المصريون والجن(3)
بين وجود الشيء وإدراكه:
هذا الكون الذي نعيش فيه يموج بالكثير من الكائنات والقوى والعوالم بعضها نستطيع إدراكه بحواسنا ووسائل إدراكنا المتاحة وبعضها الآخر نعجز عن إدراكه، وهناك فرق بين وجود الشيء وإدراكه ففي زمن مضى لم نكن ندرك وجود الميكروبات أو الفيروسات ومع ذلك كانت موجودة وتؤثر في حياتنا في صورة أمراض نشعر بأعراضها مثل ارتفاع الحرارة والألم وغيره.
هذا على مستوى الرؤية الميكروسكوبية الدقيقة، فإذا انتقلنا إلى مستوى الرؤية التلسكوبية عرفنا أننا أيضاً في الماضي كنا نجهل الكثير عن الكواكب والنجوم لأننا لم نكن نملك وسائل إدراكها، وحين امتلكنا تلك الوسائل رأينا وأدركنا ما تسمح به هذه الوسائل وتيقنا أن هناك عوالم أخرى أكثر وأكثر لا نستطيع إدراكها بوسائلنا الحالية.
هذه الحقيقة نذكرها لمن يتورطون في مسألة إنكار وجود الجن وهم فريقان: فريق ينكر كل الغيبيات ومنها الجن ولا يؤمن إلا بالمحسوسات وهذا الفريق أقرب لإنكار الأديان حيث تقوم كلها على الإيمان بالغيب، والفريق الثاني ينكر ما أحاط بالجن من معتقدات وأوهام شعبية وربما يمتد إنكاره للجن أنفسهم كي يقطع الطريق أمام هذا الكم الهائل من الخرافات والشعوذات.
وكما بالغ العامة في قدرة الجن وقوتهم وتأثيرهم في حياتهم أنكر بعض العلماء والمثقفين وجود الجن بالكلية، وهذا موقفان متطرفان مستقطبان، فالجن حقيقة شوهتها الشعوذة، وهي حقيقة دينية ثبتت بالوحي ثبوتاً قطعياً، ونفيها يخالف الحقيقة الإدراكية والمنهجية العلمية التي تحدثنا عنها آنفاً، فليس كل ما لا أراه بعيني غير موجود، فالثابت علمياً أن تغيير وحدة الحجم أو وحدة الزمن يجعلنا ندرك أشياء وكائنات لم نكن ندركها بوحدات قياسنا وإدراكنا المعتادة.
النص الديني والجن:
بعض العلماء وقلة من المثقفين يتنكرون لوجود الجن، وهنا يتهمهم المتحمسون للجن بالكفر والإلحاد حيث ينكرون خلقاً لله ورد ذكرهم في الآيات والأحاديث، بل إن هناك سورة كاملة في القرآن هي سورة الجن، والأديان كلها تتحدث عن عوالم الجن والملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، هذه أشياء غيبية لا نملك وسائل إدراك لإثباتها، ولكننا نؤمن بها لإيماننا بمصدرها وهو الوحي الإلهي الذي تنزل على رسله.
إذن فالنصوص الدينية تؤكد على وجود قوى خير ممثلة في الملائكة لها تأثير في حياتنا على الرغم من عدم إدراكنا إياها، وقوى شر ممثلة في الشياطين وهم مردة الجن، وهناك كما ذكرنا سورة كاملة في القرآن الكريم عن الجن تبين طبيعة خلقهم ووظيفتهم والقوانين التي تحكمهم، ومن ضمن هذه القوانين أنهم يروننا ولا نراهم "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" (الأعراف 27)، إضافة إلى قدرتهم الهائلة على الحركة والتأثير والتي تفوق قدرة الإنسان، ومن هنا جاء خوف الإنسان من هذه القوة الخفية التي يمكنها أن تؤثر فيه أو عليه دون أن يراها أو يملك وسيلة لدفعها، هذا الخوف أحاط موضوع الجن بالكثير من الحكايات والأساطير.
