دراسـة احتمالات التفسير النفسي.. لمهووس المعادي
تُرى ما هو الفرق بين (أخبار) مهووس المعادي الذي يطلق عليه مجازاً بـ (السفاح) رغم أن التوصيف القانوني لا ينطبق عليه وبين (خبر) مثل (نجار مسلح يذبح زميله ويحرق جثته ويلقيها في مصرف... بسبب خلافات مالية)؟.
في حالة (المعادي) وحالة (بني مزار) مثلاً (لا يوجد دافع كالسرقة أو الانتقام) وإنما الدافع هنا (جّواني) (شخصي).. يكمن داخل العقل الباطن ويتأصل فيه، وعلى الرغم من أن (البعض) يعتقد أن (المهووس) أكثر من واحد، إلا أنني أرى عكس ذلك، فذاكرة الضحية والشهود حينما تقع تحت تأثير الذعر والفزع والهلع، ترتبك فتضيف قليلاً ولا تتذكر كل شيء، ومن ثم ومع قدرة (الجاني) على (اللعب) والمناورة والتخفي و(التسلي) نجحت في نقل صورة بأنه أكثر من واحد... هو لا يمكن أن يكون إلاّ واحد.
إذن، لماذا يفعل كل هذا، هو سعيد وأشد غبطة من كل البشر في المعادي، بل وفي كل عموم مصر، سعيد بالدوشة والهيصة والضجة، لقد ألقي بحجر في الماء، هو يستمتع حينما يفعل وحينما يسمع ويحيرّ، خاصة (الحكومة)، وهي لا تعنيه، لكن في كل الأحوال تعنيه الحالة العامة.. (إثارة، استثارة، ترقب، مطاردة، انتظار... آه.. طبعاً المسألة فيها دم وضحايا وجروح، لكن فيها شوق وارتواء وإشباع...) ومع الفارق طبعاً، وكأنها ركوب المرجيحة اللي تطلع لفوق والناس تصرخ، زي القطر اللي يدخل النفق الضلمة، زي الفيديو جيم ولعبة الشنق التي مات فيها شباب اقترب عددهم من الستة.
تضاربت الأقوال وحددت أن الإصابات في البداية هي في المناطق الحساسة (المؤخرات) ثم (الصدور)، ثم انتقل الأمر إلى أجزاء مختلفة من الجسم كالبطن والجانببين، قالوا أن الأمر ينحصر في لابسات (الجينز) باعتباره (محزق) ويبرز المفاتن ويدعو الجاني لطعن صاحبته، (ربما انتقاماً من إبرازها لمفاتنها، إذا جاز القول) لكن لقد وصل الأمر إلى الخمار وإلى الأردية النسائية الفضفاضة... إذن هو أمرُ واحد (الأنثى) ما بين سن الـ 11 سنة وما بعد الثلاثين (لا عجائز ولا أولاد ولا رجال ولا مسنين).
من السهل جداً إطلاق الأمر على عناته، والقول بأن صاحبنا مريض نفسي، أو عنده (عقدة).. طبعاً عنده (عقدة) لكن أي عقدة (هل هو مصاب ـ مثل أغلب شبابنا ـ بعقدة وقت الفراغ ـ يمكن يكون عاطل، معاه شوية فلوس، ممكن يكون بيضرب حجر أو اتنين حشيش يومياً أو أكتر، وممكن يكون ـ بس ـ لاسع ـ غالباً مثقف مودرن من إياهم يحرص على مشاهدة الأفلام الأجنبية، زهقان، ممكن..(ممكن) يكون شاف أنثي مقربة ليه في وضع شائن، ممكن يكون (اتزبل) من حبيبته، وممكن يكون (اتثبت على فيلم مثل: جاهز للقتل Dressed To Kill الذي وقف فيه الجاني وراء ضحيته مثل وقف وراء الممرضة فاطمة على السلم من خلفها بحيث لا تراه وحاورها قائلاً (هيه ها نتسليّ).
