دوافع الموقف العربي من صدام حسين
استيقظت الأمة صباح يوم عيد الأضحى على شهود إعدام قائد العراق السابق صدام حسين ثم ما لبثت أن سمعت شهادة التوحيد تخرج من فمه لمرتين في تسجيلٍ مصورٍ بُث على القنوات الفضائية لمراتٍ عديدةٍ، وتعالت صيحاتٌ خلال إعدامه تُيقظ الفتنة التي كانت نائمةً، وتُسّعر نارها، والتي أوقدها بمهارةٍ وحَذَق ضعفنا وجهلنا أولاً وعدونا ثانياً. لتتحول آراء أبناء الأمة بين ليلة وضحاها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ومن الغرب إلى ا لشرق، فيتحول صدام حسين التي كانت الأمة تطالب بالاقتصاص منه، إلى البطل والشهيد والرجل الشجاع في نظر الكثيرين..!
في ليلة وضحاها..
نعم في ليلة وضحاها..
ولست في معرض الحديث عن الطريقة البشعة والتوقيت القبيح والسيناريو القذر لإعدام الرجل، والذي أثار عاطفتي وعاطفة كل عربي ومسلم.. إلا أنني سوف أتوجه إلى هذه الأمة الحبيبة.. أمتي، أمة الإسلام، وأقول:
آلآن يا أمة الإسلام !!
لن أقول لصدام كما قال الله تعالى لفرعون عندما نطق بالإيمان عند غرقه:
أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
آلآن يا فرعون, وقد نزل بك الموت تقرُّ لله بالعبودية, وقد عصيته قبل نزول عذابه بك, وكنت من المفسدين الصادين عن سبيله!! فلا تنفعك التوبة ساعة الاحتضار ومشاهدة الموت والعذاب.
لكن أقول: أَكِـل أمر صدام حسين إلى الله تعالى!
وأقول لكم أيتها الأمة المسلمة:
آلآن يا أمة الإسلام!!
أتنسين المآسي التي خلفتها عقلية صدام المريضة، وتقولين متأليةً على الله أنه رُزق الشهادة وحسن الخاتمة، وإلى جنات الخلد بل إلى الفردوس الأعلى يا صدام مع الأنبياء والشهداء!!
أي ضعفٍ وأي سفهٍ في العقول نحن فيه، لتأخذنا كلمة وتأتينا بنا أخرى!!
وبدأت الأمة في جلساتها تستذكر مآثر صدام وبطولاته، وكأنه أمسى أمير المؤمنين وخليفة رسول الله.
رجلٌ اختصمت فيه الملائكة!!
لا أدعوكم أيها الفضلاء أن تسبوا صدام أبداً، ولا أن تقولوا إلى جنةٍ ولا إلى نارٍ.. ولكن أدعوكم أن تقرؤوا حديثاً يرويه النبي لتوبة رجلٍ قتل تسعاً وتسعون نفساً..
(.. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَ نْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ) صحيح البخاري.
وفي لفظ برواية لمسلم:
(.. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا. فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ أنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِن بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّريقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقلْبِهِ إِلَى اللَّهِ وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ..) صحيح مسلم 4967
هذا الرجل القاتل الذي تاب توبةً يبدو أنها نصوحة، ورد في الحديث أنه اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب..
فأيها الفضلاء: الملائكة اختصمت به وحارت في مصيره!!
فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط... وكان الحكم لله تعالى في النهاية.. والله خــير الحاكمين، وأنت أيها العبد المسلم تتألى وتجعل من صدام بطلاً وشهيداً وفي جنات الخلد!!
هذا الرجل الذي خلا ومات، أرى أنه أحسن ما يٌقال في حقه:
أنَّ أمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء رحمه.
وما يفيدنا معرفة مصيره أو بالأحرى تحديد هذا المصير؟!
وتحليل ما حدث: أن المشهد حرّك العواطف العاصفة في العقل العربي المسلم لأنه شاهد رجلاً صامداً أمام موقف الموت، يردد شهادة التوحيد، وصيحاتٍ عدوانية وأيادي شامتة تعتدي على حياته.. فاختلت موازين الأمة وتعاطفت مع رجلٍ لا تُنكر جرائمه وذاك لغلبة مشاعر الحنق و الغضب على ظروف إعدامه.. فمشاعر التعاطف مع صدام كإنسانٍ أولاً وكمسلمٍ ثانياً نطق بالشهادتين ومشاعر الغضب على ظروف إعدامه غطت على ماضي هذا الرجل.
