وَقَالَتْ لِي جَدّتِي :
- فِي قَرْيةٍ صَغِيرةٍ تَتَكِئُ عَلَى جَبَلٍ .. وُلدتِ !
فِي سَنَةٍ عَقرَتْ فِيهَا السُّحُبُ البَيْضَاءَ وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ غُصْنٌ غَضٌّ وَلَا يَاسَمِينَةٌ زَرْقَاءَ وَلَا سُنْبُلَةٌ مُكْتَنِزَة !
فِي ليْلٍ مُوغِلٍ فِي الصّمْتِ خَرَجْتِ لِلْحَيَاةِ !
- تَقْصِدَينَ لِلْموْتِ يَا جَدّة !
- ظَلَّتْ آَهَاتُ وَالِدَتُكِ نَاشِبَةً فِي حَلْقِهَا وَلَمْ يَصْطَخِبُ الكوْنُ بِصُرَاخِها قَبْلَ أَنْ تَخْرُجِي مِنْ ظُلْمَةِ الرَّحِمِ !
لَم أَسْمَعْ ـ لَمَّا حَمَلْتُكِ بَيْنَ ذِرَاعَيَّ ـ أَنْفَاسَكِ وَلَمْ تَبْكِ وَكُنْتِ نَحِيلَةً كَخِرْقَةٍ بَالِيةٍ وَعَيْناكِ تُحَمْلِقَانِ فِي اللَاشَيءْ !
- ثُمَّ ؟
- خِلْتُكُ مَيِّتَةً فَهَرَعتُ لِوالِدِكِ كَيْ يَحْفِر لكِ قَبْرَاً وَلَكِنَّ وَالِدَك لَم يَنْبسْ بِبنتِ شَفةٍ !
- ولَم تَنْحَدِرْ مِنْ عَيْنَيْهِ دَمْعَةً ؟
- كَانَ يُحَمْلِقُ فِي اللَاشَيءِ وَكُلَّمَا هَمَّ بِالحَدِيثِ تَلَكَّأَ لِسَانُه !
- وَأَنْتِ ؟
- كَانَ الصَّمْتُ سَيِّدَ المَكَانِ وَالقَحْطُ سَيّد الزَّمَانِ, لَمْ تَبْكِ وَلَمْ يُبكَ عَلَيْكِ !
- ...
- وَكَبُرْتِ ..
- نَعَمْ جَدتِي , أّذْكُرُ أَنَّنِي كَبُرْتُ قَلِيلاً قَليلاً .. وَظَلَلْتُ أَنْسَلُّ كَغَريبَةٍ فِي طُرُقِ قَرْيَتِي المُتَعَرّجَة
أَتَخَبَّطُ مِنَ مُرْتَفَعٍ لِآخَر !
- وَكُنْتِ كثِيرَةِ الضّيَاعِ !
- أَذْكُرْ .. كُنتُ أقْتَعِدُ مَكَاناً قَصِيّاً , تَحْديداً .. تَحْتَ شَجَرَتِي المُعَمِّرَة حَيْثُ يَحْلو النَّوْمُ !
- وَتَذْكُرينَ الشَّيْخَ عَابِدٌ لمَّا صَفَعَكِ ؟
- نَعَمْ
- تَذْكُرينَ لِمَ ؟
- لَا .. وَأنْتِ يَا جَدّة ؟
- أَتَيْتِ إِلِيْنَا بِخَدًّ مُتَوَرّمٍ وَأَصَابِعَ طُبِعَتْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّكِ لَمْ تَذْرِفينَ دَمْعَةً , قَالَ لَنَا أَنَّكِ مَرَرْتِ مِنْ جَانِبِهِ دَونَ أنْ تُقَبّلي يَدَه كَبَقِيَّةِ الصِّغَارِ !
- كَانَ مُتَّسِخاً وَرَائِحَتُهُ مُقَزّزَة
- وَكَبُرْتِ .. وَانْدَاحَ مِنْ عُمرِ شَقَائِكَ خَمْسَ سِنِين !
- وَفِي الخَامِسَةِ سَقَطْتُ مِنْ سَفْحِ الجَبَلِ حَتّى قَاعِهِ !
- نَعَمْ , كُنْتِ تَعْصُبِينَ عَيْنَيْكِ وَتَلْعَبِينَ وَحْدكِ !
- كُنْتُ أَبْحَثُ عَنِّي يَا جَدّة , ظَنَنْتُ أَنّني مُخْتَبِئةً خَلْفَ شَيءٍ مَا !!
- وَتَهَاوَى جَسَدُكِ مِنْ أَعْلَى الجَبلِ حتَّى قَاعِ الوَادِي !
- وَلَمْ أَمُتْ ؟
- خَرَجَ شَبَابُ القَريَةِ لمَّا اتَّكَأَتِ الشَّمْسُ عَلَى أَرْدَافِ السَّمَاءِ بَحْثَاً عَنْكِ وَدَعَا عَلَيْكِ الشّيخُ عَابِدٌ بِالضّياعِ الَأبَدِيِّ !
- وَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُه ؟
- عَادوا بِكِ حِينَمَا قَذََفَتِ النُّجُومُ ضَوءَهَا فِي السَّمَاءِ
- آهَا .. غَريبٌ أَنَّنِي لَا أَذْكُرْ !
