بماذا نبدأ؟
برصد المستقبل كما هو، أم بالحديث عن أحلامنا وآمالنا؟.
المسألة في تطلعنا إلى الغد تكون أشبه ما تكون بموضوع الأرصاد الجوية. هناك فارق بين أن نعتمد على القراءة العلمية لرجال الأرصاد الجوية، بالنسبة لأحوال الطقس غدا، حتّى نستعد لمواجهته بما يلزم، وبين أن نتمنّى أن يجيء الطقس لطيفا، أو دافئا، وفقا لمصالحنا.
نحن نتابع تقارير الأرصاد لكي نستعد للغد بما يناسبه، سواء أحببنا ما يأتي به أم لا.. وهذا هو حالنا مع التفكير المستقبلي والرؤية المستقبلية، مع فارق أنّه في الحالة الأخيرة، يكون للأحلام دورها النسبي، في الترتيب المناسب.
منظور عين الطائر
رغم قوّة التغيّرات، وغرابة المسـتجدّات، استطاعت قلة من الريادات المسـتقبلية أن تخرج من قبضة الخريطة المرسومة على المخّ البشري، والمسيطرة على مسار تفكيره، وأن تصل إلى فهم حقيقة وحجم التغيّرات الطارئة، ومداها.. عرفت انعكاساتها على حياتنا الآتية في جمـيع مجالاتها، التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. بفضل طبيعة فكرها الابتكاري، استطاعت هذه القلّة في شرق العالم وغربه، أن ترتفع فوق الإدراك المباشر، لكي ترى أحداث اليوم من منظور عين الطائر، وسط السياق التاريخي للتطوّر البشري.
جوهر هذه الرؤية الثاقبة، قاد إلى نظرة للتاريخ البشري تتجاوز تاريخ الممالك والحروب، وسير الملوك والرؤساء، وتقوم على فهم الموجات الحضارية الكبرى، أو الأنماط الأساسية التي تعاقبت على نسق حياة البشر، منذ أن عاشوا معا في جماعات مستقرّة. وكان تركيزهم على ثلاث موجات حضارية كبرى، هي:
* عصر الزراعة.
* عصر الصناعة.
* عصر المعلومات، الذي ما زلنا نعيش بداياته الأولى.
أهمّ ما في تلك الرؤية المستقبلية، هو اكتشاف أن التكنولوجيا الأساسية، المحددة لنوع العمل السائد في عصر ما، هي ما يحدد لذلك المجتمع معظم أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وهي التي ترسي أسس القيم والمبادئ والعقائد التي يأخذ بها ذلك المجتمع.
التعليم على مرّ العصور
من القنص إلى الزراعة
نشأت أول موجة حضاري كبرى عندما انتقل الإنسان من القنص والرعي، وتعلّم أن يزرع، وينتظر حتّى يجني ثمار ما زرع.. أي عندما قام المجتمع الزراعي، والذي استمر على وجه الأرض لأكثر من عشرة آلاف سنة.. ومع كل الاختلافات بين البشر الذين عمّروا مصر وبابل، والصين والهند، واليونان وأمريكا الجنوبية.. مع كل التباين في العقائد السماوية وغير السماوية التي أخذت بها هذه الشعوب، فإن أسس المجتمع الزراعي ظلّت هي السائدة.
سنجد نفس الأسرة الكبيرة التي تعمل كوحدة إنتاجية استهلاكية واحدة، وسنجد السيادة الأبوية للأسرة والمجتمع، وارتباط الإنسان بالطبقة التي ولد لكي يجد نفسه فردا فيها.. سنجد نفس علاقة الإنسان بالأرض التي ولد عليها، ونفس العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
كان الطفل في المجتمع الزراعي يشبّ في قرية بطيئة التغيير، مقيّما تصوّره للواقع وفقا للصور التي يتلقّاها من مصادر محدودة ضعيفة، معلّم القرية أو رجل الدين (الكتّاب عندنا أخيرا)، أو رأس القرية، وأساسا يتلقّاها من عائلته.. القليل جدا من أهل القرية هو من أتيح له أن يرى مدينة أخرى.. والنتيجة، أن صورة العالم التي يكوّنها الطفل في القرية، كانت محدودة وضيّقة إلى أبعد حدّ.
