المشهد اللبناني وقد أسدل الستار عليه، وفق ما تنبئنا عنه الأيام الأولى لوقف إطلاق النار على الأقل، وإذا كان القلم قد أمسك عن الخوض فيه أثناء أوجه واشتعاله فإنما كان ذلك لضخامة المشهد، وتفاصيله وتداعياته وكثرة الأخذ فيه والرد والقيل والقال، أما وهو يشهد سيناريو الختام فقد آن لنا أن ننظر إلى مجمله لنضع على هوامشه بعض القراءات والتعليقات التي تعيننا على تفهم لحظات الحصاد التي يعيشها اللاعبون الأساسيون على مسرح الأحداث، كما تعيننا كشعوب على أن نواجه المشاهد التالية –ما بعد لبنان- ونحن أقدر على التأثير في المشهد لنصبح من النظارة/ اللاعبون على خشبة المسرح تماما مثل نظارة المسرحي البرازيلي أوجستو بوال.
العناصر الرئيسية للقصة
لا نقول جديدا إذا قلنا أن الحجر الذي حرك المياه الراكدة كان أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين وقتل ثمانية، وهو الحدث الذي تداعت من بعده ردود الأفعال من هنا وهناك وصار كطلقة كاشفة أضاءت الكثير من المساحات، على خلفية هذا الحدث وفي ظلاله جاءت تصريحات بعض الحكام العرب، ثم فتوى ابن جبرين لتكون أحجارا أخرى أثارت دوامات أخرى من الجدل، وإذا كانت شراسة رد الفعل الإسرائيلي بدا مبالغا فيه سواء في تدميره للبنية التحتية اللبنانية أو في استهدافه المتعمد للمدنيين تركيعا للبنان وشعبه، إلا أنه غير مستغرب على سلوك الصبي الصهيوني المدلل الذي يعربد في المنطقة اعتمادا على نفوذ أباه الأمريكي.
لكن الحدث الأبرز أو البطل في قصتنا كلها كان صمود المقاومة.. بل وتكنيكاتها الإبداعية في ذلك الصمود والتي أذهلت كلا من الصديق والعدو والمتأرجح بين هذا وذاك، وهو الصمود الذي بات مع طول أمده وإيلامه للعدو المتغطرس دافعا إلى تحركات بدت من الخلفية صادرة من مخرجي اللعبة وصبيانهم هنا وهناك -وبعد مرور فترة من الزمن على المشهد- ..بطيئة.. غير مبالية في البداية.. إلا أن وتيرتها ازدادت مع تطور الأوضاع على أرض المعركة لصالح المزيد من الصمود البطولي للمقاومة.. ونزيف الدماء وآليات الحرب الصهيونية، ازدادت الوتيرة حتى كادت تقارب في تلألؤ الأضواء حولها مقدار ما تجتذبه تفاصيل المشهد العسكري على الأرض حتى انتهت بصدور القرار الأممي... وابتداء تنفيذه على أرض ساحة المعركة.
حزب الله..حزمة من الدروس المستفادة
لعل خير من وما نأخذ منه الدروس المستفادة في هذه الحرب هو اللاعب الرئيسي فيها بلا منازع "حزب الله" وعلى رأسه قيادته الحكيمة ممثلة في السيد حسن نصر الله:
- أول: تلك الدروس أنه: "إذا كان عدوك نملة ما تنام له"..فحزب الله لم يتسنيم لانتصاره عام 2000، ولم يعتبر أنه نهاية غاية المراد من رب العباد، والاستعدادات المذهلة التي بدت على أرض المعركة تثبت ذلك.
- ثانيا: أن حزب الله تعامل مع الوضع بأسلوب يمزج فيه ما بين حرارة الإيمان وحماسته والتي ربما تصور للبعض أنه قادر على أن يلامس السحاب ويخرق النواميس، وما بين واقعية إتباع النواميس التي تتيح التعرف على مكامن القوة والضعف لديه ولدى عدوه، وهو ما بدا عسكريا على أرض المعركة حيث استطاع في إطار تلك الواقعية أو الصدق مع النفس أن يعظم من خسائر عدوه ويقلل من خسائره، كما بدت واقعية الحزب سياسيا في إدراكه أيضا لحجم قوته السياسية على المستويات المحلية والإقليمية فلم يبالغ ولم يقلل في هذا الحجم.
