مقدمة:
تعتبر قضية المناهج الدراسية أكثر القضايا المطروحة حاليا على الساحة الدولية حساسية إذ أنه من حق كل دولة أن تختار بحرية ما ترغب في تدريسه لتلاميذها من تاريخ ومواد قومية دون تدخل من أي طرف خارجي أو أجنبي، ولكن مع التقدم والانفتاح في ظل العولمة والثورة المعلوماتية والانترنت أصبحت المعلومات التاريخية في متناول الجميع ولم يعد باستطاعة أحد أن يدون في كتب التاريخ المدرسية معلومات غير مطابقة للواقع وللحقيقة أو أن يقوم بتحريف الوقائع أو تشويه صورة العدو أو تفخيم صور بلاده أو تزييف الإحصائيات والخرائط الجغرافية.
وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ في معظم دول العالم لنتعرف على ما ذكرته عن تاريخ "الآخر" لوجدنا أن معظم الدول تشيد بتاريخها المجيد وتندد بتاريخ الآخر وتشوهه عمدا وبدون عمد، وقد عكف كثير من خبراء التربية والتعليم على دراسة المناهج الدراسية في مختلف دول العالم للتعرف على الصورة التي تعطيها تلك المناهج في بلد ما عن الآخر في بلد مختلف، وقد خلص الباحثون والمتعمقون في دراسة كتب التاريخ في مختلف دول العالم إلى وجود ظاهرة أطلقوا عليها مصطلح ethnocentrisme أي المحورية العرقية وقد وصف الباحث الأمريكي وليم سومر هذه الظاهرة بأنها"نزعة في الإنسان لجعل قومه وعشيرته محور كل شيء ويقاس كل الآخرين بالنسبة له.. فكل شعب يشيد بتفوقه ويمجد ويفخم معتقداته ومقدساته وينظر باحتقار إلى الآخرين."
وهذه الظاهرة تبدو بوضوح في كتب التاريخ الأوربية وقد أطلق عليها الباحثون مصطلحeurocentrisme أى المحورية العرقية الأوربية التي تجعل من أوربا محور العالم وتجعل كل الدول والشعوب تدور في فلك أوربا. وتؤكد هذه الكتب المدرسية على أن أوربا هي مهد الحضارة والثقافة والتاريخ وأن تاريخ الشعوب والدول الأخرى يكتب ابتداء من تاريخ أوربا أي أن أهم إحداث التاريخ العالمية تجرى بمحاذاة ومواكبة تاريخ أوربا.
ويصطدم دارس كتب التاريخ الأوربية بهذه الظاهرة منذ الوهلة الأولى حيث يلاحظ أن المناهج الدراسية لا تعرض ما جرى من أحداث تاريخية هامة في دول الجنوب وعلى الأخص في دول الشرق الأوسط وفى أفريقيا وأسيا لأن الاهتمام كله منصب على أوربا وتاريخها القديم والحديث، أما الأحداث الهامة التي هزت الأمة العربية والإسلامية مثلا فيتم إغفالها تماما ويتم التركيز فقط على بعض الأحداث ذات الأهمية والتي تبرز تفوق أوربا وانتصارها على المسلمين؛
وهكذا ينشأ المواطن الأوربي منذ صغره على فكرة أن الآخر أي العربي أو المسلم أقل شانا من الأوروبي وأنه لا يستحق أن نهتم به ولا أن ندرس تاريخه إلا لمما، أي بعض المعلومات الأولية، وحتى هذه المعلومات الطفيفة تكون دون أن تأخذ في الاعتبار التغييرات الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية للدول العربية والإسلامية ولشعوب وحياة هذه الشعوب، وتعد هذه الظاهرة نوعا من رفض الآخر أي العربي المسلم المختلف عن الأوربي وعدم قبول التعارف عليه وعلى مكونات هويته وعلى دوره في تاريخ وحضارة العالم وقيمة هذا الدور.
