حين تقدمت سيارتنا إلى شوارع المدينة المنفتحة كلٌ على الأخرى، والتي كانت تطل على بحرها الواسع الذي لم تفلح أي من الطرق في الاختباء منه، كانت عيون الناس تستهجن اندفاعنا المستمر نحو المدينة وتتوسل الرحمة بالاحتشاد المؤلم نحو أي غريب لاختطاف ما يحمل.. ربما كان منجدًا لهم من هياكل الجوع، ومنقذهم من قسوة المفاجأة..
لم أكن أدري ماذا أفعل فلم أر هذا المشهد من قبل.. تلك الأجساد التي وقفت في انتظار المجهول، واحتضان الغريب.. مشهد لم أره على شاشة الطبيعة إنما على الساحة المرئية.. وكان طبيعيًا أن تغطي الأخيرة شيئًا من اليأس وتحجب عنك صرخاتهم الكامنة في بعضهم أو المتجلية في البعض الآخر..
لم يقفز إلى أفكاري التي ارتبكت أشد الارتباك حين رؤيتهم إلا سؤال: "ماذا يمكن أن يحدث لي؟"
وأنا لا أقصد نفسي ولكن بني جنسي عن بكرة أبيهم، فتوقعاتنا لن تخترق فضاء القادم ولن تجاوز حدود المعقول الذي نحيا دائمًا لجعله متفائلاً كما لو كنا نرقص على زجاج منثور وننفي في أطواءنا شيئًا مؤلمًا كالوقوع مثلاً!
طبيعة الإنسان التي تجسدت في صورة هؤلاء الواقفين منذ عدة أيام لم تتدارك أن وراء الإنسان قوة أكبر و سيادة أطغى تستمقع البشرية..
استكملت سيارتنا المضي، وسافرت الصور في طريقها كما القمر بالضبط حين يسافر معنا فنراه في كل أنحاء الأرض..
كان وقوفنا لا يكمل ثلاثين دقيقة، نوزع خلالها الأطعمة والمشروبات التي حملناها طيلة الطريق على أمل ألا تؤثر عليها كارثة الطبيعة هي الأخرى.. وأخيرًا استردت السيارة سكونها، وأنزلنا آخر الأمتعة التي حملنا في منطقة شبه مجردة من الماء والأخضر: لقد آبت المياه إلى مجراها وأبعد.. جزرت حتى ابتعدت عن ضحاياها بعدة بوصات، بعد أن فجرت دمارها مياه مقتحمة الوجود الإنساني، متطفلة على كينونة الفرد، سارقة لكل ما كان جميلاً.
يا إله الكائنات لقد امتدت المياه إلى نفوس الأفراد، أرواحهم التي رأت الحياة كمرقص من قبل تراها الآن كمنفى بعيد، بعد أن باعدت التوائم، يتمت الاطفال، فرقت ما بين المحبين
أنا كمصور.. أتيت لأصور الموت، وأنقل قصته التي يزهو بها بين أقداره.. لست لأسأل الناس "ابتسموا" أو أحك قصتهم إلى الغير.. لا.. أنا هنا كالجراح تمامًا.. لابد أن أقولب قلبي بكل مايحمل في قالب من ثلج، لابد أن أبحث عن المأساة لا لتحك لي تاريخها وإنما لأريحها بالقضاء عليها..
كلٌ منا أخذ يبحث عن حالة على فراش الموت أو داخل لحاف المرض، أما عني فلم أكلف نفسي عناء البحث عن جثة في طورها الأخير.. ولا عن حكاية ميتة دفنت في جيوب الكفن..
لأني أعلم أن تلك القصص موجودة الآن في أسواق البشرية، ولكن كان بحثي تقوده نفسي أكثر منه عملي.. أنا لا أريد أن أصور وجوه.. ولا أنقل الشكوى أنا أريد من ينقل إلى روحي إحساس الظلمة الذي أتجاهله بحكم عملي..
أدغلنا وسط المدينة والخيم التي نراها الآن بدلاً من البنايات، وكان الرفاق يستوقفون أي شخص يدفعه حزنه الوضاح للتلهف على رواية ما حدث له أو لغيره فقد كان الصمت يملأ المكان عكس ما توقعناه.
