يقول نجيب محفوظ في الحلم رقم 101 من "أحلام فترة النقاهة" (آخر وأجمل ما كتب):
"زينّا البيت ترحيبا بالابن العائد بعد غياب أصبح فيه نجما من نجوم المجتمع، وأمضينا السهرة في الشرفة التي تمد الشقة بالمنظر الجميل والهواء النقي، وأتحفنا العائد بالأشعار والألحان حتى انتصف الليل، وفي الصباح وجدت مدخل الشرفة مسدودا بدولاب عملاق فخجلت، ولكن الابن لم يخف حزنه، إذ ثبت له أن أناسا من صميم أسرته لا يستلطفون وجوده ويكرهون عمله الجميل".
ومحفوظ في هذه السطور القليلة يستكشف ويظهر قانون النفوس البشرية وقانون العلاقات في البيئة المصرية على وجه الخصوص، وقانون الصراع حين يزاحم قانون الحب ويضع أمامه العراقيل ويغلق في وجهه المنافذ.
أعتقد أن البرادعي وزويل يجب أن يقرءا هذا الحلم وهما يحلقان اليوم في سماء مصر كجناحي إصلاح جاءا من خارج المنظومة المصرية التي دب فيها السوس واستشرى فيها الفساد وسادها اليأس والإحباط، وأصبح من الصعب خروج قيادة محلية للإصلاح بعد أن انتهكت كل الرموز وسقطت كل الرايات وتشوهت الوجوه وفقد الناس الثقة بالجميع، وهاهما شخصان مصريان أصيلان شاءت الأقدار أن يعيشا في ظروف سوية مستقيمة وأن يتنفسا هواءً نظيفا وأن يتسلحا بعلم حقيقي راسخ يعضده ضمير لم يتلوث ورغبة مخلصة صادقة في إنقاذ سفينة الوطن التي تشارف على الغرق وأهلها عنها غافلون.
البرادعي جاء ينشد العدل وزويل جاء ينشد العلم، ويبدو أن هذان الركنان هما ما تحتاجه السفينة المصرية كي تنجو –إن كان ثمة أمل في النجاة– ولكن للأسف الشديد يضع فريق من أهل البيت المصري دولابا عملاقا أمام الابنين العائدين ويعلنون بكل اللغات أنهم لا يستلطفون وجودهما وأنهم يكرهون عملهم الجميل.
ومن عبقرية نجيب محفوظ أنه لم يكمل الحلم ولم يذكر ماذا فعل الابن العائد، وهل رجع إلى غربته وترك بيته أم أنه ثابر وصبر حتى يحرك الدولاب العملاق الذي وضعوه كي يسدوا أمامه الطريق إلى الشرفة فيختنق ويموت كمدا. وهذا هو الاختبار الحقيقي للبرادعي وزويل، فإما أن يهربا حين يتيقنا من الدولاب البيروقراطي العملاق، وإما أن يصمدا لإزاحته وتحرير البيت منه.
والبرادعي وزويل جاءا في وقتهما وقد حدثت حالة تشرذم شديدة في البناء الوطني ونظر الناس حولهم يبحثون عن قيادة فلم يجدوا حيث أن الكل قد تورط بدرجة أو بأخرى، والكل قد أصابه التلوث أو تناثر عليه الرزاز، ولم يبق شخص في الداخل يخلو من علامة استفهام أو تعجب تقف على رأسه أو توضع عليه رغما عنه.
وكلا الشخصين يتميز بوضوح الفكرة ونظافة السيرة واستقامة الرؤية وصدق الحديث ومضاء العزيمة، وكلاهما يحمل تاريخا طويلا من النجاح العظيم بالمعايير الدولية العالية، وكلاهما يتحصن بأعلى وأرفع جائزة دولية وهي جائزة نوبل، وهذا يجعل محاولة طمسهما أو تشويههما أو إيذائهما أو تسفيههما أمرا محفوفا بالمخاطر، فهما طول الوقت تحت الأضواء وتحت الكاميرات العالمية، وهما جزء مهم من عقل العالم المتحضر وضميره، وهما يقفان الآن على رأس الوطن المريض يعلنان بكل ما أوتيا من قدرة وبراعة وأمانة علمية أن الوطن على وشك الموت، وأنهما يملكان الدواء شريطة أن يعطوا الفرصة لذلك، وأن يتعاون معهما أبناء الوطن بصدق وعمل وليس بشعارات وكلمات، وهما لا يدّعيان قدرات خارقة، وإنما يقدمان حلولا موضوعية واقعية ويؤمنان بعمل الفريق وتضافر الجهود.
