إعادة تأهيل وبناء الإنسان المصري1
عقبات على الطريق
قد يقتنع الناس أو على الأقل أغلبهم بضرورة إعادة التأهيل للإنسان المصري وللمجتمع المصري قبل فوات الأوان، لكن ثمة عقبات كؤود ستقف أمام هذا المشروع نذكر منها:
1 – الدكتاتورية الفرعونية وما يتبعها من منظومات، ويصورها جمال حمدان في العبارات التالية:
"وسواء أكانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها، كما يذهب بعضهم، فلا شبهة أن الديكتاتورية السوداء والشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء وهي منهج كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة ليس على المجتمع فحسب ولكن الفرد أيضاً ليس في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك".
ويقول أيضاً: "لقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها.. بدرجات متفاوتة إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق والفرعونية السياسية وحدها ما تزال تعيش بين أو فوق ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها، وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي الديموقراطية الشرقية أو بالأحرى الديموكتاتورية، والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية".
كما يقول: "والحقيقة أن الحكومة هي كل شيء في مصر، تحكم كل شيء وحدها، تملك كل شيء بما في ذلك الحكمة والرأي الصواب وفصل الخطاب.. ولما كانت الحكومة ملك الحاكم، والوطن ملك الحكومة، فإن مصر في النهاية ليست شعباً له حكومة بقدر ما هي حكومة لها شعب، حتى ما يسمى في مصر الثورة.. هو حكومي أيضاً انقلاب عسكري.. أليس انقلاباً من الدولة على الدولة؟ انقلاب جزء من الدولة على الدولة" وهنا ينادي جمال حمدان الإنسان المصري بأن تطوره وشخصيته ستبدأ من حين خلاصه من السلبية الديكتاتورية قائلاً:-
"قضية إعادة بناء الإنسان المصري.. هي ببساطة قضية هرم الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول، ودك صرحها الإجرامي العاتي المتهرئ، وتصفية الطغيان الفرعوني المخضرم المتقيح البغيض تصفية أبدية، وهي قلعة الاستبداد المصري الشوهاء المشؤومة.
ومن هنا فحين يأتي الحديث عن إعادة بناء الإنسان المصري والشخصية المصرية من أعلى، من وكر السلطة الغاصبة، فلكم يبدو حديث إفك حقاً وكم يبدو منتهى السخرية وقمة الاستخفاف بالحق والعقل والعلم.
والدكتاتورية الفرعونية في مصر ليست شخصاً واحداً -وإن كانت تتمثل ظاهرياً في شخص-، وإنما هي شخص محوري حوله بطانة تشكل منظومات منتفعة من وجود الشخص المحوري، وبالتالي تشكل خطوط دفاع حوله ليس حباً فيه وإنما حباً في مصالحها وبقائها المرتبط ببقائه، ومن هنا تحدث الترابطات والتربيطات وتزداد تماسكاً مع الوقت حتى ليبدو في وقت من الأوقات أن تفكيكها مستحيلاً، ولكن في لحظة من اللحظات ونتيجة خطأ يقع فيه الحاكم الفرعوني الفرد تنفك عرى المنظومة في لحظة قد تكون خاطفة حين تتنافر المصالح وتتعارض الأهداف داخل المنظومة.
والدكتاتورية الفرعونية ليست وقفاً على عصر دون آخر فهي متغلغلة في الحياة المصرية منذ مراحل ما قبل التاريخ، وهي مرتبطة في الأغلب بالطبيعة النهرية للمجتمع المصري والتي استلزمت إدارة مركزية للنهر، مما استدعى وجود حكومة مركزية شديدة القوة شديدة البطش وشديدة السيطرة يخافها الناس ويتجنبونها".
2 – سلبية الإنسان المصري السياسية: لقد تمكن الخوف في قلوب المصريين عبر العصور من السلطة المركزية، لذلك انصرفوا عن السياسة إلى شيئين في القديم: الزراعة والعبادة، وحتى هذين الشيئين حاصرتهما فيهما السلطة المركزية، ففي الزراعة كانت السلطة متحكمة في النهر، وفي العبادة كانت السلطة متحكمة في المؤسسة الدينية (الكهنة ورجال الدين).
