- لا أرجوك يا أمي سأشتري من أي رجل آخر
- لا ستذهبين إلى الباشا
- أرجوك يا أمي أستحلفك بالله إنه حاد النظرات قاسي التعاملات إذا تنفس أحد بصوت مرتفع يكاد يقتله بنظرته تلك، لقد صدق الناس حين لقبوه بالباشا، كما أنني أجد عنده ازدحاما شديدا وكأنه يوزع سلعته على الناس دون مقابل
- طبعا لأن حاجته نظيفة وغير مغشوشة، كما أنه أمين ولا يطفف الميزان.
وبعد محاورات ومناقشات ومصادمات بيني وبين أمي، استعطاف من جهتي وإصرار من جهتها، أذهب والدموع تملأ عيني وغصة في حلقي أتجرعها ، ولم أكن لأجرؤ على الشراء من غيره فسلعته لا تضاهيها سلعة أخرى في الأسواق .
لم يكن الباشا سوى علاف يبيع الحبوب (أرز – فاصوليا جافة – مكرونة غير معبأة ...) ولم يكن بالرجل الفحل الطويل القامة عريض المنكبين ، بل كان على العكس من ذلك تماما، كان نحيلا معروق الوجه جامد القسمات عبوسا لا تعرف الابتسامة طريقا إلى شفتيه يكاد شاربه يطمس ملامح وجهه يرتدي جلبابا أبيض وعمامة تخفي شعره إلا الفودين فاحمي السواد فلم يتجاوز الثلاثين من عمره، ومع ذلك كانت الناس ترتجف منه، يذهب إلى السوق في الصباح الباكر ينظف رقعة أرض يفترشها بملاءة بيضاء كملابسه لا تتسخ أبدا ثم يرص بضاعته في أجوال نظيفة على هيئة دائرة يجلس في وسطها لا يتكلم مع أحد، يناول كل (زبون) ما يريد دون كلام ولا يسمح لأحد بأن يرفع صوته فإن فعل رمقه بنظرة نارية حادة كالسهم تخرسه في الحال ...هكذا كان الباشا لم تمح من ذاكرتي صورته وظللت عمري أسأل وأتساءل لماذا كان الباشا على هذا النحو؟!،
وكلما كبرت قل خوفي منه وازداد فضولي لمعرفة حقيقة هذا الرجل وقد كان. فلم يكن سوى إنسان صاحب كرامة وضمير ويدين خاويتين، وزاد إعجابي به، بل أخذت أفكر في نظرته الحادة فوجدتها نظرة شموخ وكبرياء نظرة تحدي لكل هؤلاء التجار ذوي المحلات البراقة والضمائر الميتة لا يعرفون من فن التجارة سوى بيع الكلام ولم تكن محلاتهم تحوي سوى المغشوش المزركش من السلع، واستطاع بمفرده وحجمه الضئيل أن يغزو السوق الذي لا يرحم، أن ينافس هؤلاء المزورين المزيفين أصحاب النفوذ والمال والسلطة كان الواحد منهم كفيل أن يهدده ويطرده،
لكن أحدا لم يجرؤ ولا أدري لماذا هل لأنه كان يملك ثقة غامرة بنفسه ؟ هل لأنه يملك قرار نفسه ولا سلطان لأحد عليه ؟ هل لأنه صاحب حق وأن أصحاب الحقوق حتما تشع منهم قوة ترعب أهل الباطل ؟ ...لا أدري كل الذي أدريه أن هذا الرجل استطاع أن يدرك بإيمانه بنفسه وبحقه وبكبريائه وشرفه ما لم يدركه أصحاب النفوذ والمال والسلطات .. لكم أنا في حاجة شديدة لأن أراك اليوم ... فأين أنت ... أيها الباشا
واقرأ أيضا:
السهل الممتنع / طيارتي الورقية / حوادث مصر المحروسة / ما بعد حرب لبنان / الأستاذة عزة تقول.... / الكلمة