد) و (اللصوص). أما شوقي عبد الكريم ـ رئيس حيّ شمال الجيزة(المنتحر في 31/ 10/ 2004)، لم يكن انتحاره الأول أو الأهم. لأن الانتحار اليومي للمصريين قد صار كثيراً و (معتاداً).أو كما وصفه هاني يونس (مسلسل كئيب). (الأهرام 5/ 11/ 2004)
نبحث له عن كلمة النهاية قبل أن يكتب بنفسه"نهاية" حياة المصريين. ولنتأمل سوياً بعض مظاهر ذلك الانتحار المعاصر لأن معظم تلك الحالات تبدو على السطح (تافهة)، فهناك من انتحر لفشله في دفع تكاليف إصلاح سيارته، وزوجة شابة تنتحر لعدم قدراتها على رعاية أطفالها الخمسة، وآخر لعدم توفيره نفقات الزواج، وأمين شرطة يطلق الرصاص على نفسه أثناء التحقيق معه، وطالبة تلقي بنفسها من الطابق السادس لفشلها في مادة دراسية، وشاب ينتحر في اختبار القيادة للحصول على رخصة و... (الأهرام 5 نوفمبر 2004)
إذن ما الذي يدفع بالإنسان المصري إلى حافة اليأس؟! هل بأيدينا ـ الآن ـ أن ندقق ونبحث وندرس كيفية (الوقاية) من هذا الموت الفظيع، الإنقاذ مما سيحدث مستقبلاً. من ذا الذي يقتل نفسه؟ فلسفياً وإكلينيكياً يجب أن نفرق بين حالتي (الاضطراب والتشوش) كما اضطراب الجرم السماوي في حركته المدارية بسبب قوة أخرى غير تلك المسئولة عن دورانه المنتظم، وحالة (الموت المحتوم)، أي الفناء.
على عكس ما يبدو ظاهرياً أن المصري فوضوي وعشوائي، فإنه منتظم الإيقاع جداً، مثلاً ـ بائع الفاكهة في حركة يده المنتظمة لتنسيق الفواكه وتلميعها وإلقاء الضوء عليها والدعاية لها هناك انتظام، ملل الحركة على مقاعد الموظفين، رتابة الدخول والخروج إلى وسائل النقل العام (أتوبيسات، مترو أنفاق، وغيرها)، الناس في سيرهم في الشوارع (خلف خلاف) تحس بأن هناك ـ بالفعل انتظام داخلي ـ أو في أحوال كثيرة (فوضى منتظمة).
هنا إذا اختلت الموازين وفقدت الروابط الغير مرئية، انفرط العقد، ارتبكت النفس، اضطربت بشدة، سيطر الألم النفسي على النفس والجسد، زاد التشوش، دفع بالإنسان المصري إلى حافة الموت دفعاً. السؤال الحيوي هنا: هل كان بإمكاننا (مجتمع، نظام حياتي، سياسي، اقتصادي) أن نطوّع من شخصية هؤلاء المنتحرين؟! وهل نتمكن من ذلك مستقبلاً لمن هم في دائرة الخطر؟!
هل يمكن إقناع ـ المصري ـ المحبط اليائس الفاشل المنهار بأن (يعيش) على أمل أن يتغير واقعه أو يتغير هو، أو أن يظل على حافة الحلم منكسراً مكسوراً ملوحاً براية مقطوعة منتظراً (جودو)..؟!
هناك فلسفة تكاد مشتركة بين كثير من المنتحرين (إذا ماكنتش نافع لنفسي هايبقى نافع لمين قلت أحسن. ها ستريح واريح... ) هُبُ.. تنطلق الرصاصة، يتم القفز من البلكونة، السقوط إلى قاع النيل، الموت. تقول لنا الإحصائيات الصادرة عن أجهزة الأمن (2003ـ 2004) أن ثمة (3000 بلاغ) انتحار عن حالات انتحار أغلبها شباب تتمحور أسبابها حول اليأس المطلق، البطالة، وقلة الحيلة.
يقول الطاهر بن جلون على لسان بطله في روايته الشهيرة (المرتشي) وأحياناً تُعنون بـ (المقصوم) (لا أتمنى أن أكون مرتشياً بلا تجاعيد)، كناية عن أن معظم المرتشين إن لم يكن كلهم، (لا يحسون) وأن كل الفاسدين (خنازير تثغى في المرعى لا تحس ولا تتألم).
