في متتابعة زمنية اعتاد عليها لعشر سنوات، يهبط من السيارة.. يعدل من وضع عويناته، يتقدم إلى مدخل العمارة في خطوات ثابتة.. ينتصب البواب رافعًا يده اليمنى متمتمًا ببضع كلمات اعتاد الرجل أن يتعمد عدم سماعها منذ تسع سنوات.. تعالج قدميه درجات السلم في تسلسل لا يوحي بالإرهاق ولا يعطي انطباعًا بالنشاط.. يعالج باب الشقة بمفتاح ملَّ مالكه..
يغلق الباب في هدوء.. يلقي بسترته على أقرب أريكة صادفتها يده.. وهنا تضطرب المتتابعة التي اعتاد عليها عقله وأطرافه، تلتقي نظراته للحظة بعينيها.. تتشاغل بمتابعة التلفاز.. يشعر بطيفه يتقدم في مرح يبتسم طيفها في هدوء.. يطبع قبلة على جبينها.. تتخلل أصابعها شعره لتفسد منظره الرسمي وتلقي بجملتها الأثيرة لديه، والتي لم يملها لعشر سنوات: كيف كان يومك؟! يبتسم بطريقة ينكرها البكاء.. يتمتم: جيد..
ذكرى كانت تلقي بجسده على الأريكة في الوقت الذي تعبث فيه أصابعه ببعض الأوراق الملقاة بإهمال على المنضدة.. في لحظات، تتراص أطباق الطعام أمامه... تهم بالجلوس: فتستوقفها نبرات صوته الصارمة: أين الطبق! تذبل ملامح وجهها، وتنطفئ لمعة عينيها.. تتخاذل إلى المطبخ لتعود بطبق صغير يحتوي على بعض الأوراق النقدية مختلفة القيمة وتضعها بين أطباق الطعام.. يتناول طعامه في هدوء لبضع لحظات ثم يردد دون أن ينظر إليها: تناولي طعامك.
تنقبض ملامح وجهها تضع في فمها قليل من الطعام.. تبتلعه بصعوبة.. تعبث الذكريات بعقله، وتردد على أذنه نبرات صوتها من خلف ستار سنوات بعيدة:
- خلي بالك أنا.. بزهق م الحب بسرعة
- متقلقيش.. ممكن أديكي شهادة ضمان خمسين سنة.
- إنت مغرور
- آه.. ليه!
شبح ابتسامة مريرة على وجهه تموت قبل أن تكتمل ولادتها، لتتجسد الكلمات في عقله.. كانت صادقة.. لم تكن تمزح.
ينهي تناول طعامه... تنتفض واقفة في سرعة.. تتلاحق خطواتها إلى دورة المياه.. تفرغ ما في جوفها من طعام.. يعيد ارتداء ملابسه.. ينصرف في هدوء..
* * *
تحولت الشقة إلى ميدان مزدحم مابين رجال الشرطة والبواب- الذي ينطق بفمه بسيل من الكلمات المتسارعة التي لا يعيرها أحد اهتمامه-، وجيران متلصصي النظرات.. والزوج يقف في ثبات، تطل من عينيه نظرة جامدة.. وجثة لسيدة في أوائل العقد الثالث من عمرها. من أمام نظراته المتحجرة، تخلو الشقة من هذا الضخم البشري، ولا يرى سواهما.. زوجته وهذا الرجل.. يقفان مرتعدين لا يستر جسديهما سوي بعض الملابس التحتية، تتردد على أذنيه مجموعة نبرات صوتية مختلفة متوسلة، لا يقطعها سوي صوته قائلا في صرامة لذلك الرجل: أحضر ملابسك.. أخرج كل ما بها من أوراق نقدية.. اكتب علي كل منها: أقر أنا.. بأن هذه النقود مقابل مادي لمعاشرة السيدة... وقع.. الآن انصرف.
واقرأ أيضاً:
نـا حينَ لا تَدُلُ !!/ الفرق !/ تقوى!/ كوفاد/ من قصيدة لبغداد/ الجنون بالكتابة/ جَـوازٌ لا يَـجُـوزُ!/ ذَوَبَـان!/ عبث الفرشاة!/ عَـفْـوُكَ يا ألـلـهْ !/ آخر العمى/ خُـلاصَـةُ!