بين أهل الحيّ، سرت همهمة حية حيوية ساخنة سريعة، خفيفة، عبقرية، كأنها الخبر الطازج، الفضيحة الجديدة، الفيروس القوي، الإشاعة المتمكنة، التسالي اللذيذة، العدوى الكامنة الهادئة المكتومة. السر عندما يذاع، والسؤال بلا إجابة.
أو علّ الأمر قد أصبح حالة تؤنس الناس، تشغلهم، وتلهيهم، حالة تظهر في إيماءات الرءوس، تلويحات الأيدي، نظرات العيون. دارت وتدور حول شادي عبد الموجود، ذلك الكائن القاطن في الشقة الكبيرة على يمين السلم في الدور الثالث من تلك العمارة العتيقة.
كان ساكنًا قديمًا جديدًا متنقلاً، يأتي في زيه الميري، بدلة بوليس بيضاء في الصيف وسوداء في الشتاء، مرتديًا الكاب المميز أحيانًا، وأحيانًا أخرى حاسر الرأس، تظهر صلعته جليّة.
كان نحيفًا طويلاً تنقصه اللياقة التي عادة ما تميز الضباط قبل تقدمهم في السن، وكما كان الزي الميري، كان اللبس الملكي، غير مهندم، متسخ، تبدو عليه البهدلة واضحة.
أما رتبته فلم تكن صغيرة توحي بأنه ضابط تحت السلاح (أي شاويش مزمن، ترقّى بعد طول العمر)، ولم تكن للواء أو فريق مثلاًً لكنها كانت لعميد، رتبة تناسب سنه إلى حد ما. عمومًا كان شادي عبد الموجود بهيئته المتبدّلة تلك، القائمة اللون والشكل، لكنه كان دومًا ينزل من الأتوبيس من محطته المقابلة للعمارة. كان السائق يتبادل النظر مع الكمساري متفحصًا ذلك الكائن الحي عندما يطلع وحينما ينزل، وحينما يضغط على أسنانه لتخرج كلمته (بوليس)، أو (شرطة) أو (مصلحة) تصطك في فكيّه، تصطدم بلحمة شفتيه من الداخل، وكأنه يريد أن يبصقها.
لذلك تعلم الكمساري وكذلك السائق وبعض الركاب المنتظمين على ذلك الخط ، تعلموا أن يلتزموا الصمت، غير أن الكمساري كان يتوق للغاية إلى معرفة كنهه وسؤاله عن الكارنيه، فثمة إحساس غريب تشارك فيه أهل الحي وركاب الأتوبيس، على أن الأمر لا قد يكون خدعة، ولربما كان الكائن مجرد كومبارس أو لبيس لرشدي أباظة وعز الدين ذو الفقار أو محمود حميدة في أفلامهم الجميلة، وهم يرفعون هاماتهم وورائهم كوكبة من العساكر الغلابة. ينقر بشدّة على شراعة الباب القزاز، لكي يفتح أهل البيت ويفزعوا ويهرعوا مع باقي السكان بعيدًا. وقد يكون نصابًا محترفًا، وربما كان شيئًا آخر غير ذلك.
باختصار كان شادي عبد الموجود مريبًا للغاية، غذى بوضعه ومشيته الهمس والغمز واللمز، شغل ما يمكن أن يكتم فلا يقال، بين صاحب وصبية السوبر ماركت الملتفون حوله، الباعة الجوالون، العيال السريحة، وصبيان المكوجية، وكأنهم كلهم قد كونوا شبكة استخبارات وهيئة استعلامات تحاول فكّ الطلسم، حلّ اللغز والإجابة عن كل الأسئلة المعلقة.
ظلّ شادي عبد الموجود كائنًا شديد الغرابة والغموض، لكنه امتلك أيضًا سحرًا خاصًا، وعلى ما يبدوا أنه كان مستمتعًا بما يحدث. يأتي إلى شقته شبه المهجورة. الباردة، الوسخة على فترات وكأنه في مهمة؟!
