قــــراءة سيكولوجيـــــة
يشهد المجتمع العراقي اليوم بحركته الاحتجاجية السلمية المتنامية، انتقالاً سريعاً ومثيراً من حالة "الحرمان النسبي المتناقص" Decremental Relative Deprivation إلى حالة "الحرمان النسبي المتصاعد" Progressive Relative Deprivation. وهذا إيذان موضوعي ببدء خروج هذا المجتمع من عنق زجاجة الرضوخ السلبي لنتائج العنف السياسي بعهديه البعثي والتأسلمي، نحو أفق الثورة المدنية الإصلاحية. وهو خروج جرى كبحه وتأجيله طوال السنوات الثمانية الماضية بتأثير سياسة تفتيت الهوية الوطنية التي انتهجها الاحتلال الأمريكي عبر تكنيكي "الطائفية" و"الإرهاب". أما المدة المتوقعة لإنجاز هذا الخروج فقد تطول أو تقصر بحسب ديناميات ومسارات المواجهة المرتقبة بين المجتمع والسلطة. ولنوضح أولاً ما المقصود بهذين الحرمانين.
- "الحرمان النسبي المتناقص" بمفهومه العام هو شعور الفرد بالاستياء نتيجة إدراكه للتفاوت بين ما يحصل عليه فعلاً هو أو جماعته الاجتماعية من موارد حياتية (كالدخل المعيشي وفرص التعليم والخدمات الصحية والبنى التحتية والسكن والمكانة الاعتبارية في المجتمع والدعم الحكومي ممثلاً بالضمانات الاجتماعية)، وبين ما يتوقعه أو يعتقد إنه يستحقه (أو تستحقه جماعته) من تلك الموارد؛ أي إنه حرمان ينتج من تقويم الفرد لواقعه نسبةً إلى المتوقع والمستَحَق. وقد حافظ العراقيون على حد أدنى ثابت نسبياً من التوقعات بشأن حقوقهم في وقت كانت فيه مواردهم الحياتية تتدهور باضطراد، بل إن سقف هذه التوقعات انخفض بمرور الزمن من حلم الحرية والرفاهية لحظة انهيار النظام السابق 2003م إلى المطالبة بحد أدنى معقول من الأمن والكهرباء وفرص العمل، وهذا ما يُدعى بـ"الحرمان النسبي المتناقص"؛ أي إنه مشاعر الاستياء التي نشأت لدى العراقيين نتيجة تدهور أوضاعهم الحياتية بسبب الاحتلال وتقويض وظيفة الدولة في توفير النظام والأمن الاجتماعي، في وقت ظلت توقعاتهم ورؤيتهم عن استحقاقاتهم ثابتة نسبياً أو متناقص.
وقد كان من بين أهم نتائج هذا الحرمان تدمير مشاعرهم بالكرامة والعزة والطمأنينة والفاعلية، وحشرهم جمعياً في إطار متين من اليأس والاغتراب عن وجودهم الاجتماعي والإنساني، فضلاً عن تحويل قطاعات مهمة ومنتجة من المجتمع إلى شرائح رثة عاجزة عن امتلاك وعي متقدم بمعنى الحياة وغاياتها، تحركها دوافع العنف والعجز وقيم القبح والعدمية، تبرر مظلوميتها بمسلمات "قدرية" نابعة من فتاوى كهنوتية أنتجتها أشد المناطق ظلمةً وخواءً في العقل البشري.
- "الحرمان النسبي المتصاعد" الذي نشهد انبثاقه اليوم في العراق، فينطوي على زيادة كبيرة في التوقعات تتزامن مع نقصان مستمر في الموارد والحقوق. ويعزى ارتفاع سقف التوقعات أو المستحقات التي بات العراقيون يؤمنون بمشروعية امتلاكهم لها، إلى ما قدمته الثورتان التونسية والمصرية (ديسمبر 2010- يناير 2011) من أنموذجين ملهمين لفاعلية الاحتجاج الجمعي Collective Protest وقدرته خلال أسابيع على تحقيق توقعات ومستحقات طال انتظارها لعقود من الزمن.