وفي الوقت الحديث لم يتغير الأمر كثيراً إذ ما زال المصري ينشغل بلقمة عيشه وشعائر دينه، وأضيف إليهما وسائل لهوه متمثلة في شغفه الشديد بالتليفزيون والإنترنت وغيرها مما يجعله يؤثر السلامة ويبتعد عن دائرة السياسة التي تهدد استقراره وسلامته.
3 – عمليات الخداع والتمويه، والتي ربما يمارسها الناس أنفسهم أو تمارسها السلطة المركزية، وهي تهدف إلى الإيهام بأن الأمور طبيعية وعادية، وربما تكون جيدة أو حتى ممتازة! ويدخل في هذا مقولات أننا أصحاب حضارة سبعة آلاف سنة، وأننا أذكى وأفضل شعوب العالم.
وهذا يؤخر اكتشاف المرض وعلاجه ويجعل المريض غير مستبصر بالمرض وبالتالي غير متحمس للعلاج. وقد يساعد في ذلك شغل الناس بوسائل التسلية كمباريات كرة القدم، والأفلام والمسلسلات، والأحداث الهامشية، وكل ذلك يؤدي إلى ترسيخ الأمر الواقع واعتياده.
4 – تغلغل الفساد بدرجة كبيرة مما يجعل عملية التأهيل صعبة حيث الانتشار الوبائي للمرض يفرض وجود عدد كبير من الأطباء الذين نفترض فيهم السلامة وعدم التعرض للعدوى كما يفرض هذا الانتشار جهوداً جبارة لملاحقة المرض المنتشر كالسرطان في الجسد الاجتماعي.
فالأمر لم يعد ثقوباً في الضمير العام والخاص –كما كان يراه أستاذنا أحمد عكاشة منذ سنوات– بل إن هذه الثقوب انتشرت واتسعت ووصلت إلى حالة تهتك في الذات المصرية.
الحل الهدمي والحل البنائي
بعض الناس يكتفون بنقد الوضع القائم بعنف وبحدة، وربما يبالغون في رصد الأخطاء والعيوب مدفوعون بكراهية النظام القائم والرغبة في إسقاطه بأي ثمن دون التفكير فيما بعد السقوط، وكأنهم يسعون إلى حل انتقامي ليس أكثر، وهذا الحل الانتقامي يستدعي فضح وتشهير من جانب أصحابه ويؤدي إلى حالة من الصراع بين الشعب والسلطة، فالشعب يكره السلطة بناءً على ما قرأ وسمع من انتقادات وهجوم عليها، والسلطة تتوجس من الشعب فتزداد تعنتاً وقهراً له، وبالتالي يزداد الشعب كراهية للسلطة، والنتيجة هي حالة من الكراهية والعنف المتبادل والذي قد يكون ظاهراً أو خفياً.
أما الحل البنائي فأصحابه لا يأخذون الأمر بشكل شخصي ولا يستخدمون أسلوب التشهير والفضح وتصيد الأخطاء للنظام، وإنما يسعون بموضوعية إلى كشف أعراض المرض وتشخيصه واقتراح علاجه، ووضع الخطط ومتابعتها للوصول إلى حالة التعافي ثم التأهيل.
وقد يقول قائل: وهل ستترك السلطة لهؤلاء الفرصة يفعلون ذلك بسلام؟ إنها لو فعلت ذلك تكون سلطة ملائكية وليست دكتاتورية فرعونية! وهذا صحيح ولكن مطلوب في عمليات الإصلاح التحلّي بالموضوعية وضبط النفس وتحمل بعض الضغوط والمضايقات والالتزام بالخيار السلمي مع النفس الطويل، والتماسك بين المصلحين حتى لا تنفرد السلطة بكل على حدة فتجهض محاولات الإصلاح التي تراها دائماً عكس مصالحها.
من أين نبدأ..؟ من القمة أم من القاعدة..؟
بعض الناس يعتقدون أن كل الجهود يجب أن تتركز في تغيير النظام الذي يدير دفة الحياة في المجتمع ويضع القوانين ومعايير السلوك، وهذا التغيير يسهل معه تغيير الناس وعمل كل ما يحتاجونه من إعادة تأهيل أو ترميم أو بناء، وأن أي حلول أخرى ستبوء بالفشل لأن السلطة المركزية المتحكمة لن تسمح لأحد بعمل أي شيء خارج إرادتها ورؤيتها.