انتحار المسئولين في مصر نادر، وانتحار الفاسدين في مصر مستحيل، المنتحرون من الغلابة، الفقراء والمجانين ومن يختبرون لعبة الحياة والموت بنصل سكين، طلقة رصاص أو اختبار قانون الجاذبية لنيوتن بالقفز من أعلى حلماً بجناح بعوضة تحمل الهم والغم وعذابات الأيام، ثم الارتطام بالإسفلت أو بالسيارة العابرة أو الوقوع على أرض من رواها الجنايني ليرعرع شجر الياسمين، وليغني الأولاد البنات في الشارع المشوه الملامح (خُشوا هنا تحت الياسمين... لما نشوف مين يغلب مين؟!) السمك الكبير يأكل السمك الصغير في الماء؛
وجمعية أهلية يؤسسها الوطنيون مشروعها العظيم طبع مبادئ حقوق الإنسان على ظهور كراسات أولاد المدارس وهم بالعافية يتهأجأون الألف والباء، تلفهم حيرة غريبة ويسودهم اكتئاب الطفولة الذي ما يفتأ إلاّ ويكبر معهم ويسكن بيوتهم نعم وينتقل معهم إلى بيوتهم الجديدة.....
هل نتمكن فعلاً من فحص الحالة الخاصة للمصري المنتحر؟! نتأمل سلوك المنتحر، ربما في خضم مجموعة من التفسيرات (منها الاستعداد البيولوجي) ذلك السّر الكامن في بحر الكيمياء العصبية للمخ (عمليات اتخاذ القرار وتنفيذه)، والغارق في بركة الدماء.
وهناك ردود الفعل للإذلال (تليفونات غريبة وأخرى من معروفين، حَدّ مالك مالكة، أوراق ومستندات تؤكد فضيحة ما، عجز، يأس، ذنب، محاولة لتمييع فضيحة ما أو دفنها، التلاعب بمشاعر الآخرين)، الهروب من ألم جسدي ونفسي أو أحدهما، انتحار دراماتيكي يعبر عن ثورة غضب فظيعة، وربما تمني للموت، نجده كثيراً في الحياة اليومية المصرية بدءاً من بعض الأطفال، مروراً بالمراهقين، ستات البيوت، ناس على هامش الحياة بلا هدف وبلا عمل، تمني للموت ينتهي بالوصول إليه عشقاً وتحقيقاً للحلم، لعباً لدور الضحية (مات يا حسرة عليه... موت نفسه. انتقم منها ومنا ومن الناس ومن الدنيا. خَلّص على نفسه وخَلّصْ الحكاية)...
هي ومضة يأخذ منها المنتحر القرار النهائي على أرضية بيّت لها النية،في محاولة للرد على العنف المتوالي المتراكم عليه، لدفع الذل والمهانة بعيداً وللأبد ،(تخيل واحد بيدّيك على قفاك (عملياً أو معناه)، يبصق عليك، يقلل من شأنك، القليل أصلاً، يسبك بأمك وأبوك، لا يقدر قيمتك ولا قيمة جهدك فيسرق عرقك وفلوسك، يضربك وبالشلّوت يطلب منك كالقرداتي أن تعمل له عجين الفلاحة وأن تنام نوم العازب كالقرد الأحمر المؤخرة، ماذا لو أخذ منك لقمتك المغموسة بالعرق والدم رجل يلبس الجوانتي الجلد الأبيض ويدخن السيجار الكوبي؟!
هي سلسلة تتصارع فيها القوى، تختلط فيها الرؤى وتتناوب على النفس غير المستقرة العواصف والرياح التي تأتي دائماً بما لا تشتهي السفن! نعود إلى من هم داخل دائرة الخطر، المرشحون لأن يكونوا المصريون المنتحرون القادمون: امرأة في العقد الثالث من عمرها لها من الأولاد ثلاثة، حامل، زوجها (لا بيهش ولا بينش،) عايز البيت بيلمع، وعايز الأكل طِعِم وسخن ومش بايت، عيال تصرخ بالطلبات ليل نهار، وأم عانت الأمرّين في طفولتها.
تبوأت منصباً كبيراً في شركة كبيرة، عينتها فيها (رغم أن تلك الزوجة لا تقبل الوظيفة ولا تحبها ولا تؤدي عملها بكفاءة، تم تعينها بواسطة أمها)... هذه المرأة لا تشكو بكثرة، ومن ثمّ فهي تبصق كثيراً، ولما سألها طبيبها النفسي هل تبصقين على الدنيا، الناس، الظروف، صرخت قائلة: لا.. أنا بالفعل أبصق على نفسي (ما أضيعني.. أنا كالضفدع في الأرض الخراب.. كالبصقة يوم المطر)..؟!؟!
ولما تسألها عن الموت، تطرق في هدوء وتقول: أتمناه لكن فكرته مرعبة (يعني إيه.. يموت النبي الآدم، يواري التراب، يودع بطن الأرض، ثم يترك هكذا وحيداً، يتركه الناس ويسعون في الأرض!!)... تزور معالجتها النفسية ترشدها أن تنحي البصقة بعيداً، وأن تحاول التركيز على مظهرها، تخرج مع ابنها، تشتري له هدية العيد، يراها زوجها في شكل آخر، يسخر منها، ويهزأ منها، تحاصرها أمها وزوجها: اهتمي بشغلك. اهتمي بالبيت. اهتمي بالعيال. (كيف تتمكن من ذلك وهي من ذلك وهي لا تهتم بنفسها) هي في دائرة الخطر.