كنا نسير فنرى من شدة العجب أشخاصًا يضحكون يلتفون حول خيمتهم، خارجها.. كأن ما حدث لم يحدث وكأن الحياة لم تمت بين ظهرانيهم، ونرى آخرين واجمين وصامتين يحتضنون رؤوسهم بين كفوفهم كأن الصدمة أرجعتهم صمًا بكمًا عميًا..
ولكنَّا سألنا أحدهم إن كان يستنجد بالبسمة أم كانت هي تستنجد به.. فأجاب: "لن تصدقوا ما حدث، لقد كنت حينها في العمل أدرس للطلاب بالمدرسة.. ليست قريبة تمامًا من الساحل.. وحين دبت الأرض تحت أقدامنا تعلن عن مجيء المأساة كنت قد هربت بعيدًا ولم أعد إلا بعد انتهاء الحادث أراهن نفسي وأنا أكيد أنني فقدت عائلتي وبيتي وكل شيء.. ولكني أخذت بذابلة الأمل داخلي وجعلت أبحث.. وكانت نعمة الله علي أن وجدت زوجتي فاقدة الأمل تبحث عني بنفس الدافع هي الأخرى.. أنا أعلم أنني أحسن حظًا من كثيرين غيري ولكني لست سعيدًا كما ترون..
"كل شيء تغير.. البلدة كلها.. الاقتصاد.. الموقع.. الناس.. دفعة واحدة بيدي الطبيعة يمكنها أن تغير مجرى الإنسانية" قال آخر..
سرنا فرأينا.. كل شيء بوضوح الشمس.. يصعب علي تصديق ذلك..ماذا يفعل إنسان يميل إلى العزلة ويهوى الانطواء؟ ماذا يفعل ذو العاشرة مع وحدته التي قضت عليه بأن يرفع عنه الطفولة ويكللها بالمسؤولية إن مات أعز من يحبه.
لماذا.. لماذا يمكن أن يكون ماحدث؟ ترى أهو غضبٌ من الخالق؟ أم أنها الطبيعة الملول لم تتقبل رحمة الرحمن فتحركت هي عن غضبِ وسوء سخيمة للإنسان؟
وعلى هذا الحال.. كان طريقنا.. نمشي، نقف، نتحدث قليلاً، نبكي، نضع أكفنا على قلوبنا ثم نعود كما كنا وهكذا دواليك..
ولكني انفصلت عنهم، فضلت أن أسكن مع نفسي وأمنطق الأمور علي أعتبر وأتعظ وأرى الحقيقة وأرى الدنيا في مرآتها..
انتهيت في سيري إلى قطعة من الأرض ليس عليها الكثير وكلهم ذات الوجوه التي رأينا من قبل إلا وجهًا واحدًا.. وجه طفلة صغيرة تجلس على مقعد خشبي مع وحدتها، لم أر فيها شيئًا يجعلني أتأكد أنها طفلة سوى حجمها الضئيل ووجهها المتضائل.. لم يدفعني نحوها غير تجاهلها للكبير والصغير وتجاهلها لرغبة الإنسان في الانشراح الدائم رغم ديمومة الانقباض التي تقامر به، تجاهلها للبحر الذي يخاطب كبرياءها بقوافٍ من الصمت يملؤها التحدي.. هو البحر وهي الطفلة.. هو الكبير وهي الصغيرة.. هو مغرق وهي غارقة.. ولكن ينتهي النظم بالاستسلام "هو مخلوق.. وهي مخلوق".!
تحركت نحوها لأصورها.. تجاهلتني أنا الآخر.. ظلت على نظرة التحدي التي يمكن أن تكون قد تكرمت بها إلى مصور آخر قبلي.. سألتها "ما اسمك؟".. لم تجب.. لم تتكلم أو تحرك ساكنًا..
في ذلك الحين تقدمت إلينا امرأة قلت في نفسي "هذه أمها بالتأكيد".. سألتها "هذه ابنتك؟"
أجابت بالنفي: هذه ليست ابنتي، لقد وجدناها أنا وزوجي على الشاطيء وكانت تصرخ بطريقة هستيرية.. وتنادي أمها وجدتها ولم نعرف اسمها للآن.. فقررنا أن نتبناها لأنا لم نجد أحدًا يسأل عنها وهي لم تدلنا على أحد..
