تتجمع ملاحظات متعددة من مواقف شتى بعضها عام وبعضها خاص لتشير بشكل متصاعد أن الرجولة في خطر، والرجولة ليست مرادفة للذكورة فالأخيرة لا تعدو كونها نوع من التركيب التشريحي والفسيولوجي يمكن أن نميزه عن النوع الأنثوي أيضا باختلاف هذا التركيب، أما الرجولة فهي تركيبة نفسية وأخلاقية قد توجد في الذكر (وهو الأغلب) وقد توجد في الأنثى (امرأة رجل أو امرأة بألف رجل).
وقد حاولت أن أتتبع مدلولات كلمة رجولة في التراث ومن أفواه المعاصرين فوجدتها تدور حول المعاني التالية: القوة، الشجاعة، المروءة، النجدة، الرعاية، المسئولية، الاحتواء، الصبر، نصرة المظلوم، الشرف، الغيرة على العرض، البذل، الاحترام، الوفاء، الحماية، الأنفة، الترفع عن توافه الأمور، الصدق، التضحية بالمال والنفس،...... الخ.
وحين ننظر من حولنا على المستوى الضيق ونبحث عن هذه الصفات فسوف يعوزنا البحث لأننا سنرى ذكورا كثيرين ورجالا قليلين جدا، فهذا زوج ينام في بيته بينما زوجته تعمل ليل نهار لتغطى مصروفات البيت ومصروفاته هو شخصيا، فهو يأكل ويشرب من كدها وعرقها ويمد يده لها آخر النهار ليأخذ مصروفه لكي يقضى ساعات مع أصدقائه على القهوة (أو الكوفى شوب) أو في النادي، وهذا زوج مدمن دفع بزوجته إلى أحضان أصدقائه ليحصل على احتياجاته من المخدر، وهذا شاب لا يستطيع عمل أي شيء بدون مساعدة أمه، وهذا أخ يقوم بتوصيل رسائل الغرام بين أخته وبين محبيها من الشباب ويكتم سرها عن والديها وعن بقية الأسرة ثم يبتزها في بعض الأوقات لكي تدفع له ما يريد وإلا سيفشى هذا السر، وهذا زوج وأب يقضى وقته في مشاهدة التليفزيون أو الجلوس عل النت لمشاهدة القنوات الإباحية أو عمل دردشة بينما لا تراه زوجته أو أبناؤه إلا فيما ندر، وهذا موظف يتهرب من القيام بعمله ويتركه لزميلته تقوم هي به، وهذا مدير يستغل حاجة امرأة من موظفيه فيراودها عن نفسها وإن امتنعت جعل حياتها جحيما.
أما إذا توسعنا في النظر فسنجد انسحابا لقيم الرجولة على المستوى المحلى والعالمي، وربما يفسر هذا الاتهامات المتبادلة في الفترة الأخيرة بنقص الرجولة بين القيادات، فلم تعد تهم القيم في المواقف، وإنما المهم هو السلامة (بمعناها السلبي الضعيف الانسحابي الهروبى) والمكسب (بمعناه الانتهازي النفعي الأناني) وراحة الدماغ (بمعناها الغبي المتكاسل). وأصحاب هذه المنظومة ينظرون إلى قيم الرجولة باستخفاف ويحاولون التخلص والتملص منها بتسميتها "عنترية" أو "ادعاء بطولات زائفة" أو "عدم واقعية" أو "تهور" أو "مغامرة غير محسوبة" أو "قلة عقل" أو "نزق" أو "عدم قراءة للواقع" أو "عدم فهم للمتغيرات الدولية" أو "سذاجة سياسية"..... الخ، والهدف من ذلك هو تشويه معاني الرجولة أمام أنفسهم حتى تستريح ضمائرهم لقراراتهم ومواقفهم المبتعدة دائما وأبدا عنها، وليقروا واقعا عالميا يتسم بالنذالة والانتهازية وغياب العدل واغتيال الشرعية واستبعاد القانون.
وقد نجد مبالغة في المظهر الذكوري لدى كثير من الشباب هذه الأيام ممثلة في اهتمامهم بالذهاب للجمنزيوم (صالة الألعاب الرياضية) لتنمية وتضخيم عضلاتهم وترى الشاب يمشى في الشارع يلبس "بدي" أو "تي شرت" (قميص ضيق جدا يصف ويشف) لإظهار عضلاته المتضخمة تعويضا عن مواقفه الطفولية العاجزة والتافهة، وقد تغتصب أمامه فتاة دون أن يفكر في فعل أي شيء لإنقاذها، وفى الوقت الذي تتضخم فيه عضلاته حتى لتكاد تتفجر من ملابسه نجده يأخذ مصروفه من أمه التي تعمل ليل نهار حتى ذبل جسمها وانهارت قواها.