ونجد هذه الظاهرة مع بعض الاختلاف في المناهج الدراسية الأمريكية، أي في الولايات المتحدة الأمريكية وفى كندا، بل نجدها في المناهج الدراسية أيضا في استراليا، وبالرغم من أن تاريخ هذه الدول يعتبر حديثا بالنسبة لتاريخ الدول الأوربية وأيضا بالنسبة لتاريخ الإسلام والمسلمين حيث لم تدخل أمريكا التاريخ إلا في القرن السادس عشر وكذلك الحال بالنسبة لكندا فهي تعتبر شمال القارة الأمريكية وكذلك الحال بالنسبة لتاريخ قارة أستراليا.
والمناهج الدراسية في هذه الدول لا تعطى لتاريخ الإسلام والمسلمين الاهتمام اللازم وتعطى صورة عتيقة ومشوهة عن الإسلام والمسلمين ربما تكون منقولة عن المناهج الدراسية الأوربية مع بعض التعديلات الطفيفة.
أما في الدول العربية ومعظم الدول الإسلامية فإن المناهج الدراسية تعطى اهتماما كبيراً للتاريخ الإسلامي وعادة ما يبدأ منهج التاريخ بتاريخ البشرية أو بتاريخ آدم عليه السلام ثم تاريخ إبراهيم عليه السلام ثم ظهور وانتشار الإسلام، ولا يأتي ذكر الآخر إلا عند غزوات الرسول ضد يهود المدينة فيصبح الآخر هو اليهودي الخائن الذي نقض العهد مع الرسول (صلعم) فاستحق أن يحاربه الرسول وأصحابه، ثم يأتي الدور على المسيحي عند سرد الفتوحات الإسلامية الأولى وخاصة فتح مصر والشام وفلسطين فيتم ذكر الروم البيزنطيين الذين كانوا يحتلون هذه البلاد ويسيئون معاملة أهلها قبل دخولها الإسلام.
ومن ثم يتعرف التلميذ المسلم لأول مرة على المسيحى الظالم الذي أصبح فيما بعد هو اليهودي يعرفون بأنهم من أهل الذمة ثم مع تقدم منهج التاريخ يصبح الآخر هو الأوربي المستعمر حيث يتم تقديم الأوربيين على أنهم المستعمرون والمحتلون الذين جاءوا من أوربا في القرن التاسع عشر للاستيلاء على خيرات البلاد العربية والإسلامية؛
وهكذا ينشأ التلميذ المسلم منذ الصغر وقد نقش في ذهنه أن الآخر هو اليهودي والمسيحي والأوربي ثم بعد ذلك الأمريكي والصهيوني وهذا الآخر المتعدد الأسماء هو العدو الذي شوهت صورته عن قصد أو غير قصد عبر الأحداث التاريخية.
وقد اهتمت كثير من المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية مثل المجلس الأوربي في ستراسبورغ ومنظمة اليونسكو في باريس ومنظمة الإيسيسكو في الرباط ومعهد جورج إيكارت أنستيتوت في ألمانيا ومكتب التربية الدولي في جنيف بقضية تنقية المناهج الدراسية وتم عقد المؤتمرات والندوات وتكليف الخبراء والأخصائيين في مجال التربية والتعليم بإجراء دراسات عن كيفية تنقية المناهج الدراسية من الشوائب السلبية التي تشوه صورة" الآخر" ومن القوالب النمطية ومن الأفكار المسبقة ومن الخلط بين الحقائق والوقائع التاريخية وبين الخزعبلات والاختلافات المغرضة التي كانت الأمم تقوم بترويجها في الماضي لتشويه تاريخ الآخر والإشادة بتاريخها فقط وقد وضعت منظمة اليونسكو معايير لتقييم المناهج الدراسية في العالم تتلخص في ثمانية أسئلة هي:
1- هل المعلومات الموجودة صحيحة وكاملة؟
2- هل الخرائط والصور والرسومات البيانية صحيحة ومحدثة؟
