"معهد إيه سيادتك؟!..."
"معهد الكونسرفتوار يا حسن.. إيه ما سمعتش؟؟!!..."
"لا يا فندم سمعت.. تحت أمرك"
"وخد معاك مصور علشان التحقيق يبقى متكامل.. عاوز البروفة بكرة الصبح على مكتبي.. مفهوم؟!!"
"مفهوم يا فندم... عن إذنك..."
أغلق الباب ورائي مغادرًا حجرة مدير التحرير، وفي ذهني مئات الطرق لمحاولة نطق كلمة "الكرسي فراو"؟! لا... ليس هكذا..
لقد نطقها مرتين فقط أمامي، فكيف يتوقع مني أن أحفظها بهذه السرعة؟! بل والأدهى أنه يطلب تحقيقًا متكاملاً عن تخرج دفعة المعهد الجديدة.. مال القراء وخبر كهذا؟! بل مالي أنا وتحقيق كهذا؟!
كان موقفي صعبًا.. صعبًا بحق.. فهأنذا مطالب بعمل تحقيق عن تخرج دفعة معهد لا أعرف حتى كيفية نطق اسمه... وفي زمن أقل من 24ساعة..
أهرع لقسم الترجمة بالمجلة وتبحث عيناي سريعًا حتى تقع علي (بـانـا) دافنة وجهها كعادتها في مجلد ضخم لا أدري وظيفته تحديدًا، وحتى عندما تجرأت يومًا وسألتها، أجابتني بلفظة فرنسية لم أفهم منها سوى كونها لفظة فرنسية...
(بـانـا)...!! اسمها غريب..أليس كذلك؟! لكني أحب وقعه كثيرًا... كما... "إحم"... أحبها هي أيضًا....
"هاي حسن"صباح الخير.."
وقبل أن أجيبها أنه صباح الخير بالتأكيد مادمت قد رأيتها حتى ارتطمت عيناي بوجه أحد زملائها بالقسم يقطر خبثًا وصفاقة.. بالتأكيد الأبله يظنني -كما أفعل في المعتاد- أتيت لرؤيتها، ولا يعلم عمق الورطة التي دفنني بها مدير التحرير……
"صباح الخير يا (بـانـا)!! الحقيني أرجوكِ.."
فأجابتني -كالعادة- بلفظة فرنسية أخرى خمنت أنها: تحت أمرك.. أو خير.. أو أؤمر.. أو أي لفظة أخرى تحمل معني مماثلاً…
وهكذا انطلقت أشرح لها المهمة البائسة التي كُلفت بها، والمطلوب مني إنهائها بعد ثلاثة وعشرين ساعة و ستة وخمسين دقيقة تقريبًا.. وإلا كان خراب بيتي مؤكدًا.
مطت شفتيها متمتمة بلفظة فرنسية أخري افترضت أنا أنها تعني "ماذا أبغي؟"
وعلي هذا هتفت من فوري وأنا أستشعر في نفسي طنًا من السخافة: أولاً: عاوز أنطق اسم المعهد صح من غير لخبطة..، ثانيًا: عاوز شوية معلومات سريعة عنه وعن الدراسة به وأسسها وخلافه… وقلت لنفسي ماحدش حيفيدني غير خبيرة لغات أجنبية زيك……
وكان طبيعيًا أن يلتفت القسم كله إلينا، وتزداد النظرات خبثًا وصفاقة وسماجة مع الضحكة الرنانة التي أطلقتها من أعماقها…
ورغم ذلك.. طفقت تردد لي كلمة "كونسرفتوار" عشرات المرات طيلة نصف ساعة حتى أتقنتها أخيرًا، ثم ألقت علي مسامعي كم غزير من المعلومات التي طلبتها حتى انتهت أخيرًا..
وشعرت بالأسف لأن وقت افتراقي عنها قد حان..
كنت أحبها حقًا.. لكنني كنت أدركت منذ زمن أنه لا ينبغي أن أطمح في المزيد……
وليحاول أحدكم أن يخبرني عن السبب القهري الذي يدفع فتاة رقيقة مثلها.. مثقفة مثلها.. فاتنة مثلها.. أن تحبني…
فتاة مثلها تتحدث الإنجليزية والفرنسية والإسبانية بطلاقة أهلها، وتدرس في حماس رهيب للألمانية واليابانية
وربما عما قريب تدرس اللغة المسمارية……
ما الذي يمكن أن تراه فتاة مثلها في شخصي البائس..؟! ما الذي يدفعها كي تحبني أنا الذي لا أرى في نفسي ميزة واحدة، ولا أملك ثقافتها أو ثرائها أو حتى أستطيع نطق كلمة "كونسرفتوار" صحيحة..
ورغم ذلك لم أستطع الابتعاد عنها…
وأفقت من خواطري حين هتفت بي في رقة متناهية: معقول يا حسن حاجات بسيطة زي دي ما تعرفهاش؟!!!