يدخل العمارة من بابها الحديدي الصدئ نصف المغلق، نصف المفتوح، يعدّي على مدخل البيت الرطب بخطوات محسوبة، ينظر بطرف عينيه إلى غرفة البواب المفتوحة دائمًا، يلحظ البواب الطويل العريض المالئ مكانه كالفلق، وعلى الرغم من أنه كان نادر التواجد إلاّ أنه ملأ باسمه وصيته وزوجته وعياله المكان ضجة وحيوية، كانت زوجته الموردة الخدين دائمًا لهلوبة ومشتاقة إلى المعرفة وفك الأسرار، ومعها أولادها الثلاثة المتبقين بعد هجرة الأربعة الكبار ما بين زواج وعمل وسفر.
لم يخف شادي عبد الموجود حسده للبواب، متعته، هيبته، عزوته، طاقته وشعبيته وعياله، على استمتاعه الباري بالتلفزيون الصغير والدش الصغير الجديد الموبايل الذي اقتناه ودعا كل من هبّ ودبّ إلى اللعب به والتفرج عليه، وبالطبع إفساده وتعطيله.
لم يكن الكائن شادي عبد الموجود يملك شيئًا، يفتح باب شقته فيصرّ صريرًا جنائزيًا، يدخل إليها كأنه يدخل إلى بيت الرعب. يضيء النور الأصفر المهزوم، يجلس على الترابيزة القديمة، يفتح علبة السردين، يغمس الخبز بالجبن الأبيض، ويحليّ بالعسل الأسود. ثم يهرع إلى غرفة النوم يجرّ رجليه بحذاء معفر منبعج الأطراف، منحول الكعب، مشقوق الجلد، وشراب نتن يلم قدميه، يستلقي على سريره الرطب محملقًا في فضاء الغرفة وسقفها المتآكل الطلاء، اختفت قدرته عل الرصد والتحليل والتنكر فازداد بلادة، تداخلت الأشياء والأسباب، بحيث لم يعد قادرًا على معرفة كُنه تعبه، وما الذي يجب فعله لكي يتحسن... تساءل بينه وبين نفسه، هل سبب تعبه حياته الماضية، أم الحاضرة، لماذا تدهورت علاقته بأمه ودخلت مساحة الكُره، لماذا تخلّى عنه الكثير من أصدقائه وهل هو بكل محدوداته النفسية والعقلية المتصارعة المتجادلة مع إمكانياته المتاحة قد سقط صريعًا ليعيش فقط، يأكل، يعمل، يتبول، يقضي حاجته وينام. تململ في نومته الغريبة على حافة سريره العتيق، وكأنه يخاف من الفراش ومن فكرة استغلال مساحته كلها.
تنهد متسائلاً، هل كان حقده على نفسه وعلى الآخرين أكثر مما تصوّر، هل هُزِم وأصبح معقدًا لا يتحقق إلاّ من خلال المقت والقنوط وبعض أحلام اليقظة.
نعم لقد أصبح شادي عبد الموجود مثل الرماد بعد الحريق، لا يتمكن من الاحتراق أكثر، تذكر شبابه هذا الذي كان متفجرًا إبداعًا وعاطفة، فشل في حبه، ومات إبداعه، فتحجر وتكلس ومات وعيه. وتحول إلى شخص بليد، تختفي معالمه كل يوم حتى أصبح (حلة محشي).. نعم، كما قالت له عبلة زميلته: "إنت يا شادي بقيت بالفعل مجرد حلة محشي !".
يجلس متسمرًا أمام شاشة التليفزيون، يشاهد فيلمًا أو اثنين أو ثلاثة دون تفكير، دون رأي ودون تحليل.