ولذلك اندفع العراقيون اليوم ومعهم عدد من شعوب الشرق الأوسط نحو نمذجة التجربة المصرية بوجه خاص، لجمالية أدائها وكفايتها التنظيمية وقطافها السريع لأهدافها. إنها العدوى السلوكية الجمعية ليس بتأثير التماهي اللاعقلاني الأعمى بالحدث، ولكن في إطار الإيمان العقلاني بأن الاحتجاج الجمعي يمكن أن يفضي إلى إمكانية تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة، وبأن الكلف الناتجة عن التقاعس تفوق الكلف الناتجة عن التحرك. يُضاف إلى ذلك اعتقاد ليس جديداً أصبح متداولاً بين أعداد غير قليلة من العراقيين بعدم شرعية أوضاعهم وبأن النظام السياسي الحالي هو المسئول عن استمرارها، إذ اتضح بزوغ هذا الاعتقاد لأول مرة خلال "انتفاضة الكهرباء" التي اندلعت في حزيران 2010م في بغداد ومدن عراقية أخرى ثم توقفت بسبب افتقارها إلى العنصر الأساسي الماثل اليوم، وهو اعتقاد الفرد بفاعليته السياسية وإيمانه بأن تغيير الأوضاع بات ممكناً.
وإذا كانت التحليل السيكوسياسي يعزو اندلاع الثورتين الفرنسية 1789م والروسية 1917م والحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)م إلى "الحرمان النسبي المتصاعد" بجذره الطبقي المباشر، فإن الوقائع الحالية في تونس ومصر واليمن وليبيا وإيران، تشير إلى أن البعد الطبقي بات جزءً محدوداً من بنية أكبر هي "الوعي المدني" السلمي بضرورة وحتمية التغيير السياسي والاجتماعي؛ بمعنى إن الحرمان النسبي من الحريات قد فاق بتأثيره الحرمان النسبي من موارد العيش في تلك البلدان، إلى حد أن بعض الباحثين أطلق على الحدث المصري تسمية "ثورة الطبقة الوسطى"، فيما سمى التغيير في تونس بـ"ثورة عقول لا ثورة بطون".
أما الحركة الاحتجاجية المتنامية اليوم في العراق، فيبدو إنها تجمع في دوافعها المحركة بين أزمتي العقول والبطون سويةً مع أرجحية واضحة لأزمة البطون، إذ تترافق شعارات الوعي الحقوقي بفساد السلطة وأسطورية امتيازاتها بشعارات مطلبية عن الخدمات والبطالة والبطاقة التموينية، وتتعالى الدعوات إلى صيانة الحريات العامة والخاصة ونزع العمامة عن رأس الدولة، إلى جانب الدعوات لدعم الأرامل والأيتام والمهجرين وسكان العشوائيات.
وباختزال أشد، فإن احتجاجات اليوم تستمد وقودها المحرك من تفاعل مشاعر المظلومية الاجتماعية والحرمان الاقتصادي بمشاعر التحرر العقلي وما يصاحبها من مخاوف حقيقية من أدلجة الدولة وأسلمة الحياة المدنية بعد أن جرى تديين السلطة في بلد تحكمه العلمانية المجتمعية المتسامحة. إن امتزاج العاملين الاقتصادي (الأساسي) والثقافي (الثانوي) لإنتاج هذه الحركة الاحتجاجية، يعني خروجاً من عقم الهويات الفرعية المتناحرة، إلى جدوى الهوية المدنية الوطنية الموحدة بوصفها حلاً لاستعادة احترام الذات الاجتماعية التي تضررت طويلاً بفعل الاستبداد والإفقار والحرمان والإذلال والاحتلال وتسييس الدين وتشويه فكرة الوطن في الذاكرة الجمعية. فالهوية الاجتماعية (وطنية- دينية- عِرقية- طائفية-عشائرية) تعيد تصنيف ذاتها بحسب الموقف الذي تجد نفسها رهينةً بتطوراته، أي إنها ليست موسومةً بسرمديتها الهوياتية الثابتة، بل تتبع في تقلباتها مجريات التطورات الموقفية المحيطة بها. ولذلك فمن المتوقع أن بزوغ العقل الجمعي الاحتجاجي في العراق سيعني نهوضاً دراماتيكياً للهوية الوطنية ببعديها المدني المجتمعي والإنساني المتحضر، وأفولاً سريعاً لمشاعر التشرذم الديني والطائفي والعِرقي التي أنتجها "فرسان" المنطقة الخضراء والبيت الأبيض.
