وسط (الفيمنيزم) في إسطنبول! (2-3)
مَن يؤمن بفكرة الجندر أو الجنوسة (الجندريون) يقولون لنا: (المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة)؛ أي أن الثقافة هي التي تحدد (جنوسة) الإنسان، أذكر هو أم أنثى، وليس شيئاً آخر يعود إلى طبيعة كل منهما... والفكرة الجندرية هذه كانت فكرة محورية في تلك الجلسة البحثية التي جمعتني مع بعض الناشطات في حركات (الفيمينزم) في إسطنبول... وقد تحدث بعضهن بنبرة (ماترياركية)، ونظرية الماترياركي Matriarchy قالت بها عالمة الآثار (ماريا جيمبوتاس) في السينيات الميلادية، وتنتشر النظرية لدى بعض الناشطات النسويات كأنها حقيقة مطلقة، وتشير تلك النظرية إلى وجود حقبة زمنية موغلة في القدم - 30 ألف سنة قبل الميلاد - كانت المرأة فيها هي (السيدة)؛ أي الآمرة الناهية في كل شيء وإليها ينسب الأبناء، وأنه قد ساد الرخاء والأمان في (الحضارة النسوية)، وهذه النظرية دحضها علماء آثار متعددون.
وبعد نشر الجزأين السابقين وصلتني رسالة كريمة من الدكتور عبد الملك منصور الوزير الأسبق للثقافة والسياحة في الجمهورية العربية اليمنية، يؤكد فيها أن (الجندر) مسألة خطيرة؛ وأنها باتت تؤثر في منظومة التفكير والسلوك لدى المرأة العربية بطريقة سلبية في مجملها، وبشكل مكثف راح يعدّد بعض مجالات التأثير؛ مطالباً بإيلاء هذه المسألة عناية بحثية فائقة، وكأنه يقول لنا إن (الفكر الجندري) ينشط غدد (العناد) و(المخاصمة للرجل) لدى المرأة العربية المسلمة على نحو ما، وأنا أعتقد أنها مسألة جديرة بالفعل بدراسات معمقة نستجلي فيها بكل تجرد منهجي وحيادية فكرية أبعاد المسألة ونستكشف جوانب التأثير ونوعيته في الفكر والسلوك، مع عدم التقليل من شأن الدراسات المنجزة في المكتبة العربية؛ فثمة إسهامات ممتازة. وسوف أشير إلى بعض الأفكار حول تلك المسألة.
بكل شفافية أقول إنه يمكنني أن أؤمن بفكرة الجندر في حالة واحدة فقط: (إذا استطاع أحد -أياً كان- أن يصنع ثقافة خاصة تمكّنه من تدريب مجموعة من النسوة ليكنَّ قادرات على مواجهة فريق رياضي رجالي في كرة القدم، أو الدخول في مصارعة حرة مع الرجال، أو على الأقل في مباراة للكرة الطائرة أو حتى التنس)! لا أقول هذا ممازحاً ولا مناكفاً، بل أعد ذلك مدخلاً منهجياً مبرراً للنقاش، وقد يقول البعض: هذه نظرة (تسطيحية) لفكرة الجندر، حيث إنه معروف أن هناك فروقاً بين الرجل والمرأة في إمكانات الجسد... وهنا نقول: على أي شيء افترضتم المساواة بين المرأة والرجل؟ أهو تحكمي؟! على أي شيء إذن ُيقال بالمساواة (المرأة = الرجل) أو بعدم المساواة؟! ما الأساس وما الدليل؟! ويمكن النظر إلى زاويا متعددة لهشاشة فكرة (المساواة) التي تنادي بها (الحركات المتمركزة حول الأنثى) وتأسست عليها فكرة الجندر بشكل محوري... دعونا نأخذ هذه الزاوية للنظر والتحليل.
المساواة بين الرجل والمرأة إما أن تكون مطلقة أو نسبية؟ ولا أحد يمكن أن يزعم بوجود المساواة المطلقة لوجود اختلافات بيولوجية من نحو ما ذكرناه آنفاً، كما أن ثمة اختلافاً في (التركيبة المشاعرية) لدى الرجل والمرأة بجانب الاختلاف في (أنماط التفكير) بينهما... وحين نستخدم مصطلح (تركيبة) أو (نمط) فنحن لا نتوجه إلى إصدار حكم صارم: إيجابيات أو سلبيات لدى هذا الطرف أو ذاك؛ لأنها مسألة سمات أو خصائص لكل تركيب أو نمط، وثمة نقاط قوة ونقاط ضعف لكل منهما وفق الطريقة والمواقف التي يتم استخدامها فيها... وقد انعكس كل ذلك على المجالات التي تلائم كلاً من الرجل والمرأة في شتى الميادين، فمثلاً لا نكاد نجد تواجداً للمرأة في الخريطة الفلسفية؟ ليس ذلك فحسب بل لا نكاد نجد لها حضوراً في بعض الميادين العلمية والمهنية: أين هي في الخريطة الهندسية -على سبيل المثال-؟ وقد اهتمت بعض الطروحات في مؤتمر إسطنبول بهذه المسألة وأكدت على الغياب في المجال الهندسي وساقت جملة من التفسيرات المحتملة...