الزلزال الكبير
ثم حدث الزلزال الكبير في حياة البشر.. مع اختراع الآلة البخارية، وبداية التحوّل من حياة الزراعة إلى حياة الصناعة.
تغيّرت أسس التي قامت عليها المجتمعات الزراعية، ونشأت أسس جديدة نابعة من طبيعة العمل الصناعي.. الأسرة الكبيرة التي عرفها المجتمع الزراعي تحوّلت إلى أسرة صغيرة، من أبوين وثلاثة أبناء على الأكثر، حتّى يسهل عليها أن تغيّر موقعها وفقا لتغير موقع العمل الصناعي.. ومع ظهور الطاقة الميكانيكية، ثم الكهروميكانيكية، ممّا أتاح الإنتاج على نطاق واسع للغاية، ومن ثمّ استهلاك مناظر، ثم قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الإنتاج والاستهلاك.
كذلك انتزعت من الأسرة الزراعية الكبيرة واجباتها التقليدية، كالتعليم والتمريض ورعاية المسنين والعاجزين، وأوكلت إلى مؤسسات متخصصة تتولاّها. ونتيجة لتعقّد الحياة الجديدة وتضخّم عملية اتخاذ القرار، قام شكل جديد للممارسة السياسية، هو ديموقراطية التمثيل النيابي.
بالإضافة إلى هذا كلّه، نشأت مبادئ وعقائد اقتضتها الحياة الصناعية، كالتوحيد القياسي أو النمطية، والمركزية، والتركيز الشديد في مناطق الإنتاج الصناعي والخدمات الملحقة بها، والتزامن الشديد الذي تقتضيه العمليات الصناعية، والتخصص الشديد في العلوم والإنتاج والخدمات.
لقد حاول عصر الصناعة أن يحيل البشر إلى آحاد متطابقة، يسهل تشغيلها على خطوط التجميع وفي المكاتب، ويمكن دائما التعامل معها والتنبؤ بردود فعلها. وقد نجح في هذا إلى حدّ كبير، رغم تناقضه مع الطبيعة البشرية.
ومن المؤسسات التي اعتمدت عليها الحياة الصناعية، المؤسسة التعليمية الجماهيرية، التي أبدعها فكر عصر الصناعة.
المدرسة - المصنع
التعليم الذي عرفناه، والذي مازال مأخوذا به في كثير من المجتمعات، كان مصمّما لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، وطبيعة العمل فيه. فمع خروج معظم العمل من الحقل والبيت، كان من الضروري إعداد الأبناء للعمل في المصنع. وقد تمخّض هذا عن هيكل مركزي آخر من هياكل المجتمع الصناعي، ألا وهو التعليم الجماعي، أو الجماهيري. وأقيمت المدارس على شكل مصانع تنتج التلاميذ. وكانت مهمة التعليم العام الجماعي أن يلقّن التلاميذ أساسيات القراءة والكتابة والحساب، وشيئا من التاريخ والموضوعات الأخرى. على اعتبار أن هذا هو غاية ما يحتاجه الإنسان ليصبح قادرا على نوع ومستوى العمل السائد في المصنع أو المكتب.
لكن خلف هذا المنهج الظاهر، كان هناك منهج خفي أكثر أهمّية.
ذلك المنهج الخفي تضمّن ـ وما يزال ـ في معظم المجتمعات، ثلاثة دروس هامّة:
٠ التدريب على الالتزام بالمواعيد.
٠ طاعة الرئيس.
٠ التعوّد على العمل المتكرّر.
