إنها الثالثة فجراً، ترسم خيوطها بأفق سماء الكاريبي المثقلة بالنجوم، حيث تختلط أضواء المصابيح الكونيّة مع برودة الصباح الباكر. تلك التي تذكرني بأصبحة مماثلة في أشهر الصيف الأولى، بذاك الشرق البعيد الذي -ربما- مازال يحملكِ بين ثناياه الحزينة. أفقتُ من نومي هكذا، مفكراً بكِ باستغراب، وكأنني لم أتوسل النوم، عند العاشرة ليلا كي تتركني ذكراكِ ويحل هو! ذكراكِ من معدن عنيد لا تصدئه الأيام، ولم تكن المرة الأولى التي أتناول حبوبا منوّمة كي أهزم إرادتي، المفكّرة بكِ دون أدنى رحمة بي.
أحبكِ يا عصفورتي، مع حدود الرابعة فجرا أحبكِ، عند جلوسي متدثرا بمعطفٍ ثقيلٍ أحبكِ. أحيانا، أغمضُ عينيّ لوهلة، متناسيا كل قوانين الزمان ونظريات الأستاذ نيوتن وزميله أنشتاين. أغمضهما كي أعود لكِ أو أن آتي بكِ إلي. لا فرق إن تقدم الزمن أو تأخر، مادمتُ معكِ. نجلس سويّة على ضفاف شاطئ صغير بأرضي قرب الفرات، هُناك، حيثُ مازالت الذاكرة مشحونة ببرودة التُربة الطريّة عند ساعات الصباح الأولى، وباحتفالية تقليم النخيل بساعات الفجر العابقة ببخار مبهم من البرودة ورائحة الحياة المخضّرة.
صدقيني، لا أستطيع أن أميّز بين رائحة الطمي وبين رائحة نهديكِ، فكلاهما يتمتعان بتلك الخواص اللدنة الأقرب روحا ورائحة لجذور الأعشاب. نجلس بلا عجلة، كأن العالم هو هذا الرافد الصغير الجاري من وإلى الفرات القريب، وكأن الدنيا كلها تخدرت برائحة "طُلّيع" النخيل الملقح حديثا، ولُهاث السمك الوفير بعباب هذا الرافد المثلّج صيفا لذوبان الثلوج فوق جبال زاغروس العظيمة. أطوق كتفكِ الصغير بذراعي، فأجده باردا لكنما مستمتعا بنقيضيّ البرودة وحرارة ذراعي، التي تضمك إليّ بحنان وثقة أشبه صلابة بإمبراطورية جذور النخيل ببستاني.
آنستي أو سيدتي، لا أعرف ما هو وضعكِ منذ قرون من الحرمان والشوق، لستُ خجولا من أن أعلمكِ بأن شفتيكِ أكبر طريدة لي بهذه الدُنيا، وأن تمشيط شعركِ بأصابعي لأهمّ من أي صحوة ضمير أو رحمة بحق ذاتي الممزقة لأجلكِ. وأيضا، لستُ خجولا أن أعلمكِ بأنني أرغب أن أداعب عنقكِ وأصابعكِ وطراوة عظامكِ، بأصابعَ شِعريّة. نعم، بأصابعي التي تتحرك وفق تردد القصيدة بأعماقي الرطبة هي الأخرى كقلب نخلة، هُناكَ حيث أردد "أنشودة المطر" بينما تحولها أحاسيس الجنون عندي لنبضات كهربائيّة تدير لمسات أصابعي فوق وجهكِ المرتخي والمغمض العينين. لمساتُ القصيدة الرطبة، برودة الأرض ولينها، عبق الفجر مختلطا بلهاث النخيل ورائحة عطري المتغلغل بين مسام أناملي، كُلها تشعركِ بالرغبة بالنوم اللذيذ. ورغم الشعور بالبرودة بأطرافكِ، لكنما وجهك يختبئ في حُميمة صدري المشتاق.
