كنت جالسة في إحدى الحافلات المتوجهة إلى جامعتي، أفكر في دراستي بدءًا من حلقات البنزين والروابط الكيميائية إلى ميكروسكوبات العقاقير والتجارب الصيدلانية، وبينما أفكر في كل ذلك سمعت صوت أوراق تمزق بعنف.. وبحركة سريعة التفت بجانبي فوجدت شيخًا عجوزًا يحمل دفترًا ويقوم بنزع أوراقه واحدة تلو الأخرى، يقرأ بعض الأوراق ثم يقبلها ثم يضحك ويلقى بها من النافذة وبعض الأوراق لا يقرأها ويمزقها قطعًا صغيرة لا تعرف بعضها من الآخر ثم يبكي ويلقى بها أيضًا.. حدقت النظر فيه فقد كان منظره غريبًا حتى إنني قد شعرت أنه شخص مختل عقليًا أو به مس من الجنون.. لكنه لاحظ أنني أنظر إليه نظرة غريبة فأدرت رأسي لعله يكون مجنونًا وأوهمته أنني لا أعيره أي اهتمام ولكنه ظل يمزق أوراقه وقلبي ينتفض داخل صدري والسؤال يتأرجح في رأسي ما الذي يفعله ذلك الرجل غريب الأطوار؟؟
وبعد قليل.. لاحظت أنه توقف عن تمزيق الأوراق، نظرت إليه في خلسة فوجدت الدفتر وقد أصبح فارغًا لم يتبقى منه سوى الغلاف فطواه على بعضه ونظر إليَّ وابتسم فأدرت رأسي مسرعة وكم تمنيت في هذه اللحظة أنني لم أركب هذا الحافل أو أهبط منه وأكمل سيرًا على الأقدام أو...... فجأة سمعته يقول لي يا ابنتي!!! حاولت أن أتجاهله وكأنني لم أسمع وتملك الخوف مني لا أعرف ماذا أفعل؟! فقالها ثانية: يا ابنتي! فنظرت إليه فقال لي: خذي هذا الدفتر ووضعه على حقيبتي ثم قال للسائق سأهبط في هذه المحطة وأكملت الطريق وقد حلت الدهشة محل خوفي..
أمسكت بالدفتر وفتحته فلم أجد سوى غلاف قد كتب عليه: (هذه هي الحياة وما نحن فيها إلا أوراق بيضاء منَّا من كتب في ورقته عبارات مفيدة يتعلم منها الآخرين وتظل رمزًا في قلوبهم ومرجعًا لهم، ومنَّا من لم يستطع الإمساك بالقلم فترك صفحته كما هي فلن يذكره أحد يومًا ما، ومنَّا من أمسك بالقلم ولكنه لم يتعلم الكتابة فلم يترك أثرًا في نفوس الآخرين لأن صفحته كانت مبهمة فلم تلفت نظر أحد ولو حتى طفل صغير.. وفي النهاية كل الأوراق تجتث من بين جنبات الدفتر وغلافي الدفتر هما السماء والأرض فعندما تنتهي كل أوراق الدفتر يطوى غلافيه على بعضهما)
أدركت أن الشيخ حكيم فى زمن الجنون المبين لكن الحيرة كادت أن تقتلني.. ترى من أي الأنواع ورقتي!؟ وبما أن نهاية كل الأوراق واحدة فلما لا تترك ورقتي بصمة فى قلوب الآخرين!!!!؟ نظرت بجانبي فوجدت طفلاً يجلس على قدمي أمه لا يتعدى الثلاث سنوات ينظر للدفتر بفضول ويحاول الإمساك به.. ابتسمت وأنا أنظر ناحيته ابتسامة مليئة بالأمل وكانت محطتي التي سأهبط فيها قد جاءت فقبلت الطفل وأعطيت الدفتر لأمه وأخبرتها أن تعطيه له..
واقرأ أيضا:
عشرون عاماً ... مضتْ / إني ألف أكرهك.. / ونفترق.. / إليك يامن كنت يومًا حبيبي.. / آه لو يصمتون / صوت الباب / دم الشهيد.. / جزارة على النت / صور صامتة !!