3- هل تم الاعتراف بإنجازات الآخرين؟
4- هل يتم تطبيق معايير متساوية؟
5- هل يتم عرض الخلافات السياسية بموضوعية وأمانة؟
6- هل تم تلافى تعبيرات إنشائية يمكن أن تؤدى إلى خلق أفكار مسبقة وسوء فهم نزاعات؟
7- هل يتم الإشادة بقيم الحرية والكرامة والأخوة؟
8- هل يتم إبراز ضرورة التعاون الدولي وتكوين قيما إنسانية مشتركة وتقدم قضية السلام وتطبيق القانون؟
ومن المؤسسات التي تهتم حالياً بالمناهج الدراسية وتقييمها مركز تقييم تأثير السلام في الولايات المتحدة الأمريكية center for monitoring the impact of peace ) cmip) وهذا المركز يهتم بتقييم المناهج الدراسية في الدول التي انخرطت في مبادرات السلام وقعت على اتفاقيات للسلام سواء في كامب ديفيد أو أوسلوا آو العقبة لإقرار السلام في الشرق الأوسط وهى مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل وقد أضاف هذا المركز سبعة معايير أخرى لتقييم المناهج الدراسية لإقرار السلام في تلك الدول وهى سبعة أسئلة أيضا:
1- هل يعترف طرف الطرف الآخر؟
2- هل يتم قبول الآخرين؟
3- هل يتم احترامهم؟
4- أو هل هم ضحايا أفكار مسبقة وقوالب نمطية؟
5- هل التربية تشجع السلام؟
6- هل تؤيد التربية مبادرة السلام؟
7- هل هناك وسيلة لتحسين ذلك، للوصول لأفضل من ذلك؟
ولقد حاولنا في دراستنا للمناهج الدراسية في كل الدول الأوربية والدول العربية والإسلامية الإجابة على هذه الأسئلة من خلال دراسة كتب التاريخ والجغرافيا والتربية القومية بهذه الدول.
أولا: صورة الإسلام والمسلمين في المناهج الدراسية والأوربية:
ولقد تم تكليفنا عام1994من قبل مكتب التربية الدولي في جنيف وتحت إشراف اليونسكو بإجراء دراسة باللغة الفرنسية عن صورة الآخر في كتب التاريخ المدرسية في بعض دول البحر الأبيض المتوسط ( فرنسا وأسبانيا واليونان من ناحية ومصر والأردن ولبنان وتونس من ناحية أخرى)، كما تم تكليفنا في بداية عام 2004 من قبل منظمة الإيسيسكو بالرباط بإجراء دراسة عن صورة الإسلام في المناهج الدراسية في الغرب.
ولقد اهتممنا في الدراسة الأولى بكتب التاريخ في نهاية المرحلة الابتدائية، أما في الدارسة الثانية فقد تم التركيز على مناهج المرحلة الإعدادية والثانوية.
وقد توصلنا في الدراسة الأولى إلى نتائج توضح أن التاريخ الذي يتم تدريسه للتلاميذ الأوربيين الصغار في دول شمال البحر الأبيض المتوسط يحتوى على معلومات مختلفة تماما عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين في مدراس جنوب البحر الأبيض المتوسط، وعلى سبيل المثال فان كتب التاريخ المدرسية في تلك الدول الأوربية تعمد إلى تقديم الإسلام والرسول محمد (صلعم) بأسلوب يتفق مع المفهوم اليهودي المسيحي للإسلام. ويحتوى على معلومات تجرح شعور المسلمين.
فنجد أن نبي الإسلام (ص) يتم تقديمه على أنه رسول حرب، وأحيانا أخرى على أنه شاعر ملهم يرى رؤيا خارقة، ولهذا الغرض يستخدم مؤلف الكتاب المدرسي صيغة فعل الشك conditionnel والهدف من وراء ذلك هو زرع الشك في نفوس صغار التلاميذ في مصداقية الرسول محمد (ص).
