أنا وجدي *مقترح برنامج أسري للرعاية المتبادلة*
أ.د.وائل أبو هندي د.أحمد عبد الله
الملخص:
تتزايد أعداد المسنين العرب بسرعة كبيرة بينما لا يواكب هذه الزيادة تقديم الرعاية الملائمة، فهناك الآن ملايين العرب تجاوزوا سن الستين. وما تزال المؤسسات الخدمية الحكومية وغير الحكومية عاجزة عن احتواء الجميع... وما يزال وضع المسنين في دور رعاية خاصة غير مرضٍ وكذلك تركهم وحيدين بالبيت غير مرضٍ.
يحاول هذا المشروع استثمار الطاقات والموارد الموجودة بالفعل في الأسرة العربية المعاصرة من خلال تدريب الأبناء والبنات على رعاية أجدادهم وجداتهم بينما يقدم الجدود خبراتهم وتقاليدهم، وهذا التبادل للخبرة/الرعاية بين الأجيال يقدم لنا ثباتا للأسرة واستمرارا للهوية الثقافية والأخلاق إضافة إلى الرعاية الإنسانية للمسنين، ونناقش في الأطروحة خريطة الأسرة العربية المعاصرة إضافة إلى اقتراحات لتنفيذ هذا المشروع.
تمر الأقطار العربية بلحظة جديرة بالتأمل والتحليل قبل التسرع بالإشادة أو الإدانة أو القفز إلى نقل تجارب مستوردة أو اقتراح حلول سابقة التجهيز لمشكلات تظهر في مجتمعات تتغير بمعدلات عالية لا يواكبها رصد كافي، ولا بحث علمي، ولا حوار مجتمعي رصين مثلما ينبغي أن يحصل، بل ومثلما يحصل في ثقافات ومجتمعات إنسانية معاصرة!!
تزايد أعداد كبار السن هي نتيجة متوقعة لتحسن حالة وكفاءة الطب والتطبيب، بل وظروف المعيشة في العديد من البلدان ومنها العربية، ولذا فإن الزيادة في أعداد المسنين أخذت تنمو بسرعة واستمرار بين سكان العالم المتقدم منه والنامي، حيث تشير الإحصائيات الدولية أن أعداد المسنين الذين بلغوا 60 سنة فما فوق قدر في عام 1960م ب (250 مليون) شخص ثم ارتفع هذا العدد إلى (376 مليون) شخص عام 1980 ويقدر أن يصل العدد في عام 2020م إلى (950 مليون) شخص. (فاروق زكي 1996)
وصاحب هذه الزيادة في أعداد المسنين كذلك ارتفاع متوسط عمر الفرد الذي زاد عن 70 سنة في كثير من الدول وخاصة الدول المتقدمة وهذا بلا شك سيكون له آثار وانعكاسات على مختلف جوانب الحياة والعلاقات الاجتماعية وبكل ما يتعلق ويتعامل مع المسنين كالأطباء وأجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع وأفراد الأسرة وغيرهم، لأن هذه الزيادة ستزيد من معدل احتياجاتهم وبالتالي زيادة أعبائهم وتكاليف الرعاية بهم على الدولة وأفراد المجتمع.
ونتيجة لهذه التغيرات وغيرها من التغيرات التي حدثت في المجتمعات المعاصرة في مختلف المجالات ومن أهمها المجال الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بدأت تظهر مشكلة المسنين كأحد القضايا الملحة في المجتمعات المعاصرة التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها وإعطائها مزيداً من الاهتمام والدراسة من قبل الباحثين والمتخصصين والمحافل الدولية حتى لا تنعكس سلباً على أفراد المجتمع عموماً وعلى فئة كبار السن خصوصاً.
فهذه الزيادة في أعداد المسنين يمكن أن يكون لها تأثيرها الإيجابي أو السلبي على التنمية القومية للمجتمعات، ففي حالة إهمالها قد يؤدي إلى عرقلة حركة التنمية بينما في حالة الاهتمام بها ووضع البرامج والخطط المناسبة للاستفادة من مشاركتهم في شئون المجتمع والحياة العامة سيؤدي إلى دفع سيرة التقدم والتنمية القومية. (أحمد يوسف بشير، 1996).