وحتى وقت كتابة هذه السطور وغيرها لم نجد دليلا عمليا على وقوف أبناء الوطن معهما باستثناء صيحات التهليل والإعجاب وكلمات الشكر والتقدير والدعوات بالتوفيق، والتعامل معهما على أن كلا منهما مهديا منتظرا في مجاله، وساحرا مقتدرا في فنه، وسيقوم بالمهمة خير قيام، ويقولون له ما قاله بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون". وإذا استمر هذا الوضع فسينقض المتربصون على الابنين العائدين وعلى طبيبا الإصلاح لينهشا لحمهما ويرغماهما على الخروج من مصر آسفين.
ولقد بدا استقبال زويل بالحفاوة وقلادة النيل، حتى صدق الرجل أن بإمكانه إنقاذ العقل المصري والعربي مما عشش فيه من حشرات وهوام، وقرر العمل لإقامة قاعدة علمية حقيقية ومتطورة، ولكن في اللحظة الحاسمة وجد الدولاب العملاق يسد مدخل الشرفة، وهو مازال يحاول إزاحته "وحده" حتى هذه اللحظة.
وبدا استقبال البرادعي بحفاوة حذرة وتقدير متحفظ ومنحه قلادة النيل في تردد، وكأن ثمة إحساس بخطورة الدور الذي سيلعبه الرجل في المستقبل. وحين أعلن الرجل نيته في القدوم إلى مصر لقيادة مسيرة الإصلاح بدأ الخوف والتوتر يدب في نفوس أصحاب الشأن والمصالح وراحت الأقلام تنهش في لحمه ولكن دون جدوى، فالحصانات الدولية والأخلاقية كانت اقوي بكثير من الأقلام التافهة والأصوات المتهافتة.
وذهب أحمد المسلماني إليه في أثينا وقابله وحاوره بكل الود والاحترام والتقدير بما يليق بمقام الرجل، وظهر من خلال هذا اللقاء نمطا فكريا وسياسيا رفيعا وراقيا لم نعهده فيمن سواه. ثم ذهب عمرو أديب إلى أثينا محاورا وناصبا الشباك وواضعا ألغاما كثيرة في طريق الحوار، ولكن البرادعي كان الأكثر ذكاءً وأدبا واستقامة وصفاءً ونقاءً، ولما يئس عمرو من الإيقاع به أو إظهار وجه آخر كان يتمنى وجوده عمد إلى أسئلة مسكونة ومشحونة بالسخرية والتهكم من هذا الرجل العظيم والذي خرج من وسط هذه الأسئلة (والاشتغالات المصرية) بوجه أكثر بهاءً واحتراماً.
وجاء الدور على السيدة منى الشاذلي فحاورته على طريقة برنامج "حيلهم بينهم" حيث راحت تحطم معنوياته وتحاول كسر إرادته، وتسفيه أحلامه من خلال تقارير من الشارع مع طبقات من البشر تعيش على هامش الحياة ولا تعرف البرادعي أو غيره، وكأنها تريد أن توصله رسالة بأن: "عد أدراجك فالناس هنا لا تعرفك، ولا تنخدع ببضع عشرات من المثقفين المقيمين في أبراج عاجية مثلك، أو شباب يعيشون في عالم افتراضي على الفيس بوك".
وفي برنامج "حيلهم بينهم" كان يعمد المذيع المستفز وخفيف الظل "عمرو" إلى أن يستضيف فنانين وفنانات من أولئك الذين تعودوا على المديح والإطراء والإعجاب حتى انتفخت ذواتهم، فيقوم هو بتكسير هذه الذات من خلال تقارير متفق عليها لإظهار الجوانب السلبية في شخصية الضيف، ولا يتركه حتى يكره نفسه ويكره مهنته ويكره جمهوره ويبكي أو يغضب.
وهكذا حاولت "منى" على غير عادتها، وخرجت عن موضوعيتها وحيادها المهني الذي عرفناها بهما، ويبدو أنها كانت تحت ضغط نفسي في هذه المقابلة، أو أن السقف الذي وضع لها في هذه المناسبة كان منخفضا، أو أنها كانت ترقب من يستمع إليها على الجانب الآخر فحرصت على أن لا تغضبه، فراحت تنهش في لحم الرجل النبيل بلا هوادة، وراحت تحاول تحطيم أسلحته حتى يستسلم، وطال الوقت بشكل ممل حتى ظهر السأم والضجر على وجه الرجل، ولكن أدبه الجم منعه عن التعبير عنهما بشكل صريح.
وحاولت التسفيه من حلم الرجل الإصلاحي وتظهره في صورة الغافل عن صعوبات الواقع وتعقيداته، واستدعت من الحزب الوطني من يعقّل الرجل، ويفهمه حجم التعقيدات والأهوال التي تنظره.