أمريكا تضرب العراق بضراوة، تقيم المجازر في الفلوجة وغيرها، تطلق النار على المسلمين الجرحى داخل المساجد، تعذب السجناء في سجن أبي غريب وتتسرب الصور، الناس في مصر تكره أمريكا، بنت قبطية لم تبلغ العشرين من العمر. في لحظة محددة يتركز تفكيرها على أن (أمريكا مسيحية) وأنا (مسيحية)، وأغلب الناس في مصر مسلمون يكرهون أمريكا لكل ما تفعله وما ستفعله، إذن سيكرهونني لأنني مثل أمريكا.. ورغم الشرح والتفسير، تقع البنت أسيرة السياسة والخطر. لكن (قتل النفس بيد صاحبها) الانتحار، مسألة إنسانية جسيمة تحتاج إلى تفسير تحليلي نفسي عميق.
عموماً هناك أربعة خصائص هامة علينا تحديدها:
1ـ التشوش الذهني والارتباك (الذي أشرنا إليه سابقاً)، يأتي في صورة حادة ويؤدي إلى تعب شديد.
2ـ ازدياد العداوة للحياة وللذات، ازدياد كره النفس وعدم الرضا عنها وازدرائها، الإحساس بالخزى والعار، تأنيب النفس وارتفاع درجة السلوك المزعج الكاره لكل شيء وغير القادر على الاستمتاع.
3ـ فجأة، يحدث اختناق حاد لمسارات الذكاء واستخداماته وتركيزه فلا يتمكن الإنسان من حرية التصرف، تضيق به السبل، وتزدحم كل عملياته الذهنية في نفق معتم وطويل مما يؤدي إلى تضيق الخناق على العقل، وبتر القدرة على رؤية الاختيارات والبدائل للأزمة الحالية.
4ـ فكرة (التوقف) نهائياً عن الحياة كمخرج وخلاص من كل الآلام والمشاكل، هنا نجد أن المنتحر (غالباً أن ذلك قريب من حالة رئيس حيّ شمال الجيزة) يرى أن المسألة انتهاء دور إنهاء موقف، خلاص، كفاية كده، سأعتم الغرفة بإرادتي، سأنهي شعوري وإحساسي (بيدي لا بيد عمرو)، هذا العامل بالتحديد هو الديناميت المفجر لاختناق العمليات الذهنية العاقلة، كره النفس والناس وحالة التشوش الذهني والاضطراب النفسي.
تلك (تنطلق الرصاصة، وتبلع كميات الأقراص، يُسكب البنزين، تشتعل النار، أو يُلقي الجسد من النافذة أو الكوبري)، وقد ينحر الإنسان نفسه نحراً – أي لا ينتحر عمداً – بل يترك نفسه ليموت, يخاصم الحياة تماماً, يهجرها في روحه, فتموت روحه, يجهد نفسه جداً, يأكل من غير نفس, ويهيم علي وجهه كالآلة دون هدف يستمريء العذاب ولا يحس بقيمة الفلوس, لا يطمح ولا يطمع ولا يرجو غير الموت فيأتيه بالراحة وفي هدوء زاحفاً علي قلبه يوقفه... تماماً .
وللعجز المكتسب أهمية قصوي باعتباره مقدمة للانتحار, فالإحباط والفشل وعدم القدرة علي تحقيق الذات دوماً واستمراراً، يكسر الظهر ويقصم النفس ويحطم العظام، يخلق أشباحاً لا تدري بأي أرضٍ تموت: لا أمل لها ولا مخرج وأحياناً ما يكون الموت انتحاراً غير مقصود وكان – مثلاً – البنت التي ضاقت بها السبل في بيت به أب عاطل ضيع ثروته في الغربة في مشروع فاشل (كما نري في الحياة حولنا) والتي لا تري نفعاً من دراستها, تدخن تجاهد كي تكون مقبولة, تسأل ذوي الخبرة دلونيً كيف أكون مغرية, وكيف أكون مومساً عندي فلوس كثيرة.
طيب ها جرب إغراء الرجال اللي بيتد لقوا علي أي حاجة.ما ينفعش عشان أنا وحشة وعبيطة. مثل هذه البنت من الممكن أن تحاول الانتحار جذباً للإنتباه أو علّها تصرخ للنجدة والمساعدة. هنا علينا الإنتباه إلي أن هناك (ملاوعة) و (تلاعبَ) بمشاعر الآخرين وخلق حالة من (المشي علي قشر بيض).
اقرأ أيضاً :
المصريون والاكتئاب / المصريون والعفاريت(1) / سر الخلافات الزوجية المتكررة / المصريون والتعليم / السيكودراما الحديثة في القاهرة