وعندما ظهر علم الأعمار Gerontology في أواخر القرن التاسع عشر كانت بدايته متواضعة ونموه بطيئاً، وكانت البحوث الطبية هي الأسبق في الظهور حين بدأ الباحثون في دراسة العوامل المؤثرة في طول العمر ووصف التغيرات المسئولة عن ظهور أعراض الشيخوخة. إلى أن تنبه العلماء في النهاية إلى أهمية دراسة ظاهرة الشيخوخة والمشكلات المرتبطة بها نتيجة لازدياد نسبتهم في المجتمع، إضافة إلى ظهور عدد من برامج التدريب والبحث في ميدان الشيخوخة (الموقع المصري لشئون المسنين، 2007).
وقد زادت التغيرات التي تشهدها الحياة المعاصرة في شتى المجالات الاجتماعية والثقافية والصحية والتكنولوجية من تطور وتعقد المشكلات والأمراض التي يواجهها المسنون في العالم يقابل ذلك نقص المعلومات والمعرفة الخاصة بمرحلة الشيخوخة وقلة الاهتمام من قبل الباحثين والمختصين بهذه المرحلة مع الإهمال والتشكيك في قدرات المسنين وإمكانياتهم في المساهمة في التنمية والعمل الذي كان يعتمد في الماضي على الجهد العضلي والجسدي، ويبرز ذلك بشكل واضح في الدول الغربية التي لم يحظ فيها المسنون بالقدر الواجب من الرعاية والاهتمام إلا حديثاً حيث كانت أولى هذه المحاولات في إنشاء نادي بحوث الشيخوخة في عام 1938م وبصدور أول مرجع علمي يهتم بالشيخوخة من الناحية الطبية والبيولوجية بعنوان "مشكلات الشيخوخة لكاودي عام 1939م، ثم بدأت هذه الدول بعد ذلك زيادة الاهتمام بهم نتيجة تزايد أعداد المسنين وتزايد احتياجاتهم وأعبائهم المالية. (أحمد يوسف بشير، 1996)
وفي معظم الدول العربية يوجد اهتمام واضح بإعداد وتحديث البيانات الإحصائية عن كمية للمسنين وخصالهم والخدمات المقدمة لهم، وقد اهتمت الجامعات ومراكز الأبحاث بعمل كثير من الأبحاث في مجالات مختلفة كالطب والتمريض وعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، ومنها ما اتخذ صورة أبحاث مشتركة تجمع بين عدة تخصصات. وبالرغم من كل الجهود المبذولة في ذلك إلا أن البحث العلمي الخاص بالمسنين في العالم العربي لازال يفتقر إلى التعامل المنهجي المنظم، فمعظم تلك الأبحاث تتم بجهود فردية بعيداً عن التناول التكاملي والتراكمي اللازمين للتواصل الفعال من أجل استمرارية برامج البحث العلمي. كذلك فإن الافتقار إلى وجود قاعدة بيانات خاصة بالبحث العلمي في مجال رعاية المسنين يجعل الجهود المبذولة متفرقة وغير متصلة وبالتالي فإن الباحثين عادة ما يبذلون الكثير من الجهد والوقت في محاولة للوصول إلى بيانات دقيقة عن الأبحاث الأخرى التي أجريت عن المسنين.
ولأن المشكلات أو التغيرات أو الأمراض التي يتعرض لها المسنون تختلف من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر تبعاً لاختلاف التوجه الاجتماعي والثقافي والديني الذي يعيشونه والذي يحدد نظرة المجتمع لكبار السن وموقفه منهم، ولذا كان من الضروري أن تختلف البرامج والسياسات المعتمدة من قبل الدول لمواجهة هذه المشاكل وخاصة الدول العربية والإسلامية التي يجب عليها تبني المنهج الإسلامي وإبرازه واعتماده في وضع برامجها وسياساتها في مواجهة مشاكل المسنين ورعايتهم، وأن تقلل من اعتمادها على المنهج الغربي في رعاية المسنين الذي ينبني على الجانب المادي المصلحي في رعاية المسن دون الاهتمام بالحاجات غير المادية ومنها الحاجات الدينية والأخروية. وكذلك اعتماده على المؤسسات الإيوائية أو الأجهزة البديلة عن الأسرة في رعاية المسن وتوفير احتياجاته مما عرضه للهجوم من الغربيين أنفسهم وتعالت صيحاتهم في تبني سياسات وبرامج جديدة أكثر واقعية وإنسانية لرعاية المسن. (أحمد يوسف بشير، 1996).
