الممارسات الإسرائيلية من منظور علم النفس (1)
ناقش الكاتب في مقال سابق له الممارسات الإسرائيلية في المنطقة العربية من منظور علم النفس. وقد جاءت تلك المقالة أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والذي بدأ في 27 ديسمبر 2008 واستمر حتى 18 يناير 2009 وقد طرح الكاتب في هذا السياق ثلاثة أساليب رئيسية تستخدمها إسرائيل باحتراف شديد في تعاملها مع العرب، وهي أسلوب "التعزيز السلبي" Negative Reinforcement ثم أسلوب "العقاب" Punishment وأخيرا أسلوب "التعزيز الإيجابي" Positive Reinforcement.
وقد أشرنا إلى أن هذه الأساليب النفسية هي أساليب تنتمي إلى المدرسة السلوكية ولها استخداماتها الطيبة في مجالي العلاج النفسي والتعليم. ونطرح اليوم في نفس السياق بعض الأساليب الأخرى التي تستخدمها إسرائيل أيضا بكفاءة عالية وهي تنتمي كسابقيها إلى المدرسة السلوكية.
نجد من هذه الأساليب "التحصين التدريجي" Gradual Desensitization ويستخدم هذا الأسلوب بالأساس في علاج حالات الخوف (الرهاب) المرتبط بشيء معين أو حادثة معينة، فيقوم المعالج عند استخدامه بخفض التوتر والخوف المرتبط بهذا الشيء خفضا تدريجيا منظما، وكأننا هنا إزاء عملية تعويد المريض على الموضوع الذي يسبب له حالة الخوف الشديد تعويدا يتم تدريجيا وببطء حتى ينتهي الخوف.
الأسلوب الثاني الذي تتبعه إسرائيل هو أسلوب الممارسة السلبية Negative Practice وفيه يطلب المعالج من المريض أن يقوم بتكرار السلوك المرفوض والذي يسعى المعالج لتعديله حتى يصل المريض لدرجة التشبع فيصاب بالملل من هذا السلوك فيتوقف عنه، ويستخدم هذا الأسلوب في علاج مص الأصابع Thumb Sucking وقضم الأظافر Nail Biting. أما الأسلوب الثالث من الأساليب التي تتبعها إسرائيل أيضا فهو "أسلوب النمذجة" Modeling ويقصد به التعلم عن طريق مشاهدة شخص أخر يقوم بالسلوك المرغوب تعلمه، وقد يصبح المعالج مثلا أو الأصدقاء نموذجا للمريض يتعلم منهم السلوك المعين. ويستخدم هذا الأسلوب في علاج المخاوف على سبيل المثال.
وتزداد فعالية هذا الأسلوب إذا ما كان الشخص الذي يتعلم منه المريض هو رمزاً وقدوة يحتذى به؛ كما هو الحال مع الطفل في علاقته بوالده أو مع المراهق في علاقته بالمطربين الشبان أو لاعبي كرة القدم. ولهذا تسعى شركات الإعلان إلى التعاقد مع هؤلاء على أمل أن يقلدهم هؤلاء الشباب فتزيد مبيعاتها.
تستخدم إسرائيل "التحصين التدريجي" و"الممارسة السلبية" في تعاملها مع الشعوب العربية وعلى وجه الخصوص في عملية بناء المستوطنات وتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى وما يحدث أيضا من سب للرسول الكريم من بعض الشخصيات في بعض الدول. فإسرائيل تؤهل العرب والعالم الإسلامي منذ سنوات لعملية هدم المسجد الأقصى. إنها تقدم للمسلمين الحدث الذي تثور له ثائرتهم ثم تقوم باستخدام "التحصين التدريجي" فعن طريق الأساليب "التطمينية" تخفض من توتر هؤلاء المسلمين وما أن تدرك أن توترهم قد انخفض إلى المستوى المطلوب حتى تقوم إسرائيل بالخطوة التالية ثم ترصد شدة التوتر من جراء هذه الخطوة الجديدة ثم تستخدم أسلوب التطمين وهكذا.
وتكون كل خطوة جديدة تقوم بها إسرائيل أكثر عنفاً واستفزازاً من سابقتها. ففي البداية كان الأمر مجرد تصرفات لبعض المتشددين ثم انتقل إلى اقتحام شارون للمسجد الأقصى وبعد ذلك سربت إسرائيل الشكوك بوجود عملية حفر للأنفاق ثم تأكيد خبر حفر الأنفاق ثم تسريب الأضرار المحتملة لهذه الأنفاق وما هي الأماكن التي يمكن أن تتهدم ثم تأكيد الأخبار بوجود الأنفاق وأن الهدم حاصل لا محالة ثم ظهور البقرة الحمراء التي تنبأت بها التوراة مما يعني قرب هدم المسجد ثم يتضح أنها ليست هي البقرة المقصودة؛
ثم تعود البقرة في الظهور من جديد وهكذا. ويتم قياس توتر الشعوب العربية –الذي قد ينذر بتحرك على الأرض مناهض لإسرائيل- باستخدام استطلاعات للرأي أو تحليل محتوى المواد الإعلامية، أو بالأساليب المخابراتية.
