قطار الليل يتهادى, على وتيرة واحدة...
رتابة الحركة, وتعب السفر والعمل, يدفعاني إلى الغوص في مقعدي أكثر فأكثر, وإلى إطباق جفوني المستكينة الغافية...
لم تكن العربة ممتلئة, كانت خالية إلا من بعض الركاب النائمين, خالية كالفراغ الذي يملأ أشلاء حياتي المتناثرة...
تثاءبت في قوة, وأنا في مقعدي المحبب, أعشق المقعد بجوار النافذة في الصف المواجه لباب العربة على الدوام...
لم أفكر والقطار يغادر بي جنوب الصعيد إلى العاصمة, في شئ تقريبا, هواجس التنقل المعتاد, النعاس أقوى من خواطري السوداء هذه المرة, ولم أدري متى نقلني النوم إلى عالم آخر بلا أحلام... استيقظت بعد وقت غير معلوم, على جلبة لم تبد مفهومة في البداية, كان هناك عدد كبير من الأفراد والأطفال, ملامحهم تشي بعلاقة العائلة التي تجمعهم, يحتشدون في المنطقة الفاصلة بين العربتين, عربتي الدرجة الثانية, والعربة الأخرى, الدرجة الثالثة أو المطورة أو أيا ما يسمونها, وكان يقف مستندا على الباب بواجهتهم, محصل التذاكر العجوز, كانت ملامحه قاسية وباردة, ولم أرتح له حين مر علي للتأكد من تذكرتين...
كانت أذناي متأخرتين في العودة إلى الوعي, وحينما نجحنا في تحقيق ذالك بدت تتضح نغمة الحوار.. ممنوع يا جماعة تحشدوا هنا, انتوا حاجزين درجة تالتة, ودي درجة تانية... أحدهم كان يبدو متحفزا: وانتو حرام عليكو تكسدونا ورا, وروح يا بيه شوف الناس هناك, أكوام أكوام, والعربية هنا فاضيه ومفيها شي حد.. الناس اللي فيها, دفعوا فلوس الدرجة دي.
ممنوع يا جماعة تقعدوا فيها, إلا لما تدفعوا الفرق بين تذكرتكم وتذكرة الدرجة الثانية.. وإحنا ممعناش الفرق ده, خلاص يعني نكفر؟ يا بيه خلي عندك رحمة, الناس متكومه ورا, ومش لاقين حتى مكان يقفوا فيه, هنضر حد يعني لو قعدنا أهنه؟! "اللي ممعوش ما يلزموش" والقانون بيقول.. يقاطعه الرجل متأثرا:
- أي قانون اللي يظلم البني أدمين إكده؟ هو فيه عقل يقول إن الناس كلياتها تتزاحم ورا, والعربيات التانية تبقى فاضيه؟! ده ظلم والله العظيم ظلم!
- بص يا راجل انت, متصرخش كده, خلي عندك دم, وآخر الكلام, يا تدفعوا الفرق, يا ترجعوا مطرح ما كنتوا... ازداد تحفز الرجل, وتعنقد التحرش في لهجته: وإحنا محناش دافعين الفرق, وراح نقعد اهنه, وورينا هتعمل إيه؟! خلاص براحتكو, بس لو خالفت القانون بأي شكل, هوقف القطر في المحطة الجاية, وأخلي أقرب"نقطة" تيجي تلمكوا من هنا.. جتك عزرائيل يلم روحك بحق جاه النبي, والله لنكون قاعدين درجة تانيه, ولغاية ما توصل مصر, وحنكك مش هيتفتح واصل...
كان الرجل متحرشا غاضبا, أمام سطوة وبرود العجوز.. صاح به أحد أقربائه: خلاص يا"حسين" مهياش مشكلة, نرجع زي ما كنا يا أخي... فكني يا"جمال" دلوكيت, لاع, والله هنقعد درجة تانية, ساد الصمت للحظات, الشرر الغاضب من عيني"حسين" يحاول تحدي جمود نظرات المحصل العجوز وتحجره.. كنت حتى هذه اللحظات, أرمق المشهد أمامي, وأنا مستكين في مقعدي, كان عرضا مسليا, يقطع رتابة الطريق ووحشة السفر, والنهاية غامضة, لا أحد يدري كيف سينتهي الموقف برمته..
همس العجوز ونفس النبرة الباردة الواثقة: مفيش كلام تاني, يا تدفعوا الفرق ووتفضلوا هنا, يا ترجعوا المكان اللي جيتوا منه.. جن"حسين" تماما, وقد أخذ العاب يتطاير من فيه بانفعال:- عاوز تاخد الفرق؟! هتاخده! ثم استل في حركة مفاجئة, مدية"قرن غزال" من تلابيب جلبابه المهترئ, وأخذ يطعن العجوز, يطعنه في جنون, يغرس المدية في لحمه, ثم ينتزعها بسرعة ليعيد الكرة في موضع آخر, وهكذا في جنون مطبق وهو يصرخ:
- آدي الفرق أهو, آدي الفرق.. لم يوقفه سوى تكابل أبناء عائلته عليه, انتزعوا من يديه المدية, بينما بدأ الأطفال في البكاء, وأخذت امرأة تولول في نحيب مؤلم.. كنت مستمرا في مقعدي من هول الموقف, متجمدا, لا أقدر على التطلع للمنظر.. سمعت عويل أحد الرجال: يا خراب بيتك يا "حسين" يا نهار أبوك الأسود, يا حسرة قلب أمك عليك, ليه يا راجل, ليه تعمل كده؟! استجمعت شجاعتي لألقي نظرة خاطفة على" حسين"على وجهه الشاحب, يداه وجلبابه الملوثين بالدماء, على عينيه, كانت على عكس المتوقع, لا يملأها الندم, فقط الارتياح كأنه كان يريد أن يفعلها منذ زمن بعيد ولم ينجح إلا الآن.. أنزلت عيني إلى الأرض, على منظر الجثة الدامية, بدت ملامح العجوز متشنجة, لا أعلم إن كان من الألم أو المفاجئة, وبدت بقعة الدماء حوله, وهي تفترش الفاصل بين العربتين حوله.. وتتسع.. وتتسع.. وتتسع..
واقرأ أيضاً:
صباح الخير سيدتي / طموح / ذكريات / لعينيكِ في دفتري ألف سطر / هو العشقُ يا ربُّ زدنا / أحبك يا آخر المعجزات / وتبتعدين عن صدري