وقد استغل الدجالون والمشعوذون هذا الخوف ولعبوا عليه وضخموه في عقول العامة وأقاموا على أساسه ركاماً هائلاً من المعتقدات والممارسات الأسطورية والسحرية جعلت لهم سلطاناً على عقول وقلوب الدهماء خاصة في المجتمعات المتخلفة غير الناضجة. ولكي يستمر سلطانهم وسيطرتهم فهم يحيطون أفكارهم وممارساتهم ببعض التصورات شبه الدينية لكي يحتموا بها ويزيد تأثيرهم في الناس.
وللأسف الشديد لم يعد تأثيرهم يقتصر على العامة كما تعودنا، وإنما استطاعوا ببراعتهم وخداعهم واستخدامهم لبعض النصوص والرموز الدينية (في غير محلها وعلى غير معناها) أن يغزوا عقول المتعلمين والمثقفين فأصبح من روادهم عدد لا بأس به من حملة الدكتوراه وبعض أصحاب الرأي والفكر بشكل يدعو للدهشة والاستغراب، فهؤلاء كان يتوقع أن يكون لديهم ملكة التفكير النقدي الموضوعي الذي يحول دون تسرب فيروسات الخرافة والأساطير حتى ولو تسترت خلف كلمات أو آراء شبه دينية أو أحاطت نفسها بتفسيرات أو تأويلات بعض علماء الدين في عصور مضت.
ونحن في مثل هذه الأمور الغيبية أمام ثلاث مستويات للتعامل مع النص الديني وهي:
1- النص الديني نفسه: فإذا راجعنا سورة الجن، وراجعنا الأحاديث الصحيحة للرسول صلى الله عليه وسلم حول مسألة الجن نجد أن هذه النصوص كانت محددة وموضوعية وكانت بمثابة تحرير للعقل من كل الخرافات والأوهام والأساطير الشعبية والتاريخية التي لوثت حقيقة الجن.
وأن النص الديني الصحيح ينقي العقول من تصور أن الجن قادرين على كل شيء وأنهم يتحكمون في مصائر البشر بما لديهم من قدرات مختلفة، وأثبت النص الديني أن الجن من خلق الله منهم المؤمن والكافر وأنهم يتبعون قوانين مختلفة عن تلك التي يتبعها البشر، وأنهم لا يضرون أحداً ولا ينفعونه إلا بإذن الله (شأن كل القوى في هذا الكون)، وأن الاعتقاد في مطلق قوتهم وقدرتهم وأن الخوف الزائد منهم يعتبر قدحاً في العقيدة الصحيحة، تلك العقيدة التي تقوم على إفراد الألوهية والربوبية والقدرة لله وحده سبحانه وتعالى وأنه مالك الملك، النافع والضار طبقاً لمشيئته العليا، وأن باقي خلقه لا يملكون ضراً ولا نفعاً إلا بإذنه وفي إطار مشيئته.
2- تفسير النص الديني: والتفسير هنا عمل بشري وجهد عقلي يمكن أن يصيب ويخطئ، ولذلك فتفسير النص ليس مقدساً، بل هو قابل للمناقشة والرد مهما يكن صاحب هذا التفسير. والمشكلة أن محبة وتقدير الناس لبعض العلماء وخاصة علماء السلف يجعلهم غير قادرين على مناقشة بعض آرائهم وخاصة إذا تبين مع تقدم العلوم وتوسع المعارف خطأ بعض اجتهاداتهم وكأنهم يقدسون هؤلاء الأشخاص أو يقدسون آراءهم.
3- الممارسات المبنية على تفسير النص: فكثير من العامة والدجالين والمشعوذين يقومون بممارسات خرافية يستندون فيها إلى فهمهم الخاص لتفسيرات بعض النصوص الدينية أو أقوال أو أفعال بعض العلماء المعروفين وغير المعروفين، وهذه الممارسات ربما يعتبرها بعض المنتمين إلى الدين جزءاً من الدين وربما يدافعون عنها ويضعون عليها قداسة لا تستحقها لا لشيء إلا لأنها تكتسي بثوب ديني أو تنتسب لتفسير شيخ يجلونه.
هذه المستويات الثلاثة تستدعي اليقظة في التعامل مع الحقائق الدينية فالنص الديني هو وحده الذي يتمتع بالقداسة في حالة ثبوت صحته، أما غير ذلك من التفسيرات والتأويلات والممارسات فهي جهد بشري يحتمل الصواب والخطأ وهو قابل للرؤية والمناقشة وإعادة النظر.
فالإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- كان يأتيه بعض المرضى وقد فقدوا وعيهم فكان باجتهاده يضربهم بحذائه حتى يفيقوا، فلما كثر المصابون بحالات الإغماء هذه (وغالباً كانت من النوع الهستيري الذي تحدثنا عنه) لم يشأ الإمام أحمد أن يضيع وقته الثمين ويصرفه عن العلم بممارسة هذا العمل فأصبح يرسل حذاءه مع أحد الناس يضرب به هؤلاء الهاربين من ساحة الوعي، ولعلها كانت بصيرة نافذة لهذا العالم الفذ، فقد أصبح العلم الحديث يستخدم مع هذه الحالات ما يسمى بالعلاج التنفيري (Aversion Therapy) وهو يقوم على إحداث تنبيه مؤلم لمثل تلك الحالات حتى لا تستمرئ الهروب المرضي في مواجهة أي ضغط، وحين جاء ابن تيمية –رحمه الله– وقنن لموضوع الضرب بناءاً على تصور التلبس الشيطاني فإن ذلك كان اجتهاداً منه نظراً لكثرة الحالات التي رآها في تلك الأيام حيث لم يكن هناك تفسيراً آخر متاحاً في ذلك الزمن.
ومن العيب علينا أن نفسر تلك الظواهر تفسيراً شيطانياً في الوقت الذي ترى فيه أعيننا النشاط الكهربي المضطرب للمخ في حالات الصرع أو ترى عقولنا العمليات النفسية التي تفسر محاولات المهزومين والمستضعفين وغير الناضجين اللجوء لوسائل دفاعية نفسية مرضية تتيح لهم التعبير الضعيف المنسحب عن معاناتهم وعن قهرهم وهزيمتهم النفسية.
التحرر: إيمان صادق وعمل صالح
إن من حكمة الله في الكون أن تكون هناك قوى خفية لا ندركها ومع ذلك يمكن أن يكون لها تأثير على الإنسان بشكل لا نعلم كيفيته، وهذا التأثير لا يحدث إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، ومادام الأمر كذلك كان من المنطقي أن نلجأ إلى الله تعالى مباشرة ودون وسطاء للاستعاذة به من تأثير هذه القوى الخفية، وهو سبحانه قد حثنا على ذلك في سورتي الفلق والناس (المعوذتين)، ولكن الذي حدث عند كثير من الناس أنهم حين اعتقدوا في وجود هذه القوى بالغوا في تأثيرها واستقر في وعيهم خوف هائل منها وراحوا يطلبون العون عليها من العرافين والمنجمين وضاربي الرمل والودع وقارئي الفنجان، وبعض الناس عبدوا الجن حين تخيلوا أنهم مطلقي القدرة وأن بيدهم النفع والضر، فحدث انحراف في التصور والاعتقاد واللجوء إلى غير الله وإضفاء قدرة وربما قداسة على هذه القوى الخفية ومن يظنون أنهم يدفعون تأثيرها.
ولما كان هذا أمر يمس صلب العقيدة لذلك جاءت النصوص الدينية الصريحة تصحح الاتجاه وتأخذ بيد الناس نحو الله الذي يملك كل شيء ولا يخرج شيء في الكون عن مشيئته. يقول تعالى مؤكدا مطلق قدرته وقيوميته: "اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" ( البقرة 255)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثونا أحياناً بشيء فيكون حقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة" (متفق عليه).
وعن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" (رواه مسلم). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد" (رواه أبو داوود بإسناد صحيح). وإذا كان تحرر العقل من الأوهام ضرورة حيث لا يستقر الدين في عقل مليء بالخرافات، فإن تحرر الإرادة بالعمل الحقيقي المثابر ضرورة أيضاً لأن الحياة لا تقوم على أماني الضعفاء والمهزومين وإنما تقوم على سواعد الأقوياء الصادقين.
اقرأ أيضا:
بين الإبداع والابتداع / قانون منع التمييز العنصري / طريق يشوع: من غزة إلى بيروت / لماذا غابت البهجة عن حياتنا ؟