يعتبر التعتيم الإعلامي وإخفاء الحقائق شكل من أشكال الطمئنة التي تهدف لخفض التوتر. فقد أخفت إسرائيل واقع المستوطنات على خريطة الضفة الغربية، حتى فوجئ العرب بخريطة ليس فيها من الضفة غير القليل الذي قد يصعب الحديث معه –في تصوري- عن إقامة دولة فلسطينية عليه.
وكما استخدمت إسرائيل أسلوب "التعتيم" مع العرب فقد استخدمته أيضا بالمثل مع المجتمع الدولي حين حرصت على ألا تصل لجان التحقيق الدولية إلى غزة بعد عدوانها الأخير، وألا يصور أحد جرائمها حتى تقلل من قلق المجتمع الدولي وردة فعله التي لن تكون في صالحها. بالمثل قامت الحكومة الأمريكية أيضاً باستخدام هذا الأسلوب من إخفاء للحقائق إبان حكم بوش الابن؛ فقامت بالتعتييم الإعلامي وإخفاء الحقائق عن الشعب الأمريكي لطمئنته وخفض توتره إزاء ما يحدث للجنود الأمريكيين في العراق حتى لا يحدث الرفض الشعبي لسياسات وممارسات الحكومة. فإذا ما انخفض التوتر إلى الحد المقبول قامت الحكومة الأمريكية بخطوة جديدة نحو زيادة الدعم العسكري في العراق.
وفي ذات الوقت الذي ترفض فيه الحكومة الأمريكية عرض صور قتلاها في العراق على الشعب الأمريكي فإنها وباستخدام أسلوب التعزيز السلبي -والذي سبق عرضه في المقالة السابقة- يسعدها أن يرى الشعب العربي ما يحدث لأبنائه في العراق من عمليات قتل وتعذيب وامتهان لأبناء العراق حتى يستسلم الجميع سواء داخل العراق أو خارجه. وبالمثل أيضا كان حرص إسرائيل على أن يرى العرب ما تفعله في جنوب لبنان وقطاع غزة.
إضافة إلى استخدام أسلوب التحصين التدريجي كما أشرنا آنفا للمضي قدماً نحو هدم المسجد الأقصى؛ فقد استخدمت أيضاً أسلوب "الممارسة السلبية" فعندما قامت بتسريب المعلومات للمسلمين عما تقوم به من حفريات تحت المسجد الأقصى؛ وخرجوا في مظاهرات فتركتهم إسرائيل ليكثروا فيها من العويل والهتاف حتى "الملل" فلا يبكون على الخطوة القادمة حين يهدم الأقصى. فوقتها لن يكون هناك من تحرك إيجابي ضد الهدم ولا حتى صريخ أو عويل.
أما عن استخدامها لأسلوب "النمذجة" فربما سعدت إسرائيل بتخاذل بعض القادة المطبعين معها تجاه جرائم الأقصى واستخدمتهم كنموذج يحتذى به من جانب غيرهم من القادة. لقد سبق وحاولت إسرائيل استخدام هذا الأسلوب عندما حلمت بأن ترضخ الشعوب العربية بعد أن يرضخ اللبنانيون في جنوب لبنان أو الفلسطينيون في قطاع غزة ولكن حمدا لله أنهم كانوا نموذجا للصمود بدلا من أن يكونوا نموذجا للاستسلام.
مثلما نجحت إسرائيل باستخدام هذه الأساليب في عملية بناء المستوطنات فلم يعد هناك أرض يمكن الحديث عن إمكانية بناء دولة عليها، فإنها سوف تنجح في هدم المسجد الأقصى إن عاجلا أو آجلا طالما أنها تستخدم الأسلوب العلمي الصحيح وبدقة متناهية. ولا يمكن إفشال هذا المخطط العلمي إلا بتفكير علمي أيضا، وهنا يأتي السؤال كيف يمكن لنا أن نفسد هذا المخطط لإسرائيل؟
الحل نـأخذه من أسباب قرار الحكومة الأمريكية بعدم عرض صور قتلاها وجرحاها في العراق، وأسباب انسحابها من الصومال ورفضها عرض عمليات سحل جنودها هناك في عام 1994، وكذلك أسباب انسحابها من لبنان في عام 1983. إن الحكومة الأمريكية ترفض أن يعرف الشعب الأمريكي ما يحدث لأبنائه في العراق لأنها تعلم أن الشعب الأمريكي سيخرج ولن يعودوا لمنازلهم إلا بعد إسقاط الحكومة وتغيير الأوضاع تماما.