إنه الرجل الزئبق، الرجل الوطواط، السوبرمان، قاعد الآن في بيته يستمتع بقراءة هذا المقال أو ذاك وينتظر لحظة القبض عليه مبتسماً لكنه بيعمل لها ألف حساب وحساب. لكن هل أصبح العنف إدماناً في مجتمعنا المصري؟ هل أصبح يرُى رؤية جمعية تكون فيها الرغبة الخاصة متوحدة مع خيال العوام؟ لماذا ينجذب الناس في جموعهم هكذا إلى صور وحكايات القتل والتعذيب، حكايات الجريمة وأخبار الحوادث.. رغم خوفهم الشديد وهلعهم الأكبر؟
هل أصبح ذلك وعاءاً مرضياً للعامة يدفنون فيه رغباتهم المدفونة، في سماع قصص وروايات القتل وغيرها. هل أصبح الخط باهتاً بين الفرد والناس، بين الخاص والعام؟...
هل تكمن الإثارة في فتح جروح الخاص والتأمل فيها بل والتحديق المجنون في أعماقها؟
هل طالت تلك الجروح العقول أيضاً؟ هل هي ثقافة العنف وثقافة الجراح، أم أنها الثقافة المجروحة التي ينحدر المرء فيها ويتمزق في الأعين، في التلفزيون وعلى صفحات الصحف؟!
ريا وسكينة ورجالهما استخدموا الأيادي العارية لخنق ضحاياها، ثم دفنهم تحت بلاط الشقق اللاتي استأجروها، في بني مزار استخدم القاتل سكيناً وساطوراً، المُتاح والمقبول في مصر وقراها، في القاهرة والإسكندرية وأماكن أخرى من الصعيد، يلعلع الرصاص ليخترق الجماجم والأجساد، هناك من يحرق ويغرق وهناك من تقطع زوجها أشلاء، ومن تستخدم خبرتها في الحقن لتخدر زوجها لتقطعه نصفين، ترمي نصفاً في القمامة وتحتفظ بالآخر تحت السرير، وهكذا... سلسلة لا تنتهي من الجرائم على مرّ العصور من ريا وسكينة حتي المعادي..
نحاول فهم ورصد بعض علاقات تلك الظواهر ببعضها، جاهدين في محاولة شاقة لفهم النفس البشرية. في المعادي لا قتل ولا رصاص. تسالي يا لب، كازوزة، مطوه، سلاح أبيض، ستات بيوت عادية، أفلام رعب. إن هوس المعادي الجديد غير بعيد عن ثقافتنا الحالية المشوشة الفسيفسائية (متعددة الألوان والأشكال) الفاقدة الهوية، ثقافة حُب الحمار، وبوس الواواو الأوبرا والفيلهارموني والملك لير ونجيب محفوظ وصراع الديكة في مجلس الشعب، ثقافة مائعة الهدف معتمة الرؤية، ثقافة مجتمع مشطورة متداخلة متشابكة مع التعدد والتشتت والمزج والخلط بين القنوات الإباحية والدينية والإخبارية، وكأن هذا المهووس في المعادي يبصق علينا ويسخر منا ويقول لنا بعلو صوته (أنتم ولا حاجة... كحكومة وكرجالة.. وكشعب أنتم كلكم كده على بعضكم أي كلام).
هل نحن فعلاً أي كلام... ولكي نكون كلام.. وله معنى.. هل يكفي القبض على (مهووس المعادي)
وإشباعه ضرباً وتعذيباً ثم عرضه على كل شاشات التلفزيونات الأرضية والفضائية ونغني (ياليل يا عين... هيه قبضنا على المجرم)، كما فعلنا مع التوربيني وغيره؟!
لا أعتقد فالمسألة أعمق وأبعد من ذلك بكثير.
اقرأ أيضاً :
صالون خليل فاضل الثقافي، خاتمة / الشباب العربي مشاكل وحلول