وبعضهم الآخر يرى أن تغيير السلطة ما هو إلا تغيير أشخاص وقد يبدأ الأشخاص الجدد طيبون مسالمون ولكن سرعان ما تتلبسهم روح الدكتاتورية الفرعونية فيدخل المجتمع في دورات استبداد متتالية، وهو ما يحدث فعلاً في المجتمع المصري منذ آلاف السنين بلا انقطاع وعلى الرغم من تغيّر الأشخاص، وكأن الدكتاتورية الفرعونية مرضاً مزمناً في البيئة المصرية.
وفريق ثالث يرى أن قواعد البناء تقتضي أن نبدأ من قاعدة الهرم الواسعة حتى نصل إلى قمته، وهذا يستدعي جهوداً طويلة الأمد لتغيير مفاهيم الناس وطرق تفكيرهم، فمما لا شك فيه -أمام أي متخصص– أن الشخصية المصرية تحتاج لإعادة تأهيل بوجه خاص في طريقة تفكيرها، فما زال الغالبية العظمى تحتضن وتمارس التفكير السحري والتفكير الاختزالي، والاستنباط الاعتباطي، والتعميم، والتهويل والتهوين، وكثير من آفات وعيوب التفكير التي يعرفها المتخصصون ويعالجها خبراء العلاج المعرفي السلوكي.
وهذه هي الطريقة التي تمت في عصر النهضة في أوروبا حيث قام عدد من المفكرين بوضع كتب ونظريات للنهضة وقاموا بعملية تنوير واسعة النطاق للمجتمع، وفي الوقت المناسب تكونت الكتلة الحرجة ممن يطالبون بالإصلاح ففرضوا رؤيتهم على الأنظمة القائمة، والتي قامت بتوفيق أوضاعها مع المطالب الشعبية أو انسحبت اختياراً أو إجباراً، أي أننا هنا أمام فكرة التنوير ثم الضغط الشعبي المؤثر والدافع للتغيير، وهذا الحل قد يحتاج لسنوات ولكن نتائجه مؤكدة وراسخة.
وسؤال من أين نبدأ قد ينصرف إلى نقطة البداية في إعادة تأهيل الإنسان نفسه، وهنا يجدر القول بأن هذه النقطة تكمن في رأس هذا الإنسان، في عقله وطريقة تفكيره وحكمه على الأمور، وهذا يستلزم تعليمه تعليماً جيداً متميزاً، وتربيته تربية منضبطة متوازنة، وترسيخ قيم الحرية والمساواة والكرامة والعزة لديه، فلا يخضع لمستبد ولا يخاف ظالماً ولا ينحني إلا لله. وهذا يستدعي ثورة في التعليم -لا مجرد تعديلات شكلية في المقررات أو السنوات- وثورة في إعداد المعلم، وثورة في مناهج التربية.
وكلمة ثورة هنا لم نستخدمها للمبالغة والتهويل وإنما للدلالة على عملية تغيير عميقة وشاملة لأننا بصدد تكوين إنسان مختلف كمّاً وكيفاً، ولا تصلح المناهج القديمة ولا الطرق القديمة لتنشئة هذا الإنسان الجديد المختلف، وأهم محاور اختلافه هو تكوين عقلية نقدية حرة بدلاً من العقلية الحفظية المقلدة والتابعة. وقد يسأل سائل: وهل يكفي تغيير النظام التعليمي لإحداث التغيير؟
والإجابة تتمثل في التجربة الألمانية حيث رفعت ألمانيا بعد خروجها مهزومة ومنكسرة في الحرب العالمية الثانية، رفعت شعار "فلنجعل التعليم ممتعاً"، وقد يبدو هذا الشعار غريباً على السياق الذي نشأ فيه، سياق الهزيمة والحرب والدمار، ولكن يبدو أن هذا الشعار آتى ثماره، فقد قام البناء في ألمانيا الحديثة على العلم، والعلم يحمي العقول من الانحراف ويحمي المجتمعات من الزلل، والشخص الذي نال تعليماً جيداً سيطلب إعلاماً متميزاً، ويحقق اقتصاداً قوياً، ولا يرضى بالذل أو المهانة أمام نظام سياسي مستبد.