والملاحظ أنه بالرغم من أن تعداد دور رعاية المسنين يتزايد بشكل ملحوظ في معظم المدن العربية إلا أن الواضح هو أن الشكل هو فقط ما يتم إنجازه بغض النظر عن المحتوى... فلأسباب عديدة ليس المسنون سعداء وهو ما تبينه معظم الأبحاث العلمية المحايدة التي راجعناها أثناء إعدادنا لهذا المشروع المقترح، فمعدلات الاكتئاب مثلا عالية جدا بين المسنين 29.9% في النساء و 19.6% في الرجال (Argyriadou, et al., 2001) و25.3% (Saadani, et al.,2007)، و 35.1% (علي إسماعيل ووائل أبو هندي 2007).
وإذا أخذنا متوسط ما تبينه الدراسات على اضطراب كالاكتئاب نجدها تتراوح 14% و 26% وهي نسبة عالية، ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن تقصيرا كبيرا ما يزال في التطبيق.
ومن ناحية أخرى يوجد تآكل لخبرة وأسس وفاعلية كيان "الأسرة الممتدة" التي كانت فيما سبق تمثل بيئة الرعاية الطبيعية لكبار السن، هذا التزايد وذلك التآكل أنتجا حالة جديدة على المجتمعات العربية تتمثل في أعداد كبيرة من الأجداد والجدات دون رعاية ملائمة مما أدى إلى زيادة الطلب على ممرضات متخصصات في مثل هذا النوع من الرعاية، أو بيوت المسنين التي تحاول تقديم هذه الخدمة إضافة إلى خدمة الإقامة الدائمة أو المؤقتة لهؤلاء المسنين، ونستطيع القول بأن هذه الحلول المتاحة ما زالت تعاني من مشكلات لا تخفى على لبيب، الأمر الذي يشجعنا على طرح هذا البرنامج المبتكر لتحقيق عدة أهداف من جملتها رعاية كبار السن داخل الأسرة، ولكن ينبغي أولا رسم خريطة الأسرة العربية حاليا!!
خريطة الأسرة العربية
بداخل كل أسرة عربية تقريبا توجد غالبا أجيال ثلاثة على الأقل:
* جيل الأجداد: وتتراوح الأعمار هنا بين الخامسة والستين إلى ما شاء الله، بعضهم بصحة جيدة، وبعضهم تحت رعاية صحية خاصة، بعضهم ما زال يعمل وينشط متحركا في مساحات الحياة، وبعضهم يلازم المنزل معظم فترات اليوم.
* جيل الآباء: وتتراوح الأعمار المقصودة هنا بين نهايات العشرينات وحتى بدايات الستينات، وهذا الجيل يتصف بالانشغال الشديد، فهو في مرحلة مراكمة الثروة والإنجاز، ولديه من الأعباء ما يحول بينه وبين رعاية جيل الأجداد كما ينبغي، بل هناك تعثر في مجرد قضاء وقت كافي، أو تواصل يرضي الطرفين أقصد الأب والجد!!
* جيل الأبناء: والفئة المقترحة هنا هي من عمر الخامسة عشر، وحتى الزواج في العشرينات، وربما بعد ذلك. وهذا الجيل لديه قدرات عالية جدا على استخدام التقنيات الحديثة، وطاقة عالية، ومساحات وقت لا بأس بها!!
وباختصار مخل فإن أهم ما لدى جيل الأجداد هو المعرفة بالماضي حيث الحكايات والقيم والخبرات وربما رؤوس الأموال أحيانا.
وأهم ما لدى جيل الآباء هو القدرات المالية وسلطات الإدارة بالمنع أو السماح داخل نطاق الأسرة، وأهم ما لدى جيل الأحفاد هو القدرة على الإبداع والمبادرة، ونقص المعرفة بالتاريخ المحلي، والثقافة واللغة والعادات والتقاليد!!
ونلاحظ أن ظروف الحياة وانشغال الآباء والأمهات قد دفعتهم إلى استمرار الاستعانة _وأحيانا الاعتماد الكامل_ على جيل الأجداد في رعاية جيل الأبناء، بحيث يمكن القول بأن ظروف المجتمعات العربية قد أوجدت نمطا مبتكرا أسميناه في دراسة سابقة "الأسرة النووية المعدلة"، أي بإضافة الجد والجدة، أحدهما أو كلاهما إلى البنية المستمرة للأسرة!!