- ثالثا: أن السمة الأساسية للأداء الإعلامي للحزب هي المصداقية وهو ما جذب له احترام ومشاهدة الصديق والعدو أيضا، إضافة إلى عدد من السمات الإعلامية الأخرى والتي كان من أهمها في تلك اللقطة من المشهد اللبناني البعد عن المهاترات الطائفية التي دارت في أفق المعركة.
- رابعا: أن مسار المعركة أحيا الأمل مجددا في خيار المقاومة لدى شعوب المنطقة، بعد أن حرصت أنظمتها الحاكمة على مسحه بالممحاة طوال ما يقرب من 18 عام منذ اتفاق كامب ديفيد عام 1979، وإذا كانت الانتفاضتين الفلسطينيتين قد نفخت في روح المقاومة روحا من روحهما، إلا أن المشهد اللبناني قد دعم ذلك الأمل وعضده بطعم النصر، وإن كان نصرا مرا إلا أنه بلا شك مثار فخر للشعوب.
ملامح من تجليات المشهد
الأضواء الكاشفة التي انبعثت من المشهد اللبناني ومفاجآته الدرامية أنارت بعض النقاط بشكل جلي لا يدع مجالا للبس:
- أنه بات هناك حدا فاصلا الآن بين شعوب المنطقة (وقطاعا حتى من شعوب العالم) من جهة، وبين الحكومات العربية والغربية على حد سواء من جهة أخرى، فشعوب المنطقة طامحة إلى الحرية، وطامحة إلى التحرر من الاستبداد والهيمنة والاحتلال، بينما الحكومات العربية التي تعرت تماما كما لم تتعرى من قبل وهي تقوم بدور المكبًل للحريات والموقف للنمو ليس اضطرارا ولا عن نقص وعي، بل بوعي كامل، بينما الحكومات الغربية تسعى إلى شرق أوسط جديد منزوع الحرية ومنزوع من حركات التحرر..شرق أوسط جديد ترضى فيه الشعوب بحياة الخراف والنعاج.
- أن سياسات شق الصف وتفتيت الشعوب، هي الخط الموازي لسياسة منع الحرية، وهي السياسة التي لعب فيها ثنائي فقهاء الوهابية/ الميليشيات الطائفية في المشهد العراقي دورا "إرجافيا"، يصب باقتدار في مصلحة الأعداء المتربصين بالأمة جمعاء سنيها وشيعيها، والتي انجر فيها بعض ضعاف العقول والنفوس على هذا الطرف أو ذاك، والتي جعلت حتى العلماء (ربما تأثرا بمرارات العراق، والنقاشات الحامية في اجتماع اسطنبول) يتأخرون بعض الوقت في إعلان موقفهم المعادي لتلك السياسات، والسؤال الذي نحتاج إلى طرحه على أنفسنا هنا: هل نحن كأمة شعوبا ونخبا بيئة مهيأة لتقبل الفتن وابتلاعها بسهولة؟
- أنه لا زال في شعوبنا والحمد لله نبض حياة، وبارقة أمل عبرت عن نفسها في أكثر من شكل سواء في المتابعة الواعية حتى لدى رجل الشارع العادي والذي يتجلى بشكل أساسي في أهالينا في البيوت، وبين مرتادي المقاهي والتي بات روادها يتابعون باهتمام قناتي الجزيرة والمنار ويتناقشون بحمية كبيرة حول الأوضاع، وسواء أيضا بالتفاعل مع المشهد والتعبير عن ذلك التفاعل بالتظاهر و/أو الدعم المادي.