فأجبتها وأنا انتزع روحي من داخل عينيها: إنني لا أري الأمر بسيطًا لدرجة تجعل الجهل به كبيرة من الكبائر.
ونظرة سريعة لساعتي لأجد أنه قد بقي لي من الزمن حوالي ثلاثة وعشرين وثلاثة وعشرين دقيقة علي نسفي بالطوربيد علي يد مدير التحرير…
وأنسحب من أمامها ولساني لا يكف عن شكرها وقبل أن أبلغ الباب.. نادتني بلفظة فرنسية أخري -صار هذا مملاً- فالتفت لها لتهتف بي: لا تنسى.. "كون.. سر.. فتوار"…… فأجبتها وأنا تائه عبر عينيها: "أيوة، أتنين كيلو خيار………"
خمسة عشر ساعة على تسليم التحقيق للعرض على مدير التحرير…
أجلس في مواجهة السيد عميد المعهد قبل بدء العرض الذي بقدمه الخريجون ولا تنقطع أسئلتي التي زججت بها اسم المعهد بمناسبة وبدون مناسبة.. ناطقًا إياه بكافة اللهجات الفرنسية…
ودعوت لـ (بـانـا) من أعماقي....
وهكذا حتى بدأ العرض واندسست في مقعدي وفي يدي أوراقي وقلمي عازمًا علي إجراء تحقيق ممتاز من شأنه جعل مدير التحرير يستقيل من شدة غيرته..
إلا أنني تنبهت إلى حقيقة في غاية الأهمية ألا وهي أنه ينبغي لي أولاً أن أفهم شيئًا مما يجري أمامي كي أستطيع كتابة أي شيء.. فقد كان الغناء باللغة الإيطالية كأي أداء أوبرالي يحترم نفسه.. الأمر الذي جعلني أتساوى ومقعدي في مزايا كثيرة..
إن الهدير لرائع حقًا، إلا أنه ينبغي أن أفهم شيئًا لأكتب التحقيق..
حقيقة.. لقد دربني العمل الصحفي على التحلي بتسامح يصل لحد العته في مواقف كثيرة، أقلها شرًا ما أنا منغمس به الآن… فهأنذا مطالب بإجراء تحقيق عن شيء لا أدري له رأسًا من قدم ومعلوماتي عنه تقارب الصفر، إن لم تتخطاه سلبيًا، وفوق كل هذا.. مُعّرض للإعدام بالغاز أو المقصلة أو النسف بطوربيد حسبما يتراءى لخيال مدير التحرير إذا لم يجد التحقيق علي مكتبه صباحًا..
المشكلة هاهنا أني لا أراني قد ولدت أرقص الباليه أو أن حنجرتي قد انفلتت يومًا بغناء أوبرالي ليتوسم فيَّ مدير التحرير صلاحية لموضوع كهذا..
ورغم كل ذلك العناء إلا أنني كنت مبهورًا كطفل، منتبهًا.. يقظًا.. مُتذوقًا لجمال ما وسط كل هذا الهدير.
إلا أنه في وقت ما.. كنت قد وصلت لدرجة لا توصف من الملل، وهكذا.. ألقيت أذنًا لجارتي الحسناء -كأي صحفي يحترم مهنته- التي أخذت تتحدث عن روعة المصنف 90 من مقام مي الصغير…
(أفندم ؟!!!!)
واسترسلت جارتي قائلة شيئًا ما بالفرنسية
وامتلأ رأسي بصورة (بـانـا)………………
ولم ألبث أن مللت الأمر بأكمله.. فألقيت عينيّ -كأي شاب يحترم نفسه- وتشاغلت بتأمل ساقَيَّ هذه العازفة أو تلك.. وقد أدركت مصيري الحتمي علي يد مدير التحرير… ونظرة سريعة لساعتي أنبأتني أن موعد نسفي سيحين بعد اثنتي عشر ساعة تقريبًا…
أشعر بالجوع……!! لقد استغرقني الحفل رغم كوني لم أفقه به شيئًا حتى بدأت ديناصوراتي في الزئير، أظن أن "بيتهوفن" نفسه لو كان قد قضي ساعتان ونصف هاهنا لكان قد انطلق منذ زمن لإخراس ديناصوراته هو الآخر -إن كان يملك بعضها-…
وفي الشارع.. وجدت نفسي أخيرًا ومن حولي الناس الذين أنتمي إليهم حقًا… ولكم شعرت بالألفة وهم يملئون الشارع من حولي صخبًا ومرحًا.. يتصايحون.. يضحكون.. يتشاجرون..
هذه هي حياتي حقًا…
"كتّر الطحينة وحياة والدك………"
أجلس لأخرس الديناصورات في معدتي حتى……
"أتفرج يا بيه.. اتفرجي يا ست.. بعون الله أحط النار في بُقي تنطفي.. أنفخها تولع…"
"اتفرج على المهارة والشطارة وشخلل لي جيبك، واحدف لي بريزة ولا شلن…"
وتركت طعامي وقد عافته نفسي…
"اتفرج كمان على (سعيد هركليز)…… اللي بينام على سرير المسامير من غير نزف ولا تكسير…"
وشعرت بغثيان عنيف يجتاحني… فشتان بين ما كنت أشاهده منذ ساعة أو ما يقل وبين ما أراه الآن..