فالبداية الحقيقية لا بد وأن تكون التعليم والتنوير وبناء العقل الحر الناقد المفكر المبدع، وأي بداية غير ذلك ستبوء بالفشل وتشتت الجهود. وربما يفسر ذلك انهيار التعليم في البلاد ذات النظم الاستبدادية وكأن هذه النظم بوعي أو بغير وعي تريد شعوباً ذلولة وذليلة، شعوباً جاهلة، شعوباً تقلد ولا تفكر، شعوباً تمتلئ رؤوسها بالخرافات والأساطير حول الجن والعفاريت والظواهر الخارقة.
متى نبدأ؟
من هذه اللحظة وبلا أدنى تأخير، فالمرض ينتشر ويتغلغل، وكل لحظة تمر تنذر بصعوبة العلاج وتأخره وربما استحالته، والاستحالة هنا تسمى "الاستعصاء التاريخي"، وهي تعني وصول المجتمع إلى حالة يستعصي معها العلاج مهما تعددت الوسائل وتعدد المعالجون المهرة، وهي هي نفس الحالة التي وصل إليها فرعون حين قال "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" وحين قال أيضاً "ما أعلم لكم من إله غيري" وقال أيضاً: "أنا ربكم الأعلى" وقال مفاخراً متعالياً:
"أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"، وتحالف مع وزيره هامان ومع جنوده ومع الرأسمالية المستغلة متمثلة في قارون، هذه المنظومة الانتهازية المستبدة وصلت إلى مرحلة اللاعودة وأصبح إصلاحها مستحيلاً فكان لا بد من هلاكها ليخرج جيل آخر بمفاهيم مختلفة، وهذا ما حدث حين جرت المواجهة والمفاصلة بين موسى عليه السلام ومعه من آمن من بني إسرائيل وبين وفرعون وهامان وجنودهما وانتهى الأمر بغرق الآخرين في البحر، ثم بداية تكوين مجتمع جديد طبقاً لتعليمات التوراة.
تغيير المنظومة أهم من تغيير الأشخاص
ففي الشعوب البدائية غير الناضجة يكون لديهم حلم البطل المنقذ، وهو يأتي في صورة رجل صالح وقادر يخلصهم من الحاكم المستبد ويعيد إليهم حقوقهم ويعاملهم بالحسنى وتنصلح معه أحوالهم، وهكذا يظلون في حالة انتظار لهذا البطل الأسطوري، وقد يأتي أو لا يأتي، وإذا أتى فإنه يقضي فترة حكمه ثم يتركهم نهباً لشخص آخر لا يدرون ماذا يفعل بهم.
أما الشعوب الناضجة التي قطعت شوطاً في النمو الحضاري فقد اهتمت أكثر بمنظومة الحكم وليس بالأشخاص، فكافحوا ودفعوا دم قلوبهم لينشؤوا منظومات حكم ديموقراطية تضع الحرية والمساواة والعدل على رأس اهتماماتها، وتقيّد حرية الحاكم فلا تعطي له فرصة للاستبداد والتجبّر، ولا تدعه يستمر في الحكم أكثر من فترة أو فترتين حتى لا تلتصق مؤخرته بكرسي الحكم وحتى لا تتوحد ذاته مع ذات الوطن فيصعب اقتلاعه أو زحزحته، وتضع دساتير وقوانين يحترمها الجميع ويخضع لها مهما كانت مكانتهم.
واتضح من خلال التجربة في كثير من دول العالم المتقدم أن المنظومة الصالحة أهم من الحاكم الصالح، وأن هذه المنظومة قد تجبر وتداوي بعض أخطاء الحاكم، فمثلاً كانت هناك تجاوزات أخلاقية لكينيدي ونيكسون وريجان وكلينتون وساركوزي، ولكن هذه الأخطاء لم تؤثر في حياة شعوبهم لأن منظومة الحكم تحافظ على استمرار نظام الحياة حتى لو أخطأ الحاكم، بل إن هذه المنظومة لديها القدرة على عملية التصحيح للأخطاء الفردية والجماعية.