- المشهد كشف لنا أنه لا زالت هناك مفارقة ما بين النضال والكفاح العسكري وما يحققه من إيلام واندحار للعدو من جهة، وما بين التأثير السياسي لذلك على مجمل حصيلة المشهد، وكم كان يتمنى الناس بعواطفهم لو أن المعركة كانت معركة فاصلة يتمنون لو رأوا فيها العدو مندحرا بشكل كامل، وتمنوا لو كان النصر عسكريا وسياسيا على نفس المستوى من القوة وهو أمر غير واقعي فموازين السياسة هي موازين القوى في العالم، وأن اختلال تلك الموازين ضد مصالحنا والتي تشارك في صياغته حكوماتنا المستنوقة كما تشارك فيه الحركات النضالية كل في كفة لا زال لصالح قوى الاستكبار والهيمنة في العالم.
المشهد بين قراءة الحاضر..وآفاق المستقبل
من مفردات دورنا كنظارة/ لاعبين أن نتفاعل مع تفاصيل مشاهد القصة، وأول تلك التفاعلات:
- أن مواجهتنا مع حكومات الاستبداد ليست سياسية فقط، وأن السياسة هي مجرد سطح ساخن لسياسات طويلة الأمد منذ الاستقلال المتوهم لوقف النمو، ومنع النهضة أو وأدها واستبدال النهضة بقشور من الترف يعيشها هذا الشعب أو ذاك للتعمية على حقيقة التخلف والعبث والتبعية، ومنع ثقافة العمل البناء والمقاوم، وزرع ثقافة الهوجة والنضال "الحنجوري"، وثقافة فلينج كل منكم بنفسه، وليعش حياته.
- علينا أن نقول لشعوبنا أن تكف عن ثقافة الهوجة في التعامل مع مثل تلك الأحداث، صحيح أن التظاهر مهم، وأن التبرع والدعم المادي أيضا مهم، وأنهما ربما غاية ما نستطيع فعله وقت اشتعال الأزمة، لكن ماذا نفعل بعد ذلك..ننتظر جولات جديدة من الأزمات أم ماذا؟ لابد لنا من فعل بناء ومستمر ولو كان قليلا، كنا قد أشرنا في بداية الانتفاضة الثانية وبمناسبة الغزو الأنجلو-أمريكي للعراق إلى بعض ما يمكن فعله سواء في دعم قضايانا (كالدبلوماسية الشعبية ومراقبة الإعلام والإعلام البديل والمقاطعة..إلخ) وكنا قد أشرنا إلى ضرورة التشبيك مع حركات مناهضة الحرب والعولمة على مستوى العالم في ذلك، ونحتاج أيضا إلى حزمة من الإبداعات الأهلية سواء في مراقبة الفساد أو الاحتكار أو الاستبداد أو في الأعمال النوعية والتخصصية في سبيل تحقيق النهضة في كافة جوانب حياتنا، وإلى أن نبحث عن الحريات الجزئية وصولا إلى الحرية الكلية خارجين من أسر السياسة في ذلك
- أن علينا أن نخرج من ذلك المشهد ونحن نفكر استراتيجيا في كيفية الخروج من أسر معادلة: تضحية الشعوب/ ربح الحكومات، متفكرين في أي الحكومات تربح أكثر من تضحيات شعوبها، ومن هو صاحب المصالح الأصلية في تضحيات الشعوب، ومن هو صاحب المصالح بالوكالة والنيابة، أو من هو تاجر الجملة في صفقات الحروب ومن هو القومسيونجي.
- وخلاصة نقول لا تناموا فإن الجولة/ المشهد ليس آخر الجولات ما دام في العالم أنظمة تسعى إلى الاستبداد والهيمنة وشعوبا تسعى إلى التحرر:
فـ" إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلابد للقيد أن ينكسر"
ولابد لليل أن ينجلي
"ولابد أن تستجيب الحياة... ولابد أن يستجيب القدر" .
اقرأ أيضًا:
على باب الله أشباح بيروت / تحيا كوريا الشمالية: يحيا حزب الله / ساعات سكينة: ساعة الأخبار / اغتيال الحرية: لبنان عروس العرب / شيزلونج مجانين نوم في غير وقته / صواريخ مباركة عربية!! / معا ضد الطغيان بلا خلاف