الحل نأخذه أيضاً من قرار إسرائيل بوقف حربها على غزه - فإضافة للفشل في تحقيق الهدف من الحرب؛ فقد كان للضغط الداخلي للشعب الإسرائيلي عندما عاش داخل الخنادق خوفا من صواريخ حماس سببا في إجبار إسرائيل على التعجيل بوقف العدوان.
الفارق بيننا وبينهم أنهم يتحركون بينما نحن نكتفي بالضجيج ونكتفي بـ "محلك سر". الحل نأخذه أيضاً من خبرة انتفاضة الأقصى التي بدأت في سبتمبر من عام 2000. كل هذا يعني أن الحل هو الخروج في عمل جماعي وعدم العودة حتى يتحقق الهدف الذي دعانا للخروج وان يكون الهدف معلنا يعرفه الجميع حتى لا يحدث التسويف والاستغلال من جانب القادة الفاسدون بإيهام الشعوب أن الهدف تحقق والمكاسب خطيرة في حين أن الأمر مخالف للحقيقة.
الحل إذن هو الخروج والضغط ثم الضغط وعدم العودة للمنازل حتى يتحقق ما يجب تحقيقه. على المسلمين اليوم أن يخرجوا في انتفاضة لا تتوقف حتى تردم الأنفاق التي تهدد المسجد الأقصى ويلغى هذا المشروع الصهيوني من الأجندة الإسرائيلية في السنوات الحالية والقادمة.
وعلى المسلمين أن يعلموا أن عليهم إعادة الكرة مرات ومرات كلما شرعت إسرائيل في سلوك كهذا. وكما أن هناك حكومات محترمة لشعوب محترمة ستقوم حتماً بخطوات عقابية لإسرائيل لا تنتهي إلا بإلغاء المشروع الصهيوني لهدم الأقصى، فإن هناك حكومات أيضاً غير محترمة لشعوب محترمة وهنا يجب على هذه الشعوب أن تخرج للشوارع وألا تعود حتى تفعل أو تضطر أن تفعل هذه الحكومات ما تفعله الحكومات المحترمة.
اللافت للنظر أن بعض الحكومات تسلك مع شعوبها مثلما تسلك إسرائيل وأمريكا مع الشعوب العربية، فتمارس عليهم نفس الأساليب لتحقيق أهدافها الخاصة ومن الأمثلة على ذلك ما يحدث من انتشار لظاهرة توريث الحكم.
فما تمارسه الحكومات مع شعوبها هو مزيج من "التحصين التدريجي" و"الممارسبة السلبية" و"النمذجة". فهي تارة تلعب على وتر الطمئنة كما هو الحال في التحصين التدريجي، كأن يخرج رئيس الدولة على شعبه مطمئنا إياهم ومؤكدا أن بلده ليست كغيرها من البلاد التي تقبل بالتوريث وأن ما حدث من توريث للحكم هناك لن يحدث هنا. هذا الإعلان من شأنه أن يخفض أي توتر لدى الشعب بما يتيح للحكومة أن تقوم بخطوتها التالية نحو التوريث بهدوء شديد ودون أن يحدث أي اضطراب في الداخل.
كما تستخدم الحكومات أيضا أسلوب التعتييم المستمر للحقائق، فكأن الحكومة تمشي أمام الشعب بنصفها الأعلى في اتجاه بينما تمشي بالنصف الآخر في اتجاه مغاير؛ أو كما يقول المثل المصري العامي "اسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك استعجب" فهي تقول ما يطمئن ويخفض من ثورة شعبها وتفعل ما تريد وما تراه مناسبا في سبيل التوريث.
وإذا ما حدث أن فهم الناس أفعال الحكومة ولم يستمعوا لأقوالها فهنا تقوم الحكومة باستخدام أسلوب "الممارسة السالبة" فتدعهم يتهامسون يتكلمون عن الوريث من يكون، حتى يفرغون كل طاقاتهم ورفضهم وحينها تأخذ الحكومة خطوة أقرب نحو التوريث حتى لو كانت بنسف دستور البلاد. ثم تقوم الحكومة أيضا وفي خطوة استباقية جديدة ونحو التوريث أن تستخدم أسلوب "النمذجة"؛ فتخرج على الشعب بعض الرموز لتمجد المورّث والوريث؛ على أمل أن يحذو الشعب حذوها فيرددوا مقولاتهم أنه "بنعمتك تختال علينا أنت نعمة وإحسان".