إذن فرضية (المساواة المطلقة) لا وجود لها؛ لانتفاء (التشابه المطلق) بين المرأة والرجل؛ فلا يكون لدينا إذن إلا فرضية (المساواة الجزئية)؛ لوجود (التشابه الجزئي)، وهذا ما دفعني في المؤتمر إلى طرح الفكرة المبدئية التالية:
قلت لهم إننا نحتاج إلى تبني مصطلح (العدالة) Justice بدلاً من مصطلح (المساواة) Equality ذلك أن العدالة تميز بين نوعين من المساواة: (مساواة مبررة) Justifiable Equality و(مساواة غير مبررة) Unjustifiable Equality وذلك في مجال المشاعر والتفكير، وفي ميادين العلم والبحث والأدب والفن والثقافة والتربية والاجتماع والإدارة والعمل، وهذه مسألة تحتاج إلى معالجة موسعة ليس هذا مقامها.
والحقيقة عندي أن فكرة الجندر واهية فلسفياً ولا سند علمياً يعضدها، بل إن كثيراً من الأبحاث العلمية -النظرية والتطبيقية- تؤكد أنها (هراء) و(خرافة) لا قيمة لها... وستبقى المرأة امرأةً والرجل رجلاً، وتأتي الثقافة لتلعب على الهوامش لا أكثر، في إطار حياتي يؤكد على (التكاملية) لا (التصادمية)، و(التنوع) لا (التضاد)!!
وثمة مسألة أخرى تناولتها في تلك الجلسة البحثية وتتعلق تلك المسألة ب(أنماط القيادة) لدى المرأة، فهنالك إشكالية كبرى تتعلق بنمط القيادة لدى المرأة في ميدان العمل، أقول هذا بحكم تخصصي في هذا المجال واطلاعي على الأدبيات العلمية المتخصصة؛ فقد انتهى عدد من الأبحاث العربية والغربية التطبيقية إلى أن نسبة كبيرة من النساء يفضلن العمل تحت (قيادة الرجل)، لأسباب متعددة، وتصل تلك النسبة إلى ما يزيد على 70% بل إلى90% كما في بعض الدراسات، ولقد أجريتُ دراسة تطبيقية -لم أنشرها بعد- على عينة من الطالبات (أكثر من 1000 طالبة في منطقة القصيم) لدراسة الاتجاهات لديهن بخصوص تفضيل القيادة النسائية مقارنة بالقيادة الرجالية، ووجدت نتائج مشابهة لتلك الدراسات الغربية، وقد توصلت الدراسة إلى تحديد بعض الأسباب التي دفعت الطالبات إلى تفضيل القيادة الرجالية في حال حصولهن على عمل.
قد ُيقال: هذه نتائج لا يمكن الزعم بأنها نهائية أو مطلقة، فأقول: هذا صحيح، ولكنها مؤشرات قوية على وجود إشكالية (حقيقية) في (النمط القيادي النسائي الحالي). وقد ُيقال أيضاً: إن الأسباب الجوهرية تعود إلى هيمنة الرجل فترة طويلة وحرمان المرأة من المناصب القيادية بجانب القولبة أو التنميط الثقافي السلبي تجاه المرأة في الإدارة والعمل، وأقول: هذا أيضاً له وجه كبير من الصحة بقدر ما، ولكن كل ذلك لا ينفي وجود الإشكالية في الواقع المعاش... ولهذا أقول: ليتنا نتعاون على دراستها وتحليلها بشكل أدق ومن ثم علاجها بشكل منهجي متأن، بعيداً عن القولبة أو التنميط. وبالمناسبة فقد اتفق معي الكثير من الناشطات النسويات في تلك الجلسة حول وجود تلك الإشكالية!
لا أدري لماذا لدي رغبة ملحة في أن أختم هذا المقال بما سقته سابقاً حول قناعتي القديمة المترسخة بأن: (القياديات في الحركات النسوية يملن إلى تعميم أوضاعهن الخاصة، وأحياناً أذواقهن الخاصة؛ باعتبارها تمثل الأنموذج النسوي أو المنشود النسوي)!! لعل البعض ينشط لتأييد تلك المقولة بالتطبيقات العملية أو نفيها بتطبيقات أخر، والحديث عن قضية المرأة له استحقاقات كثيرة باقية.
واقرأ أيضًا على مجانين:
الفمينزم... ماذا؟.. لماذا؟.. كيف؟/ الفيمنزم...ونقاش بين الأصدقاء