انطلق صوت القطار معلناً بدء الرحلة، القطار يحمل في عرباته كل أصناف البشر، أشعة الشمس بدأت في اختراق زجاج النوافذ... القطار يسير بسرعة، عرباته كلها تهتز.. واحداً تلو الأخرى، لكن بسبب رؤيتي المحدودة.. أشعر إن العربة التي أركبها ثابتة.. وباقي العربات تهتز... مخطئ... كل العربات تهتز بلا استثناء.. بلا توقف.
راكبان بجانبي بدآ يلعبان (الكوتشينة)، آخر لم يتوقف عن اللعب بهاتفه المحمول منذ صعوده، ثالث أخرج كتاباً وأخذ يقرأ فيه، رابع تبدوا عليه ملامح الوقار.. يبتعد سريعاً عندما يلمح مفتش التذاكر... أربعة أشخاص يغطون في النوم!!!
ما زالت عربة القطار تهتز... شمس الضحى توقظ أحد النائمين.. يفتح عينيه في تأفف.. يتثاءب في خمول.. صوت أحد الباعة يقطع تفكيري:
ـ الرغيف بنصف جنيه.. بنصف جنيه يا (ساندويتش)... يظل يردد هذه الجمل، في انتظار أن يشترى منه أحد الركاب... يتداخل معه صوت آخر، شحاذ يحاول أن يستعطف الناس.. يجمع ما يريد في دقائق.. ويختفي. الذي استيقظ لتوه يشترى طعاماً.. يلتهمه سريعاً.. يسند رأسه للخلف.. يغمض عينه مرة أخرى.
بدون مقدمات.. يأتي قطار في الطرق المعاكس، فيطير ورق اللعب من أمام اللاعبين. تقع عيني على ملابس... أسابها ما سيجعلني أفقدها للأبد... سأحزن قليلاً... أو حتى كثير... لكن المؤكد أنى سأنسى.. كما هي العادة... مازالت عربات القطار تهتز...
قطار آخر في الطريق المعاكس.. أحد النائمين يستيقظ مفزوعاً.. تصطدم عيناه بضوء شمس الظهيرة.. يخرج مصحفاً ويقرأ فيه.
طفلة تجلس على قدم أمها، يظهر من ملابسهما المستوى الاجتماعي المتدني لتلك الأسرة، تهمس الطفلة لأمها ببعض الكلمات.. عندما ترى بائع الحلوى، نظرة محذرة من عين الأم تخرس الطفلة، الطفلة تتابع بائع الحلوى بعينيها في حسرة.. بائع آخر يقطع تفكيري:
ـ المجلة بربع جنيه... ثم يصمت برهةً، كمن يأخذ قسطاً من الرحلة.. ثم يستطرد فجأة:
ـ تسلى وأضع وقتك بربع جنيه... المرأة التي قتلت زوجها.. الراجل الذي قتل أولاده.. المرأة التي ألقت نفسها تحت القطار..... يظل يردد هذه الجمل، التي أصبحت مألوفة في العصر، الصوت يبتعد تدريجياً.. يتلاشى تماماً وسط الزحام.
مازالت عربات القطار تهتز... يمر القطار على مسجد، تلتقط أذني بعض كلمات أذان العصر.
قطار آخر في الطريق المعاكس... أحد اللاعبين تنبه له مبكراً، وضع يديه على ورق اللعب.. محاولاً أن يمنعه من الطيران... محاولة فاشلة.. القطار أسرع وأقوى بكثير...
شخص يضع يده في جيب آخر.. الرجل يشعر.. يصرخ.. يستغيث.. الناس تمسك باللص إلى أن يقبض عليه عسكري شرطة.
مازالت عربات القطار تهتز... الشمس تبدأ رحلت المغيب...
عسكري شرطة آخر، يحاول أن ينتزع مقعداً من أحد الأشخاص، ليجلس عليه هو.. يستغل الرداء الذي يرتديه..!!
الشخص يقاوم.. يحاول.. يظهر التذكرة التي تؤكد أحقيته بالمكان.. أخيراً يبكى... هيهات... يود الشخص لو يستطيع أن يقذف بالعسكري، ليصبح ضحيةً للقطار المعاكس...
أحلامه في الاحتفاظ بالكرسي تتبخر.. عندما يسمع آخر ما قاله العسكري:
ـ اخبط رأسك في الحائط.
شخص آخر يجلس على مقعد ويضع قدمه على مقعد آخر.. لن تستطيع الحصول على مقعد آخر.. مقعد واحد ستحصل عليه.. لن تجدي المقاومة.. فالمقعد الآخر محجوز.. مؤكد أنه محجوز لشخص آخر. راكب يقوم من مقعده.. لتجلس عليه عجوزٌ طاعنة في السن.
مازالت عربات القطار تهتز...
لقد شارفت الشمس على المغيب.. وأوشكت رحلتي على الانتهاء.. واقتربت محطتي.. تلك المحطة التي أنزل فيها.. ويصعد آخر.. ليبدأ رحلته.. فيظل في القطار قليلاً، ثم ينزل هو الآخر.. ويصعد ثالث......... مازالت عربات القطار تهتز...
فيا لها من رحلةٍ قصيرة... فمهما طالت... قصيرة.. لن تزيد عن دقائق.. أو ساعات.. أو حتى أيام....... فالقطار يسير بسرعة.
2 مارس 2006م.
واقرأ أيضا:
في الخليج فقر أيضاً / أفكار سوداء مشاركة / أقول لأهل مصر مشاركة4 / أنا وجمال وجنون السكري / أقول لأهل مصر لا تحزنوا مشاركة / مجانين على الجزيرة، وقل اعملوا مشاركة / خبر هام ومفرح جداً..