وحاول الدكتور البرادعي أن يفهمها بطبيعة الحركات الإصلاحية وفلسفتها فذكر لها نموذجان غاية في الأهمية وهما غاندي ومانديلا، وقال لها بأن غاندي لم يكن يملك أي عناصر للقوة المادية ومع هذا حرر بلاده، وأن مانديلا قضى في السجن ثمانية وعشرين عاما وخرج ليحرر بلاده من التفرقة العنصرية، وقال لها بوضوح: "إن قوتي في فكرتي"، وأن الإصرار على الإصلاح هو طريقي، وأنني لست باحثا عن شعبية بمعناها الحزبي، ولكن هذه الفلسفة الإصلاحية، وهذه النغمة الرومانسية وهذه القوة الروحية لم تصل إلى منى هذه المرة، وراحت تقيس قوة الرجل إلى قوة الحزب الوطني وترى حجم عضلاته وتقارنها بقوات الأمن المركزي فترى الرجل ضعيفا أمامها فتحاول إثناءه عن فكرته دون جدوى.
ولست أدري كيف طاوعتك نفسك في أن تعتقدي بأن الرجل غافل عن قراءة الواقع ومعرفة صعوباته وتحدياته، وهو من هو خبرة وسنا وعلما، فرحت تمارسين دور المنبه له والموجه حتى لا يقع في الحفرة أو تصدمه السيارات في الشوارع. وفي النهاية تعلن الإعلامية اللامعة السيدة "منى الشاذلي" أنها لن تمنح صوتها للرجل (وهو في غنى عن ذلك)، وتعلن احترامها وتقديرها للرجل (وهذا شيء مؤكد لا يحتاج إلى إعلان تليفزيوني).
عفوا أستاذه "منى" لم تكوني موفقة هذه المرة، وأرجو أن تعتذري للرجل النبيل عن هذا اللقاء، وأن تتطهري مما علق بأظافرك من لحمه الشريف، وأن تعاودي لبس القفاز الحريري الذي تعودناه منك، وأن تحتمي من الضغوط بموضوعيتك وحيادك المهني وإن لم تتمكني من ذلك فاعتذري عن اللقاء حتى تحتفظي بتاريخك الناصع والمشرف مع مشاهديك، وتذكري أنك أحد رموز الإصلاح الراقي في هذا البلد، وأنك تشكلين قوة ناعمة وهائلة في تشكيل وعي الناس خاصة وقت الأزمات والملمات؛
وقد فعلت ذلك من خلال برنامج تليفزيوني على قناة خاصة، وأنت سيدة مثقفة ومكافحة ومجتهدة من الطبقة المتوسطة ولكن تكمن قوتك في استقامتك وسوائك وانتماءك وتحيزك للحق والحقيقة والناس وتميز لغتك الإعلامية ومعاييرك المهنية العالية، فلماذا إذن تستنكرين وتستبعدين قدرة الرجل على القيادة الإصلاحية، ولماذا تصورينه على أنه ظاهرة سلبية تمثل نوعا من الحلم الرومانسي في التغيير ليس له من الواقع سند ولا دليل، وأنه تكريس لفكرة البطل المنتظر وتكريس لسلبية الناس واعتماديتهم، وأنه يقوم بتخدير مشاعر الناس واللعب على احتياجات البسطاء؟.
ودعيني أعاتبك (على الرغم من معزّتك الخاصة لديّ) على مخاطبتك له ونداءه بلفظ: "دكتور محمد" وكأنك تخاطبين طبيب وحدة صحية ريفية، وأنت إعلامية قديرة ومتميزة وتعرفين حين يكون شخص في هذا السن وهذا المقام فلا يصح بأن نناديه "دكتور محمد"، وإنما نعلو بالنداء والمخاطبة فنقول مثلا: "يافندم" ... "حضرتك" .... "سيادتك" ...."دكتور برادعي" .... فأنت لم تخاطبي "أحمد عز" بقولك: "أستاذ أحمد"، مع الفارق الهائل في القيمة والقامة.
إن الإصلاح يبدأ بحلم ويقوم به أناس قادرون على رؤية ما هو أبعد من اللحظة الراهنة ولديهم القدرة على الخروج والتخلص من وحل الواقع وقوانينه المتردية ومساعدة الناس على ذلك حتى ينهض الجميع معا، وقد أوضح الدكتور البرادعي هذا أكثر من مرة، واستنكر فكرة الاعتمادية عليه واستنكر فكرة البطل المخلص، وقال بأنه لن يفعل شيئا نيابة عن الناس وإنما في الناس وبالناس.
وكل من قام بتغيير من أنبياء ورسل ومصلحين كان يدرك الفرق الهائل بين قدراته وما يوجد في الواقع من عقبات وصعوبات وتحديات وقوى، ومع هذا كان ينتصر المصلحون في حالة تمسكهم بمبادئهم وقدرتهم على الصمود وتعبيرهم عن الاحتياجات المشروعة والسويّة للناس ووتوافقهم مع قوانين الفطرة والحياة.
واقرأ أيضا:
الانتماء الهستيري: الجرح النرجسي / كيف يفكر السيد الرئيس / انتصار أخلاقي / هل ما زال للعمال عيدا؟