قام من على سريره، تلصص من فتحات الشيش على المارّة وسكان العمارة المقابلة وهم يحيون حياتهم بكل ضجيجها ولوعتها، وهم في المقابل كانوا ينظرون ناحية شباكه راصدين عينيه وتجسسه. كان يشعر برعب حقيقي من الخواء. دخل عالمه الحقيقي في ثنايا عالمه غير الحقيقي، فتولد منه هذا الكائن الحيّ، الذي ينتظر موته.
**********
شدت المطربة اللبنانية ذات القبعة الواسعة، بكلمات عن (المصري) و(المصريين)، وعن أنهم بالفعل وحقًا وأكيد (ملوك الجدعنة). وصل إليه الصوت واللحن مرةً من عند الجيران، وأخرى من عند الفاكهاني، وثالثة من سيارة عابرة متمهلة يقودها فتيان ترفع العلم المصري الساتان اللامع بعد فوز المنتخب الكروي بكأس الأمم، تأنى في الإنصات محاولاً الاستماع والاستمتاع:
لو سألتك إنت مصري تقوللي إيه؟!
تقوللي مصري ابن مصري
وابن مصر الله عليه
ملوك الجدعنة
ودي حاجة في طبعهم
أنا مصري .. وأبويا مصري
بسماري ولوني مصري
وكل مصري الله عليه!
وقتها كان يخلع ملابسه استعدادًا لارتداء البدلة الميري، لزوم الشغل (أي شغل)، لكنه توقف، تمهل، حدّق في مرآة الدولاب نصف المظلمة، المشروخة. كانت قد فقدت قدرتها على عكس الصورة صحيحة. لاحظ نحافته غير العادية، ساقيه كعود القصب، ركبتاه البارزتان جدًا ككرتين عظميتين، بعض ضلوعه، بطنه المشفوطة إلى الداخل، ذراعيه الرفيعتين ... تأمل نحوله وضمور عضلاته. أخرج من دولابه الفوضوي جدًا مجموعة هلاهيل مختلفة الشكل واللون، ارتداها فوق بعضها، وكأنه البلياتشو، راقات فوق راقات، داخلي على خارجي، صيفي على شتوي، دون تفكير، حتى صار منتفخًا، أعجبته الهيئة، ارتدى فوق ذلك البدلة الميري البيضاء، وضع الكاب فوق رأسه، وعلى الرغم من أن رقبته النحيلة جدًا كانت قد كشفته، إلا أن هيئته الجديدة أعجبته للغاية فمشي يتراقص ويتهادي ويتمايل مدندنًا:
يا رب تحميها .. مصر
يا رب خلليها .. مصر
انصرها .. عليها
واحميها من كل شرّ
كان يصرّ ويجزّ على أسنانه مخرجًا أنفاسه وطاقته من صدره وحنجرته، وهو يهتف في ختام الكوبليه: مصر. وكأنه بالفعل كان محتاجًا لأن يحزق وينتفخ ويتورم، يصيح ويتشنج. تمشى حتى باب الشقة، فتحه ثم أوصده خلفه فصرّ صريراً مخيفًا. نزل على السلالم مهابًا كبيرًا حتى وصل إلى الردهة، نظر بطرف عينيه إلى غرفة البواب؛ فوجد أولاده الثلاثة المتبقين يضحكون ويتغامزون فلم يعرهم اهتماما، ومضى يمشى مشية الأوز، ذراع فوق ممدودة، وذراع تحت إلى الخلف، ساق ممدودة بطولها تدب بالكعب على الأرض، والأخرى تستعد، كان كل شيء مشدود وممدود، الرقبة الرأس العنق والجسم .