كان الفارق ضخمًا.. ضخم للغاية حتى أنني لم يمكنني احتواءه…
"اديني حاجة الله يخليك……"
قالها صبي حال لونه إلى السواد، وهو يمد يده إلىَّ… وتحول شعوري بالغثيان إلى ألم مشفق، وأنا أدفع إليه بما تبقي من طعامي……
كان يكفيني أن أرى في خيالي صورة طلبة الكونسرفتوار المهذبين من أطراف رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم.. تستشعر بهم الثقافة والرقي.. وبين هؤلاء الصبية الذين استحالت أجسادهم إلى قار أسود بفعل عوامل كثيرة
يكفيني أن أري طلبة الكونسرفتوار يستخدمون أصواتهم "التينور" و"السوبرانو" في براعة لإسعاد جمهورهم.. وهؤلاء الصبية الذين استخدموا الماء والنار في براعة مماثلة للغرض نفسه..
فارق ضخم لا شك في هذا…
بين جمهور يرتدي الحُلل الأنيقة والفساتين الراقية التي تفوح منها رائحة "الشانيل"… وبين جمهور يشاهد وهو يلوك الفول والطعمية وقرون الفلفل سراعًا ليخرس ديناصوراته..
فارق ضخم للغاية.. استشعرته من خلال حُبي لـ (بـانـا) مرارًا… وأدركت معه قانون المكيالين الذي تكيل به الحياة… وكنت واقعيًا لأبعد الحدود حين اكتفيت بحُبها دون محاولات عنترية لفعل المزيد.. لأن فعل المزيد كان يعني كوني محتالاً… لا أكثر..
أحاول كتابة التحقيق.. أحاول بكل جهدي، إلا إنني لم أستطع… فلم يكن من السهل عليَّ أن أصف وأدوّن صورة بعيدة عن أذن وعين أناس مثلي…
صورة بعيدة عنهم لن يروها إلا من خلال قلمي، أنا الذي لا أتميز عنهم في شيء.. أحيا بينهم وأتنفس معهم وأعيش بينهم.. أجابه مشكلاتهم وأرى مصاعبهم… لأنني منهم……
لم أستطع فجأة أن أنسلخ عنهم بهذه الطريقة فأصف لهم واقعًا بعيدًا عنهم… واقعًا قوامه الأوبرا و"التينور" و"السوبرانو" و"الشانيل"…… بينما هم يعايشون واقعًا مغايرًا تمامًا……
وهكذا… غير عابيء بما قد يحدث لي.. طفقت أكتب تحقيقًا مُختلفًا تمامًا… مُختلفًا حتى أنه………
"إيه ده يا أستاذ إن شاء الله؟"
نطقها مدير التحرير وعلي وجهه تعبير لا يوصف وإن كنت قد رأيت وجه فيل غاضب ستفهم ما أعنيه…
وهمست: "دي بروفة التحقيق يا فندم …"
فصرخ كمن يُنتزع لسانه: "تحقيق إيه؟"
"تحقيق عن عمالة الأطفال يا فندم……"، قلتها وأنا أستعد للموت………
إلا أنه استأنف الصراخ فقط -يا للعجب- صائحًا: "إنت بتشتغل على مزاجك؟"
وطرق على سطح مكتبه بعنف صارخًا: "مخصوم منك عشر أيام، والتحقيق اللي طلبته يبقي علي مكتبي كمان ساعة… أتفضل يا أستاذ…………"
وأخرج من المكتب وأستشعر نفسي -رغم كل شيء- بطلاً…
وفي مكتبي أجد (بـانـا) آتية نحوي والقلق مرتسم علي محياها.. وهتفت بي: "هاي حسن.. إيه اللي حصل مع مدير التحرير؟"
فأخبرتها بالأمر كله، وأنا أحاول انتزاع روحي من عينيها ككل مرة ألقاها.. فهتفت بالفرنسية: برافو.. ثم أضافت: "الثبات علي المبدأ من شيم الأبطال"……
قالتها وعيناها ثابتة لا تتزحزح عن عيناي، تسلبني روحي… وتهيب بلساني أن ينطق……
لكني لم أستطع……
وانصرفت… تاركة إياي مع القلم والأوراق… وطفقت أنظر إليهم بعمق…
وامتدت يدي إلى قلمي والتقطت ورقة أحاول بها أن أحل بها الأمر من جميع الجهات ………
وكانت استقالتي …………
واقرأ أيضا:
العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر/ حتى آخر الصلصال/ كوفاد/ حيث في كلّ خطوة قمر مكسور/ محاولة أخيرة لقهر الزمن/ نصف روح! / قصص قصيرة جدا