كما يصر مؤلفو هذه الكتب الأوربية على التأكيد بأن محمد صلعم هو مؤلف القران الكريم وأنه أي الرسول ذكر فيه كثير من المعلومات والقصص المستخرجة من التوراة والنجيل لأن محمد (ص) تعرف على هذه الكتب المقدسة أثناء رحلاته مع القوافل التجارية إلى الشام حيث التقى بكثير من المسيحيين واليهود فنقل عنهم في كتابه (القرآن) الذي يقدسه المسلمون.
ولقد لاحظنا أثناء إجراء هذه الدراسة المقارنة الأولى أن المناهج الأوربية في أغلب الأحيان، تبدأ الحديث عن الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام من خلال الفتوحات الإسلامية في القرن السابع والثامن الميلادي، وكيف أن جيوش المسلمين الزاحفة على أوربا اكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، وأزلت أهلها ونهبت أموالهم وثرواتهم حتى كانت هزيمة المسلمين على يد شارل مارتال، القائد الفرنسي الذي أوقف الغزو الإسلامي في معركة بواتيه في جنوب فرنسا عام 723 م. ويتم تصوير المحاربين العرب المسلمين وكأنهم وحوش كاسرة.
ووجدنا أن هذه الصورة النطمية تتكرر باستمرار في نفس القالب المحدد قالب الغزاة المتوحشين الذين يثيرون الرعب ولا يمكن هزمهم ويشكلون تهديدا مستمرا لجيرانهم.
كما وجدنا أن المناهج الدراسة الأوربية تهتم بالحروب الصليبية وتصورها على أنها حروب كان الهدف الأساسي من ورائها هو تحرير بيت المقدس من أيدي الكفار أي المسلمين الذين كانوا حسب ادعاء مؤلفي كتب التاريخ المدرسية الأوربيين، يحتلونها ويسيئون معاملة المسيحيون الشرقيين أي المقيمين في بلاد الشرق الأوسط وأن المسلمين في فلسطين كانوا يسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا لزيارة الأماكن المقدسة المسيحية في القدس .
وهذا الوصف يجعلنا نشعر بان واضعي المناهج الدراسية من الأوربيين مصرون على تصوير المسلمين على أنهم كفار مثلما كانوا يطلقون عليهم فى القرون الوسطي، فلا يوجد اى تعليق على هذا اللفظ سوى وضعه بين قوسين ليفهم التلميذ أن هذا اللفظ منقول كما ومن مصدر ما، أي أنه citations دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسي لتصحيح هذا المفهوم الخاطئ عن المسلمين.
كما لاحظنا أن المناهج الدراسية الأوربية أغفلت تمام التنديد بوحشية الصليبيين وعدم تسامحهم مع سكان القدس حين انتزعوها من أيدي المسلمين عام 1099 بينما التاريخ العالمي والموسوعات العلمية الكبيرة اعترفت بأن الصليبين ذبحوا أكثر من70 ألف من المدنيين من أهالي القدس دون تميز بين النساء والأطفال والشيوخ أو بين مسلمين ويهود وحتى مسيحيين من أهالي المدينة المقدسة العزل من السلاح.
ومن ناحية أخرى لزمت المناهج الدراسية الصمت التام أو الإغفال التام لتسامح المسلمين الكبير حين استعاد المسلمون القدس عام 1187 على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي الذي أصدر العفو التام على كل أهالي القدس حين دخلها. وهذا إغفال متعمد لإخفاء الحقائق التاريخية التي سجلها التاريخ، وغني عن القول أن الدافع وراء هذا الإغفال المتعمد هو تشويه صورة المسلمين في ذهن التلاميذ الأوربيين والإصرار على عدم تصحيح المفهوم الخاطئ الذي ترسب في عقول التلاميذ ومازال عالقاً بها حتى اليوم.
د. فوزية العشماوي
أستاذة اللغة العربية – قسم الدراسات العربية والإسلامية
كلية الآداب جامعة جنيف سويسرا
ويتبع >>>>>>: صورة الآخر في المناهج الغربية والإسلامية(2)
اقرأ أيضاً على مجانين :
في مناهج التاريخ الأوربية.. العرب يدرسون / أوربا والإسلام في العصور الوسطي / صفحات مشرقة من التاريخ العرب