أتذكر حال الأمة العربية والإسلامية حينما بدأت تتعلق بهتلر لما قتل اليهود في ألمانيا، وتحركت عواطف الحب تجاهه، حتى أسماه البعض: الحاج محمد هتلر!!
المشكلة وملامح الحل:
أيها الإخوة؛ هذا يدل على عدة أمور نستطيع تلمسّها من حال هذه الأمة:
1. ضعف الشخصية أو الأنا وبالتالي التأثر الآلي المباشر بأي معلومة تقدم تخدم العاطفة والهوى.
2. ضعف العقل العربي أمام العاطفة.
3. قلة الإطلاع على التاريخ وتجارب الشعوب وبالتالي سوء فهم الأحداث وتأويلها، وعدم استقراء الواقع بشكل جيد.
أفلا نكون كما قال الله تعالى على لسان نبيه المصطفى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)، نحن أتباع محمد نسير على بصيرةٍ وفهمٍ ودرايةٍ، هكذا علمنا رسول الله وهكذا يريدنا أن نكون.
ودعونا من الحوار حول صَدام فأمره إلى الله تعالى، ولنلتفت إلى ذلك الصِدام المخطط له منذ سنوات بعيدة والآن بدأ تنفيذه على أرض الواقع على حلقات كانت آخرها إعدام صدام والصيحات الطائفية التي سمعناها، وحلقات المسلسل لا زالت مستمرة..
كفانا أن نكون عبارةً عن ردود أفعالٍ وصدىً لأقوالٍ غثاء سيلٍ وإمّعة للآخرين، ودعونا لنتحول من المشاهدة والتَفرّج إلى إدارة حلبة الصراع على الساحة العالمية كلاعبين أساسين بوعيٍ وفهمٍ. دعونا نتحول من منفعلين إلى فاعلين مؤثرين..
لأننا لو تطلعنا إلى واقعنا الآن، من.
0تآمر الغرب والشرق غير المسلم علينا.
0 الفتنة بيننا، مع أنفسنا في فلسطين الحبيبة والعراق ولبنان..
0 وتسلط الإعلام الغربي على العقل العربي وغير العربي.
0 وما زُرع في قلب الأمة من الخنجر الصهيوني البغيض الحاقد.
0وغيرها وغيرها كثيير.
فوالله الذي لا إله إلا هو إن المشكلة والحل يكمنان في:
الأنا أو الشخصية المسلمة.. في ضعفـها وقــوتها.
وإن سبب تسلط الأعداء علينا ليس لقوتهم فحسب ولكن للغُثـائية التي نحن فيها، والضعف الذي تسلط علينا. وإن سبب تأثرنا المرضي بكل ما تنشره وسائل الإعلام غثه وسمينه هو شخصيتنا الإسلامية المهلهلة المهترأة.. وليست النجاة والحل إلا بقوله تعالى في سورة الرعد (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما أنفسهم).
نعم الحل بتقوية الأنا أو الشخصية الإسلامية وتغيير معارفها الخاطئة، وتمليكها أدوات الفهم والتمحيص، وجعل ميزان العقل والتفكّر والتدّبر والشرع هو المحك لا العاطفة والهوى. وبذلك نخرج من مرحلة الغثاء التي أخبرنا عنها رسول الله، لنقف أمام السيل الجارف المدمر فنحوله كما حولناه سابقاً; إلى ينبوع صافٍ يترققْ، يسقِ الزرع ويعمر الأرض بالعدل و السلام رحمةً للعالمين.
ولعل في مقالةٍ تالية نشرح لكم إن شاء الله تعالى كيف نقوي الأنا أو الشخصية الإسلامية، كيلا تهضم أي معلومةٍ تقدم إليها إلا بعد تفكيرٍ وتأملٍ ووعيٍّ وتمحيصٍ.
وفي النهاية أدعوا الله تعالى كما كان يدعوه من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما كان يخ رج إلى الغابات ويسجد راجياً ربه بقوله:
(اللهم يا مفهّم سليمان فهّمني، ويا معلِّم داوود علِّمني)، فطريق الحل هو حسن فهم المشكلة وتشخيصها...
أنتظر بشغفٍ آراءكم وليس ردود أفعالكم!
والحمد لله رب العالمين.
واقرأ أيضاً:
التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / أوجه الشبه بين قتل صدام والمستعصم / قراءة نفسية لإعدام صدام / تفاصيل محضر اللقاء السري بين رامسفيلد وصدام حسين