وهذه المنظومات لا يضعها الحاكم الفرد مهما بلغت درجة صلاحه، ولكن يضعها مجموعة من أهل الحل والعقد -العلماء ورجال القانون وفقهاء السياسة ورموز المجتمع وقادته الدينيون والاجتماعيون- ممن يتوافر فيهم شروط العلم ورجاحة العقل والنزاهة والاستقلال ونقاء المسيرة والوطنية.
ويشترط في هذه المنظومات أن تحقق الحرية والمساواة والعدل وتحافظ على الكرامة الإنسانية. ويتبع ذلك استفتاء شعبي على منظومة الحكم لكي يشعر كل فرد في الشعب بمسؤوليته الشخصية في الحفاظ على المنظومة التي ارتضاها لتحافظ على حقوقه وحريته وكرامته وحياته وحياة أبنائه وأحفاده، ويكون مستعداً لبذل الغالي والرخيص للدفاع عنها ضد كل من يحاول انتهاكها.
وهنا يعود الانتماء حين يشعر المواطن الفرد أنه شارك في إرساء منظومة حكم تدير حياته اليومية بشكل عادل يحقق له مصالحه ويهيئ له حياة كريمة في وطنه له ولأولاده، وبغير ذلك لا يتحقق الانتماء الصحيح.
ويجب توخي الحذر من إعادة إنتاج الاستبداد في قوالب أخرى خادعة، والحذر من الأشكال والألفاظ التي تمثل نقيضها، فمثلاً يتحدث رموز النظام القديم عن الفكر الجديد وهم يقصدون ترسيخ الفكر السائد بشخص جديد، ويتحدثون عن عدالة التوزيع وهم يقصدون توزيع ثروات البلد فيما بينهم، ويتحدثون عن انتخابات وهم يقصدون تعيينات في صورة انتخابات، ويتحدثون عن تطوير التعليم وهم يقصدون تفريغ التعليم من مضمونه... وهكذا.
كيفية التغلّب على المعوقات
كما ذكرنا فإن للتأهيل والبناء معوقات وعقبات كؤود، وهي منظومة الدكتاتورية الفرعونية، وسلبية الناس (الأغلبية الصامتة)، وتفشي الفساد لدرجة تغلغله في كل الفئات حتى وصل إلى مواطن العفة في المجتمع.
وأكثر العقبات صعوبة هي منظومة الكتاتورية؛ والتي قد أغلقت الأبواب أمام أي محاولة للتغيير سواء السلمي أو العنيف، فقد جرت محاولات كثيرة من أحزاب وتجمعات وأفراد مخلصين في محاولة لكسر حصار احتكار السلطة ولكن دون جدوى، ولمّا حاولت بعض الجماعات استخدام العنف كانت النتائج كارثية على الجميع، وبات الأمر محيراً فعلاً، وأصبح كثير من الناس ينتظرون تغييراً يأتي بشكل قدري كأن يموت أحد أو يصحو أحد أو تحدث معجزة!. وعموماً فإن مصائر الشعوب لا تتغير ولا تتحسن بالأمنيات ولا بالأحداث العشوائية وإنما تتحسن بجهود مخلصة بناءة واعية ومتعاونة.
إذن فنحن أمام عدة خيارات للخروج من هذا الموقف المتأزم والمتجمد:
1 – أن ينتبه النظام -أو حتى بعض المخلصين من أبنائه- إلى ما يحدث ويحاولون الإصلاح من الداخل، وهو النموذج الإصلاحي الذي حدث في أيام سيدنا يوسف حين قبل النظام مشورته في تنظيم الاقتصاد وبيت المال وبذلك انصلحت الأحوال حين أدمج يوسف عليه السلام في منظومة الحكم وبدأ في الإصلاح.
2 – أن تلتئم النخبة الإصلاحية على اختلاف توجهاتها وأن تتعالى على خلافاتها وتعلي مصالح الوطن على مصالحها الشخصية أو الفئوية أو الطائفية لتشكل منظومة إصلاحية وتبدأ بالإنسان المصري من خلال مدارس ومعاهد تعليم خاصة متميزة ترعى المواهب والقدرات وتمنحها فرصاً للتميّز، ومن خلال إعلام خاص مستنير يقدم للناس الحقائق ويحفز التغيير السلمي على محاور متعددة، ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني بشرط ألا تكتفي تلك المؤسسات بملء البطون بل تتجه إلى تنقية العقول وتصحيح الفكر والتفكير والارتقاء بنوعية البشر.