ولا يمكن رسم خريطة للأسرة العربية المعاصرة دون الإشارة للخدم ودورهم، وبخاصة في حياة الطبقات الوسطى الجديدة، والطبقات الثرية الجديدة والقديمة، وهؤلاء الخدم، ومعظمهم مستورد من مجتمعات غير عربية، وغير إسلامية أحيانا يقومون أحيانا ببعض العبء في رعاية كبار السن.
البرنامج المقترح
استثمارا لما سلف ذكره، واشتباكا مع ظاهرة كبار السن وأعدادهم المتزايدة نقترح برنامجا للتواصل الفعال بين جيل الأبناء، وجيل الأجداد، بحيث يتم أولا تدريب الأبناء على خصائص مرحلة التقدم بالعمر، واحتياجات الإنسان فيها، وربما يتضمن هذا التدريب بعض المداخل والمعلومات والأحداث عن التاريخ المحلي والإقليمي الذي عاصره جيل الأجداد، ويزيد على ذلك تدريب خاص حول بعض الرعاية المطلوبة لحالات أو أمراض بعينها، ويختلف هذا بحسب حالة الجد أو الجدة من الناحية النفسية والبدنية!!
كما سيكون مطلوبا توفير مواد مكتوبة ومسموعة ومرئية حول التاريخ الذي عاصره الأجداد، وحول الثقافة المحلية والعادات والتقاليد، ومواد تساعد في الإحالة إلى لغة عربية سليمة وسهلة شعرا ونثرا بدلا من الرطانة الهجين التي صارت لغة اللاتواصل بيننا!!!
سيكون مطلوبا أيضا وضع تصورات لتيسير إنجاح مثل هذا البرنامج على مستوى الانتقالات، وإبداع برامج وطرق التواصل الذي يكفل انسياب ما لدى كل جيل في اتجاه الآخر، ولا يمكن البدء في تنفيذ هذا الطموح إلا بثقة نحتاجها في الجيل الأصغر، وبتغيير النظرة السلبية السائدة حول وجودهم ودورهم واختلافهم عنا!!
بل واستثمار هذا كله للنفع المتبادل، وسيكون التحدي هو جعل مثل هذا التبادل جذابا للطرفين بحيث يعتبره الأجداد استمرارا لدورهم في الحياة، ويعتبره الأبناء من وقت ترويحهم ومتعتهم الشخصية، وحيث ينعم الأجداد بصحبة "أعز الأحباب" من أحفادهم، ويتعلم الصغار، ويفرحون بالتواصل مع حنان أجدادهم وخبراتهم في الحياة، وحيث تتحول قيمة صلة الأرحام إلى برامج ودورات وممارسات ومهارات تشيع الرحمة في مجتمع تحركه قيم راسخة في بيئات متغيرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه) رواه الترمذي
المراجع:
(1) د. الفاروق زكي: الخدمة الاجتماعية مع المسنين بنظرة إسلامية – المعهد العالمي للفكر الإسلامي القاهرة – سلسلة إسلامية المعرفة (23) بعنوان "التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية المنهج والمجالات" – ط 1 – 1996 – ص 319.
(2) د. أحمد يوسف بشير: سياسات الرعاية الاجتماعية للمسنين بين الفكر الوضعي والتصور الإسلامي – المعهد العالمي للفكر الإسلامي – سلسلة إسلامية المعرفة (23) بعنوان "التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية المنهج والمجالات" – ط 1 – 1996 – ص 350.
(3) Argyriadou S, Melissopoulou H, Krania E, Karagiannidou A, Vlachonicolis I and Lionis C. (2001): Dementia and depression: two frequent disorders of the aged in primary health care in Greece. Family Practice 2001; 18: 87–91.
(4) Saadani, M., Sherif, T., Ghobashy, S. & Abohendy, W. (2007): Geriatric and Adult Liaison psychiatric Consultations in Saudi General Hospital: a comparative randomized study. Abu Dhabi International Aging Conference
(5) علي إسماعيل عبد الرحمن ووائل أبو هندي (2007): معدل انتشار الاضطرابات النفسية المختلفة في عينة من المرض المسنين المترددين على عيادة خاصة خلال الفترة من يونيو 2006 إلي يونيو 2007. المؤتمر العالمي الثاني للشيخوخة أبو ظبي إبريل 2008