يستمد هذا التوقع رؤيته التفصيلية من دراسة ميدانية واسعة أجريتها في العام 2009م على عينة من العاطلين العراقيين عن العمل، نشرت تفاصيلها في كتابي "المحرومون في العراق"، إذ توصلتُ آنذاك عبر تحليلات إحصائية مستفيضة إلى الاستنتاج الاستشرافي الآتي: ((في ضوء خلفية سوسيو–سياسية قاسية، ممثلة بخطر التفكك المجتمعي من جراء العنف السياسي، تمر به جماعة حضارية قديمة كالعراق، قد يبرز ميكانزم نفسي جمعي وقائي هو تنامي الهوية الوطنية لدى المحرومين، إذ تمارس هذه الهوية وظيفةً تكيفية مزدوجة هي: حماية تقديرهم لذواتهم الاجتماعية من جهة، وتنظيم جهودهم لممارسة الاحتجاج الجمعي من جهة أخرى. فقدرتنا على التنبؤ بسلوك الاحتجاج الجمعي السلمي تشتد على نحو خاص لدى ذوي الهوية الوطنية القوية)).
واليوم أؤكد من جديد أن الاحتجاجات الحالية والمرتقبة إذا كان لها أن تستمر وتحقق أهدافها حتى نهاية الشوط، فإنها ستستمد طاقة استمراريتها من بزوغ الهوية الوطنية للمحتجين، إذ سيندفعون لتصنيف ذواتهم بوصفهم "عراقيين" كلما انخرطوا بشكل أوسع وأعمق في نشاطاتهم الاحتجاجية السلمية من تظاهرات واعتصامات وإضرابات. إنه انسلاخ من الشرنقة الثيولوجية الخانقة، وإعادة اكتشاف الذات الاجتماعية في رحاب المشاعر المدنية المنعشة. فالجماهير السجينة تستطيع على الدوام أن تعيد اكتشاف انتمائها إلى المكان والزمان اللذين طال تغريبها عنهما، فقط حينما تريد استعادة شعورها بالكرامة الجمعية، وهذا ما تحققه فكرة "الوطـــن" إذا ما جرى تمثلها عاطفياً وسلوكياً. الاحتجاج الجمعي يعني تطهراً لاشعورياً من كل "الآثام" حتى الفردية منها، ويعني أيضاً الإمساك العقلاني من جديد بدفة المصير المجتمعي الذي طال ارتهانه بيد السلطة اللاعقلانية!
الثورات والانتفاضات ما هي إلا لحظات تدفق نفسي غامر يؤدي إلى فعل جمعي يريد تغييراً مجتمعياً جوهرياً يقطع الصلة بماضٍ بائس، بعد أن استكملت الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية دورَها المتريث في الإعداد لهذا التغيير. إن أهم عوامل القوة والاستمرارية التي تتمتع بها الحركة الاحتجاجية العراقية السلمية تتمثل (كما أسلفتُ) بذلك الإيمان المستلهم من الثورتين التونسية والمصرية بأن إمكانية التغيير أصبحت في متناول الجماهير إذا ما تحركت بتصميم نحو أهدافها، وإن أرباح الاحتجاج تفوق تكاليفه في كل الأحوال ما دام هناك ندم جمعي على "خطأ" خياراتهم في الانتخابات النيابية الأخيرة.