عدّى الشارع فسرت الهمهمة وتنقل الخبر بين الفاكهاني وصاحب السوبر ماركت وصبيانه، وصبيان المكوجية ... دار في دماغه ديالوج سريع لم يعرف كيف يوقفه:
(شادي عبد الموجود، إنت ضيعت عمرك ليه؟ عمرك الطويل اللي عشته، عشته ليه ؟!ربنا ها يحاسبك عليه، ها يحاسبك على فلوسك، صرفتها في إيه. صحتك عملت فيها إيه؟ المصيبة إنك عامل ناجح، لكنك كائن غريب عايش بشكل عشوائي، أيوه، ما عملتش حاجة خالص، لا نفعت نفسك، ولا نفعت أهلك، أهلك اللي عملوك ودخلوك الكلية عشان تبقى بيه، طيب إنت عملتلهم إيه، إنت إنسان فاشل في كل حاجة... يا الله رغم الهيئة والهيبة أنا مش عاجب نفسي خالص، حتى لو تخنت بالهدوم، حتى لو غنّيت زي نانسي عجرم، المفروض أكون نافع لأهلي، أنا هربت من بلدنا وجيت أعيش في أوسخ حتة في مصر. المفروض إن أنا صاحب سلطة ومكانة، لكن الحقيقة إن أهلي الفلاحين البسطاء لسَه بيصرفوا علىّ، الناس بتقولي يا سعادة الباشا، وأنا لا باشا ولا حاجة، أنا قناع محشي هدوم، أنا حلَة محشي طعمها وحش، وفي تناقض كبير جداً بين الظاهر للناس وبين اللي جوايا. الحتة دي عاملة لي واقعة جامدة .DROP أنا مش عاوز أتحمل أي حاجة، لا جواز، ولا سواقة عربية ولا حاجة، باتحجج بكل حاجة، ما قدرش أتحمل مسؤولية أسرة وأولاد، راضى بالأكل المعلب، والعيشة الهباب في الشقة المخيفة.
لو تجوزت واحدة هتقوللى ودّيني وفسحني وهات لي وأكلني ونام معايا، وأنا عارف إني ربما افشل معاها، ... لأ... مش ربما.. ده أنا ها فشل معاها، وبعدين أهلها يحاسبوني ... أتهزأ واتبهدل، لكن لما تيجي واحدة شرموطة، مومس، خمس دقائق، يبقى نفعت نفعت، ما نفعتش ما نفعتش، ها تاخد الفلوس في ساعتها، واللا حتى ما تاخدش، هاتتكل على الله، لا تعرفني ولا أعرفها، لكن الزوجة تبقى حكاية. لو تكرر معاها الإخفاق، مرة اثنين وتلاتة، شكلي ها يبقى وحش. عشان كده أنا بهرب من حتة الجواز دي. الإخفاق والفشل مش جديد عليَ. الإخفاق الجنسي هوَ اللي جديد، يعنى من خمس سنين كده، ما هو كل الفشل والإخفاق بيغذي بعضه، بيعدي يعني...).
اختلطت كلمات شادي عبد الموجود بصوت موتور الأتوبيس المتحشرج، حركة السير والركاب، هتافات مشجعي الكرة وصراخ أهالي ضحايا العبارة، بعويل الذين انهارت حياتهم بعد أنفلونزا الطيور.
كان منظره المنتفخ بالهدوم غريباً. قرر الكمساري سؤاله عن الكارنيه. حاول شادي عبد الموجود أن يضغط الكلمات لينهره عن السؤال، لكنه لم يفلح، حاول التملص، لكنه لم يعرف، توقف الأتوبيس. تجمع الركاب والسواق والكمساري ودفعوا بالكائن المنتفخ إلى عرض الطريق، سقط على الأرض، وتدحرج، كان أشبه بالرجل الكاوتشوك، استقرت به الحركة بجوار حاوية الزبالة الأسباني الأنيقة بعد أن سرقت عجلاتها الأربعة، فتدحرجت ونامت على جنبها احتضنها، تحسس جيبه ليطمئن على الكارنيه (أي كارنيه) ...بكى بشدّة. لكن لم يسمعه أحد.
القاهرة 23 فبراير 2006
واقرأ أيضا:
طنجة الملفات الحساسة / قـُبَّعة الخواجة / البغل والعربجي.. والعربة الكارو..! (2)