هذا الحل قد يأخذ وقتاً وقد تواجهه صعوبات وعقبات، ولكنه الحل الاستراتيجي الأفضل والمتاح بشرط صبر النخبة ومثابرتها واستمرار التئامها ومقاومة اختراقها أو تفتيتها، واستمرار الضغط لإحداث التغيير.
3 – أن يحدث لا قدر الله انفجار شعبي عشوائي لا يعرف أحد ماذا ستكون نتيجته، فقد يأتي على الأخضر واليابس، إذ أن هذه الهبّات العشوائية تفتقد للرؤية والتوجيه والحكمة. ولهذا الانفجار إرهاصات حالية متمثلة في كثرة الاحتجاجات والاعتصامات الفئوية والتي يمكن أن تتطور في ظروف ضاغطة معيشياً إلى انفجارات أكثر عدداً وأشد خطورة.
معايير إعادة التأهيل والبناء
هناك خلاف جوهري بين راغبي الإصلاح حول معايير الإصلاح؛ فهناك فصيل كبير يرى أن المعايير ستكون ذات مرجعية إسلامية وهذا الفصيل يستند إلى أغلبية شعبية ساحقة، وإلى قاعدة جماهيرية حقيقية، وقد أثبت هذا الفصيل قدرته على الحشد والتأثير في انتخابات مجلس الشعب حيث حصد عدداً كبيراً نسبياً من الأصوات رغم العقبات التي وضعت في طريقه.
وفريق آخر ينتمي إلى التيار الليبرالي يرغب في معايير ليبرالية وهو يرى أن هذه المعايير تتسع لكل طوائف المجتمع ولا تقتصر على المتدينين منهم أو على طائفة دينية دون غيرها، وأن هذا النموذج مقبول عالمياً ويسهل قبوله من العالم الغربي والشرقي على السواء. وهناك فريق ثالث يمثله العلمانيون يرون أن مبادئ العلمانية أثبتت نجاحها في الغرب وجعلت الحكم شأناً دنيوياً لا دخل للدين فيه، وأن مسألة الدين والتدين شأن شخصي بين الشخص وربه في مسجده أو كنيسته.
وهذا الخلاف بين راغبي الإصلاح ربما يشكل عقبة حقيقية أمام التئام النخبة الإصلاحية ويؤخر أو يؤجل مشروع إعادة تأهيل أو بناء الإنسان المصري، وأصبح الأمر يحتاج إلى حوار حقيقي بين هذه الفئات للتوافق حول المحاور الأساسية للإصلاح حتى لا يستمر التدهور ويخسر الجميع.
التفاؤل والأمل والرفق بالمريض
لوحظ في الفترة الأخيرة نوع من التشاؤم تجاه أنصلاح الأحوال يصاحبه نوع من القسوة تجاه الشعب المصري -السلبي الخنوع حسب وصفهم- ونوع من تحقير الذات وجلدها، وهذه كلها مشكلات تؤخر التعافي وتفت في عضد المعالجين والمصلحين، كما أنها تصرف الناس عنهم.
ولا تنجح عملية علاج أو تربية إلا إذا أحب الناس معالجهم أو مربيهم، وجزء من العمل في هذا الاتجاه أن تسلط الأضواء على الشخصيات الرائدة في الإصلاح ذوي السيرة النقية والنجاحات الحقيقية في المجالات المختلفة لكي يكونوا قدوة للناس وليسهلوا عملية التغيير في الاتجاه الصحيح.
وأخيراً فإن الشعوب الحيّة لا تنتحر وإنما تظل قادرة على تغيير دفة حياتها في الاتجاه الصحيح بشرط أن تلتزم بقاعدة الوعي والسعي.
واقرأ أيضا:
خلل في الأنا الأعلى للصحافة والحياة المصرية / صندوق الانتخابات يضبط إيقاع الحياة في تركيا2 / دمعة المحرومين من الحج