سكت لم أعرف الاجابة، فاستطردت السيدة:
بعدها لم تنبس ببنت شفة ولم يتحرك لها رمش.. نعتقد أنها صدمة ما بعد الحادث
حينها تدخل أحدهم قائلاً: أعتقد أنها تعاني من اضطراب الشدة ما بعد الصدمة.. الكثيرون هنا كان لهم النصيب منه.. هذا المرض يصيب أغلب الناجين من كارثة كهذه تسببت في الإبادة الجماعية.. أظن أن هذه الطفلة رأت أحدًا ممن تحب يموت أمام عينيها مما أدى بها إلى هذا الصمت والحزن القاسيين.
تساءلت بفضول المتلهف إن كان هذا المرض النفسي يحمل خلفه دواء له؟
ورد الرجل: لا أستطيع أن أجزم أن علاجه سريع.. لأنه ممكن أن يستمر إلى أكثر من عامين.. وقد يصيب الكبار بزهد الحياة وازدراء الملذات كما يلصق فيهم ذنب النجاة..
واستمر الرجل في الشرح: قد يعود الأطفال لعادات كانوا قد كفوا عنها قبل الصدمة كمص الأصابع والتبول.. لذا فعلاجهم صعب..
نظرت له السيدة في تعجب واستنكار كأنها اشمئزت من عينه الضيقة التي نظرت إلى الفتاة بحكم العلم وليس الشفقة.. وقضت على صمتها بفترة سجن طويلة الأمد وليست قصيرة..
وراحت تحتضنها بشدة والفتاة لم تبد أي تجاوب.. لقد كان صمتها في حد ذاته منبع الانفعال.. حيث فرضت من خلاله طريقة خاصة للتعبير عن الموت..
وراحت تبكي وهي تقول: لقد أسميناها "إينول" وهو يعني البحر في الأساطير القديمة.. لا أعرف لماذا انتقينا هذا الاسم دون غيره!.. ولكنها لم تع ِ غير البحر ولم تخاطب أحدًا سواه.. على الرغم من أنه ضررنا كما لم يضر أحدًا من قبل ولكنه أمين رزقنا مؤمن حاجاتنا..
- ألا تخافوا أن تكره اسمها حين تينع ؟
-..لا أعرف، ولكنه سيذكرها دائمًا بنفسها..
..لم أدر ماذا أفعل غير البكاء.. والصمت مثلها..
وحين جلست بجانبها على ذلك المقعد الخشبي الركيك -ورنوت إلى وجهها البريء الذي يحمل كثيرًا من الحزن وشعرها الذي مازال مبللاً من أمواج الغرق القاتلة التي حاولت أن تجعل من بني آدم مخزنًا تزهو به فقد ملت الجيف ومخلفات الإنسان العديمة الفائدة- أحسست بنفس شعورها يخالجني.. يقتل الأمنية كما لو يحيلها على المعاش!.. يتغلغل كأنه السم ويفرض نفسه كأنه الدواء.. لماذا؟ سؤال يطرح ذاته ولا يطرح الجواب..
في ذلك الحين.. سمعت الرفاق ينادون علي بالرحيل..
"هيا يجب أن نذهب"..
هممت بالقيام.. ولكن شيئًا ما جذبني مرة أخرى إلى مقعدها، إلى جانبها.. يمكن أن يكون حزنها وإشفاقي "شعرت أنها ابنتي لوهلة"..
وماترددت في تحقيق هذا الشعور.. أنا لن أذهب
لن أذهب.. لماذا أذهب.. مالذي ينتظرني.. في أي مكان في الدنيا سوف يترمل الشعور بالحياة آجلا أو عاجلاً
قررت في نفسي "سأتبناها أنا"..
وحينها شعرت بشيء من الاستقرار..
"عودوا أنتم.. أنا لن أذهب"..
أدرت ظهري إليهم مؤكدًا على ما قلت ورحلوا تاركين إلي نظراتهم الداهشة..
جلست مرة أخرى بجانبها.. احتضنتها وهي مازالت شامخة بصمتها رغم نعومة أظافرها..
نظرت وإياها إلى البحر في ازدراء.. فعلت مثلها.. وعاودت الصمت..!!
واقرأ أيضاً :
عندما أموت / نهاية / لا تفضحيني / دموع الياسمين / دمعة هاربة / القرارُ الأخير !! / حزنٌ لا ينتهي ! / أدمع لا تجف!! / لا ترجعي / قصيدتي الأخيرة!