وقد نجد مبالغة من بعض الأزواج (ناقصى الرجولة) في التحكم في زوجاتهم والسيطرة عليهن وقهرهن وسحقهن بدعوى القوامة، فهم يفهمون القوامة على أنها استبداد واستعلاء وقهر وتحكم وإلغاء لشخصية الزوجة، وهو إذ يفعل ذلك يريد أن يعوض نقص الرجولة لديه ويثبت لها بشكل طفولي خائب أنه الأقوى جسديا وأن لديه مفتاح المنح والمنع في أمور كثيرة تخصها، والقوامة في الحقيقة ليست كذلك فهي قبل كل شيء رعاية ومسئولية وقيادة حكيمة من رجل يملأ عين زوجته وقلبها ويحميها ويحتويها ويضحى من أجلها ومن أجل أبنائها ويخفف عنها ضغوط الحياة.
وقد نجد نظيرا لذلك على المستوى الدولي حيث تكدس بعض الدول أسلحة كثيرة وتجرى استعراضات عسكرية ضخمة، وتخرج كل عام دفعات من طلبة الكليات العسكرية ينعمون بتشريف القادة على أعلى مستوى لتهنئتهم بالتخرج، وتجد مظاهر الإنعام بالنياشين والقلادات وأوسمة الشرف على القادة العسكريين في حين أن هذا البلد ليس له أي موقف عسكري مشرف أو غير مشرف، ولكنها المبالغة في مظاهر القوة والشرف والشجاعة دون التحلي بها فعلا. وتجد هذه الدول تخنع وتخضع وتخنث وتنحني وتنبطح وتخفض جناحها أمام دول أكبر، في حين تستبد استبدادا شديدا بشعوبها المستضعفة والمقهورة وتستعرض أمامها كل ألوان القوة والسيطرة (بالضبط كما يفعل الزوج الضعيف المقهور مع زوجته حيث يطأطئ رأسه لمديره المستبد به ثم بعد ذلك يدوس على رقبة زوجته في المنزل تعويضا وإزاحة).
وربما يسأل سائل: ما الذي أدى إلى هذا التآكل الخطير في معاني الرجولة وقيمها على مستوى البيبت والشارع وعلى مستوى الدول؟: هل هو الاتجاه العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا والذي يسفه كل القيم حيث تنتمي هذه القيم إلى العالم القديم الذي تستعلي عليه أمريكا وتسفهه؟ (تذكر أن الأمريكيين الأوائل الذين شكلو نواة المجتمع الأمريكي كانوا من الخارجين على القانون ومن المارقين ومن المغامرين ومن الشخصيات السيكوباتية المضادة للمجتمع والنفعية الانتهازية الباحثة عن اللذة دائما دون اعتبار لأي قيمة أو قانون)..... هل هو الاستبداد السياسي الذي قهر الرجل وأذله فتعلم الناس مع الوقت أن يخفوا رجولتهم أو يتخلصوا منها خوفا من الخصاء على يد السلطات الفرعونية التي قررت أن تقتل (أو تخصى) كل رجل يوجد في البلاد حتى لا يهدد الاستقرار؟.......
هل هي طريقة التربية التي تولتها الأمهات غالبا نظرا لسفر الأب أو انشغاله في عمله أو مع أصدقائه أو أمام التليفزيون والنت؟.... هل هو الزحف الأنثوي على جوانب الحياة المختلفة والانتقال من مرحلة تحرير المرأة إلى مرحلة تمكين المرأة مما أدى إلى انسحاب الرجل من كثير من مواقعه كيدا أو عنادا أو مقاومة سلبية ردا على تهديد عقدة التفوق الذكوري لديه؟... هل هي فلسفة الشره الاستهلاكي الاستمتاعي السائدة التي لا تهتم بالقيم قدر اهتمامه بقدر اللذة الحاصلة أو المتوقعة من أى فعل؟.... هل هي أنظمة سياسية وقيادات إعلامية ودينية بعينها تدعو ليل نهار لقيم هي أبعد ما تكون عن قيم الرجولة ووجدت هذه الدعوة صدى لدى الناس لما تمنحهم من راحة التخلي والسلبية والاستمتاع المتوهم بمكاسب الحياة ورفاهيتها بعيدا عن الدخول في صراعات تستجلبها المواقف أو القرارات ذات السمت الرجولي؟؟
قد نختلف أو نتفق في الأسباب، ولكن تبقى حقيقة مؤكدة وواضحة لأي متخصص أو غير متخصص وهى أن الرجولة في خطر.
واقرأ أيضاً:
قراءة في أحداث كنيسة الإسكندرية / ذكرياتي في حارة الكنيسة (2) / الحلم بعد الأخير لنجيب محفوظ