- ظَلَلْتِ طَريحَةَ الفِرَاشِ خَمْسَةَ عشَر شَهراً , وَفِي اليَومِ الذِي عَادَتْ فيهِ الحَياةُ لِجَسَدُكِ ..
- مَاتَ عَابِد
- نَعَمْ , مَاتَ الشَّيْخُ عَابِد ..
- وَبَكَيْتُم عَلَيْهِ كَثِيراً وَخَرَجْتُم لِعَزَائهِ وَبَقيتُ وَحْدي بِمِعْدَةٍ خَاليَةٍ تَلُوكُ الجُوعَ !
- رَحِمَهُ اللهُ وَ أحْسَنَ نُزُلَهُ !
- وَكَبُرْتُ يَا جَدَّة !
- وَانْسَدَلَ شَعْرُكِ الْأَسْوَدُ كَقِطَعِ اللّيْلِ المُظْلِمَةِ , وَالْتَمَعَتْ ثَنَايَاكِ البَيْضَاءُ كُلّمَا ابْتَسَمْتِ
فَلَا نَدْرِي أَبِهِمَا نُؤسَرُ أَمْ بِغَمَّازَتيْكِ أَمْ بِجَبينكِ الوَضَّاءُ أَمْ بِجَسَدْكِ المُتَثَنّي كَغُصْنِ بَان !
- وَانْدَاحَ مِنْ عُمرِ شَقَائِي خَمْسَةَ عَشَرَ عَامَاً !
- نَعَمْ !
- وَفِي تِلكَ الْأيَّامُ
- طَلَبَنِي ابْنُ عَابدٍ زَوْجَةً لهُ !
- نَعَمْ
- وَوَافَقْتُم عَليْهِ دَونَ أَنْ أَعْلَمْ
- ...
- وذَاتَ مَسَاءٍ مُكْتَحِلٍ بِالظُّلْمَةِ وَأَنَا فِي زَاويَةٍ قَصِيَّةٍ مِن المَنْزِلِ لَمّا كُنْتُ أَنْعِي سُوءَ حَظِّي
ـ دُونَ بُكَاءٍ ـ دَخَل ابْنُ عَابِدٍ !
- نَعَمْ
- وَظَلَّ يُحَدّقُ فِيَّ بِشَرَاهَةٍ ثُمَّ لَكَزَنِي بِعُنْفٍ فِي كَتِفِي وَقَالَ : سَتَنْسَيْنَ مَعِي صَفْعَة أَبِي !
- رُبَّمَا قَالَهَا ..
- قَالَهَا يَا جَدّة .. قَالَهَا ثُمَّ خَرَجَ وَلَم أَكُنْ أَنْشُجُ , ظَللتُ فِي زَاوِيَتِي القَصِيَّة أسْتَمِعُ لِلمُباركاتِ وَزَغَاريدِ النّسْوَة !
- ...
- وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَا جَدّة .. تَفَاجَأتُ بِالنّسوةِ وَهُنَّ يَتحَلّقن حَوْلِي وَيُخَضّبْن يَدَايَ الصَّغِيرَتَان بِالحنَّاءِ
- كُنَّ يُجَهّزنَكِ لِزوَاجُكِ
- تَقْصِدينَ لِلْمَوتِ يَا جَدّة !
- وَ كُنْتِ أُسْطورَةً لَيْلَةَ زفَافُكِ !
- وَلَمْ أَبْكِ !
- نَعَمْ !
- وَصَفَعَنِي ابنُ عَابِدٍ قَبْلَ أنْ أنْسَى صَفعَة والِدهِ , وَأَعَادَنِي إلَيْكُمْ لَمَّا تَكَوّر بَطِْنِي وَتَخَلّقتْ فيهِ حَيَاةُ ابْنِي !
- ...
- وَقَالَ إنّهُ لَا يَرتَضِينِي زَوْجَةً لَهُ !!
- ...
- وَابْتَدَرَنِي أَبِي بِالشَّتْمِ وَالصَّفْعِ قَبْلَ أنْ أنْسَى صَفعَاتِ عَابِدٍ وَابْنِهِ !!
- سَامَحَهُ اللهُ ..
- وَنَالَ ابْنِي مِنَ الصَّفعِ مِثْلَ مَا نِلتُهُ وَزِيَادَة وَلَمَّا يَخْرُجْ لِلْحَيَاةِ بَعْدْ !
- وَلَم تَبْكِ !!
- وَاخْتَطَفَ ابْنُ عَابِدٍ ابْنِي مِنْ أَحْضَانِي
- وَاندَاحَ مِن عُمرِ شَقَاؤكِ ثَمَانِيةَ عَشَرَ عَامَاً !
وَلّـتْ جَدَّتِي قَبْلَ أنْ تَرَى الدَّمْعَ يَتَحَدّر لُؤلُؤيَّاً عَلَى وجْنَتَيَّ !
واقرأ أيضاً:
عِندَ السقوطْ! / رسائلُ إلي ريم / وجوهٌ شتي!! / ما أسوأ، ما أقسى! / من يشهدُ للعاشق؟؟؟ / ثـورَةُ العشرين !!