ولأن حكوماتنا العربية من الذكاء الشديد فهي تضع الخط الفاصل بين الممارسة السلبية والممارسة الإيجابية لشعوبها. فحكوماتنا تعرف كيف تحصر الشعب داخل الحجرات المغلقة ليصرخ كيفما شاء أو على أقصى تقدير لا مانع من العويل على السلالم. أما أكثر من ذلك فلا؛ أن ينزل هؤلاء إلى الشارع فهنا تخطي مرفوض للخط الأحمر. فمن منهم يتحول للعمل الإيجابي هو مفقود مفقود مفقود. الغريب في الأمر أن النخبة بدلا من أن تفهم وإن تفعل ما يردع الحكومة بالنزول إلى الشارع والالتحام بالناس لإبطال مفعول الممارسة السالبة وتحويلها إلى ممارسة إيجابية قامت هذه النخبة بتنفيذ ما ترغبه الحكومة واكتفت بالعويل حتى الملل.
ما على الشعب أن يفعله في الداخل هو ذاته ما عليه أن يفعله مع المشروع الصهيوني لهدم المسجد الأقصى. على الشعب أن ينتفض وأن يخرج وألا يعود إلا بعد أن تردم تلك الأنفاق الموجودة في دستور هذا البلد أو ذاك. وكما كان على الحكومات المحترمة أن تعاقب إسرائيل بشكل موجع ومستمر وبدون توقف حتى تهدم ما حفرته من أنفاق تحت المسجد الأقصى، فأيضاً على النخبة المحترمة أن تعلن عصيانها ورفضها وألا تعود حتى تهدم تلك الأنفاق في الدستور.
على هذه النخبة أن تلتحم مع الشارع وألا تقبل بالعويل داخل الحجرات وعلى السلالم. وكما كان على الشعوب المحترمة أن تضغط على حكوماتها غير المحترمة لتسلك كما ينبغي أن تسلك، فإنه على الجماهير المحترمة أن تعلن رفضها لتلك الرموز الداعية بالتوريث والتي تسعى لتزييف وعي العامة من الشعب. قد يكون أحد الأشكال العقابية الموجعة والتي على النخبة أن تتحرك نحوها هي فتح قنوات اتصال مع الداخل والخارج وذلك للخروج من الدائرة المغلقة للعويل. ولا أجد مبررا لهذا الإصرار الساذج بأن أمورهم شأن داخلي لأن الأمر ليس كذلك وبالتأكيد هذا الادعاء الساذج تدعمه تلك الحكومات وتسعد به.
اللافت للنظر في الأمر أيضا أن الولايات المتحدة ليست راضية عما يحدث في الداخل وتبحث عن البديل الجيد الذي يكون واجهة جيدة لمشروعها المستقبلي في المنطقة. وقد يعطى لها الشعب مصادفة البدائل المقترحة؛ التي قد لا تنطبق على بعضهم المواصفات المطلوبة لأن أهم شرط في شخص المرشح لمنصب رئيس الدولة أن يكون مستأنساً وأن يقبل أن يكون موظفا في الإدارة الأمريكية بمنصب رئيس للجمهورية. وهذا الشرط قد لا ينطبق على بعضهم فقد يكون أحدهم من وجهة نظر الحكومة الأمريكية الولد المشاغب الذي لن يسهل ترويضه.
وقد تفضل الولايات المتحدة استثمار قدرات آخر فيما هو أجدى وأنفع. وقد يكون في أحدهم النموذج الذي تنطبق عليه كل المواصفات إذا ما كان نزيهاً يرفض الفساد ولا تربطه بالفاسدين أي من العلاقات المشبوهة، خاصة إذا ما أمكنه أن يحقق ديمقراطية لا بأس بها.
باختصار إن أمريكا تبحث عن حامد كرازاي لدول المنطقة؛ كان يعمل مسبقا في إحدى الشركات الأمريكية وله ملف لديهم بكل خطواته وأفكاره طوال سنوات خدمته بهذه الشركة، وكما يقول المثل المصري العامي "كرازاي في اليد خير من ألف على الشجرة".
إن من تنطبق عليه هذه المواصفات حتما سيكون هو حلم أمريكا؛ وسيقومون بعمل الدعاية اللازمة له في شبكات التليفزيون العالمية لتحسين صورته ودعمه. وحينها سيتخلون عن أي كرزاي آخر مكروه من شعبه ولا يتسم بنظافة اليد، مثلما يتقبلون الآن فكرة التخلي عن كرازاي أفغانستان. إذا وجدت أمريكا هذا الرجل فهو عصا موسى لديها؛ وسيكون لها فيه مآرب أخرى أبسطها أن تحقق الكثير من انبطاح وتبعية الحكومات القائمة، وقد يحدث أن تلقي الولايات المتحدة بهذه العصا فإذا هو رئيس يسعى ليتربع على كرسي الرئاسة وإن غدا لناظره قريب.
اقرأ أيضاً:
فساد السلطة / إلى أين يا وطن؟