كما يستمد المحتجون قوتهم من وعيهم العارم بالحقانية ومشروعية الغضب، وبالرغبة المحتقنة لرد الإهانة التاريخية التي لحقت بهم واستعادة اعتبارهم في وطنهم؛ فضلاً عن اندماجهم في "هوية موحدة" عابرة للدين والطائفة ولطبقة والأيديولوجيا، وما تمتلكه حركتهم من كارزما جمعية مدنية مصدرها التواصل الاجتماعي بنوعيه التقليدي ولإلكتروني دونما شخصنة سياسية ضيقة يمكن أن تثير الشكوك وهواجس التخوين. فالمراقب قد يستغرب كيف أمكن لمشروعية الحراك الشعبي الناقد أن تخطف كل الأبصار خلال أيام وأن تصبح في قلب الحدث، فيما أمست العملية السياسية الطائفية في هامشه، محاولةً اللهاث وراء عنفوان الناس المحرومين وهتافاتهم البليغة.
أما عوامل التعويق أو الإجهاض المحتملة فتتمثل في التشرذم الراهن في رؤى المحتجين حول أهداف حركتهم وغاياتها، وفي غموض الخطوات التي ستعقب الخطوة الأولى، وفي اختلافهم حول مدى شرعية السلطة القائمة، وفي نزوع فئات منهم لاستنساخ التجربة المصرية حرفياً دونما إبداع تقتضيه نسبيات الوضع العراقي. والأهم من كل ذلك عدم وجود نظام سياسي متكامل الأركان بالمعنى المؤسساتي يستطيع المحتجون أن يوجهوا اعتراضاتهم الموحدة نحوه، فالحكومة القائمة لا تمثل بنية سياسية متينة بل سلطة متعددة الهويات ينخرها الفساد السياسي والمالي.
ولذلك فأن عجزها المتوقع (وليس عدم رغبتها) عن تنفيذ فوري لأي مطلب أساسي يرفعه المحتجون (ربما باستثناء خفض رواتب كبار موظفي الدولة وإقالة بعض المحافظين والمجالس المحلية كأكباش فداء) سيفرض قيوداً نفسية على استمرارية الحركة. فالتغيير المنشود يتحقق فقط حينما يستطيع الطرف المحتج التأثير بنيوياً في خيارات الطرف الآخر وقراراته، غير إن تصلب شرايين الحكومة وعجزها البنيوي والوظيفي قد يدفع الحركة الاحتجاجية إلى الإحباط والنكوص، أو تُفرض عليها خيارات فوضوية أو دموية جديدة ليس العراق المبتلى أصلاً بحاجة لها، سيما إذا حدث انشقاق أو انهيار في الأجهزة الأمنية، أو إذا جرت الاستعانة بميليشيات تنتمي إلى بعض مكونات السلطة لشق صفوف الحركة أو قمعها بالقوة المسلحة.
في كتابه "النظام القديم والثورة الفرنسية" قدم "دي توكفيل" ( Tocqueville - 1805-1859) صياغة نفسية لمضمون العلاقة بين الحرمان والاحتجاج بقوله: ((إن المظالم التي يمكن تحملها بصبر لكونها غير قابلة للتجنب، تصبح غير قابلة للتحمل حالما تطرأ في أذهان الناس فكرة الهروب منها)). وبالتأكيد، فقد استيقظ العقل الجمعي العراقي أخيراً بنسبة مهمة بعد أن طرأت لديه فكرة مواجهة المظالم أياً كانت نتائجها. أما اكتمال شروط هذه اليقظة وتبلورها إلى سلوك جمعي ناضج وقادر على إحداث التغيير المنتظر فسيظل مرهوناً بالممارسة الميدانية المستمرة للفعل الاحتجاجي السلمي، إذ لا يكتمل الوعي المعارض جنينياً إلا في رحم التجربة الشعبية الحية، حذفاً وتعديلاً وتطويراً؛ وهي تجربة قد لاحت خطوطها العريضة للتو في العراق، إذ يخطو المجتمع الرهينة خطوته الأولى خارج قبضة خاطفيه!
نقلا عن الشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
الحالة النفسي سياسية