كنتُ أود التكلم عن قسوتكِ وعن مشاكل كثيرة تركتِها دون حلّ، إلا أنني أستمتع بكِ هكذا، كنخلة أعانقها وأقسم لها بولائي. كأيقونة أتعبد أمامها، كوجه أمسح عنه الدموع وأقبّل شفاهه برقة، وكعصفورة أضمها تحت معطفي ونتسلى بالحديث على سور سفينة مبحرة، دون أن أكترث أن ظن المسافرون بأنني مجنون يكلّم نفسه.
تساءلت كثيرا بسنيّ الطفولة، عن سبب ارتباط النخيل بأرض الرافدين؟ عن سبب هذه العلاقة الرومانسيّة بين السعفة الرشيقة والرجل الرافدي الحريص عليها؟ لماذا النخيل؟ لا لم أجد إجابة حتى عرفتكِ، لأدرك أن هناك عناصر ذات قوّة كونيّة خفيّة تكسب المكان روحه لا العكس. أي، بكلمة أخرى، هي مشابهة للروح التي تتغلغل عميقا في ثنايا اللحم والشفاه والعيون، لتكسب صاحبها ذاك الشعور بأنه هو. ولذا، لم أحاول أن أنتزعكِ من جوفي، لا لأنك متشبثة بها كجذور نخيل تربطها أرضٌ عاشقة فحسب، بل لأنك -ببساطة- الروح التي لن أعرف لنفسي ملامح بحال رحيلها.
قد تكوني بعيدة بذاك الجسد والعيون الجميلة عني، لكنما أنتِ هاهنا ماثلة بهذا القلب وهذا الجسد وهذا الكيان، مختلطةً بكلّ حبّة من حبيبات دمي، ومسيطرة على كلّ قاطع كهربائي وخليّة بدماغي. يا أنتِ يا أجمل احتلال. أنتِ كما القدر، كما الموت كما الحياة، كما أي شيء لا مفر منه ولا استغناء بحلّوه ومُرّه. أنت حبيبتي، عصفورتي، سمائي وعواصفي ومجاديفي. هل أهمس بكلمة أحبّك؟ وهل تكفي هذه الكلمة لتوضيح الكارثة التي تتقمص كل جُزيئات كياني؟ ما أعجز اللغة وأوزانها وقواعدها عند الوصول لنقطة حبّك، حيث لا طاقة سواه ولا يمكن وصفه إلا بالعناق الوحشي الملتهب والانحناءة الرقيقة لتقبيل جبينكِ وأنتِ تنامين بنومٍ هامس.
أنها الخامسة إلا ربعاً، وتبدو السماء هادئة ومستعدة لأن تشرقي عليها. لكن لا أيتها الشمس العظيمة، أريدكِ هكذا بين ذراعي بفجر دامسٍ وبرودة تلسعنا، ولا يجدي معها سوى قبلات حارّة ننسى الدنيا كلها بها لا البرودة فحسب. أريدكِ كزوجة وكنخلة أرعاها، لكنما أفيق من الحلم، لأجد أنها الخامسة تقريبا، وأنه الفجر ببرودته فعلا، لكنما لستِ هُنا ولستُ أنا عند أرضي على كتف الفرات. إنما لا، لن أسمح للذة الحلم أن تتبخر تحت لفحات الحزن والألم، بل سأبتسم وسأعيش الحُلم مراراً، وسأركل غطائي بعيدا كي أنام بصدر عاري وباردٍ، فلعلكِ -يا أنتِ يا حبيبتي- تعانقيه بصدركِ وحبّكِ فيدفأ.
"العراقي الشريد"
الخامسة إلا خمس دقائق فجرا.
واقرأ أيضاً:
الجنون بالكتابة / جَـوازٌ لا يَـجُـوزُ! / ذَوَبَـان! / عبث الفرشاة! / عَـفْـوُكَ يا ألـلـهْ ! / آخر العمى / جوع / خُـلاصَـةُ! / كيف أنسى؟