فالعمل في المصنع يتطلّب من العمّال أشياء لم يكن يعرفها العامل الزراعي.. يتطلّب عمّالا يصلون إلى عملهم في الوقت المحدّد، خصوصا أولئك الذين يعملون على خطوط التجميع. كما يتطلّب عمّالا يتلقّون التعليمات من رؤسائهم، وفقا للتسلسل الوظيفي، فيطيعونها دون تساؤل أو استفسار. ويحتاج إلى رجال ونساء على استعداد للعمل كعبيد للآلة أو المكتب، يقومون بالعمل المتكرّر، كلّ يوم، على مدار حياتهم، دون احتجاج أو تذمّر.
التعليم النمطي الجماهيري
وهكذا، شاع التعليم النمطي الجماهيري، الذي عرفناه، وما زلنا نأخذ به حتّى +الآن، والذي يستهدف:
٠ تعويد التلاميذ على العمل المتكرّر، كوسيلة للاستيعاب. وتقسيم المعارف إلى جزئيات متفرّقة، يتلقّاها التلميذ واحدة بعد الأخرى، دون أن يطلب منه ـ أو يتاح له ـ الربط بينها، للتوصّل إلى الكلّيات. وخضوع التلميذ لآلية تلقّي المعلومات، ورفض أيّ محاولة من جانبه للخروج عن هذه الآلية، أو ابتكار سبيل آخر للوصول إلى المعلومات.
٠ تعويد التلميذ على طاعة الرؤساء، ابتداء من زميله مسؤول الفصل (الألفة)، إلى أستاذه ومعلمه، إلى ناظر المدرسة.. وتعويده على تنفيذ الأوامر الصادرة إليه، دون السماح له بمناقشتها.
٠ تعويد التلاميذ على الانضباط زمنيا، من خلال برنامج العمل اليومي، الذي يبدأ بجرس، ثمّ حصّة، ثمّ جرس، ثم راحة.. وهكذا حتّى نهاية اليوم الدراسي. هذا، بالإضافة إلى التوقيتات العامة، التي ترسّخ النمطية عند التلاميذ، مثل طابور الصباح، وتحيّة العلم، والنشيد الجماعي.
المخطط الخفي
ظل هذا هو التعليم الأمثل على امتداد ما يزيد عن قرنين من عمر عصر الصناعة. وإذا كان هذا التعليم قد شاع في المجتمعات الصناعية لفائدته في إعداد العمالة اللازمة للعمل الصناعي، فإنّه قد شاع عندنا، وعند غيرنا من الدول التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية، نتيجة لرغبة المستعمر في فرض نظمه على الشعوب التي يستعمرها، حتّى يسهل عليه تحقيق الفائدة الأكبر من استعماره.
عندنا، وفي الكثير من الدول العربية، قامت خبرات رجال التعليم على هذا النوع من التعليم، باعتباره الشكل الطبيعي المقبول للعملية التعليمية. ولا أعتقد أن أحد من أقطاب التعليم في مصر كان يدرك الأهداف الحقيقية للتعليم الجماهيري الذي فرضه عصر الصناعة. وإنصافا لهم، نقول أن الكثير من كبار رجال التعليم في الدول الصناعية المتطوّرة، لم يكونوا يدركون المخطط الخفي الذي قام عليه ذلك التعليم. كالعادة، جرى اكتشاف هذا، عندما تلاحقت موجات ثورة المعلومات، في النصف الثاني من القرن الماضي.
لقد اكتشـف المفكّرون والخبراء أشياء كثيرة.. اكتشـفوا أن النظم الإدارية لعصر الصناعـة لم تعد نافعة، وكذلك نظـام الديموقراطية النيابية، والاقتصاد الصناعي بشقيه الاشتراكي والرأسمالي، والتعليم النمطي الجماهيري، والإعلام الجماهيري.. اكتشفوا ذلك عند مراقبة تدهور الأداء المتواصل للأنظمة التي كانت تنجح دائما، والهبوط الذي لا يتوقّف في النمو، ممّا يقتضي سرعة البحث عن سرّ هذا التحوّل.
حياة جديدة للبشر
بفضل مجموعة من المفكرين والعلماء ـ من الشرق والغرب ـ أمكن الوصول إلى رؤية شاملة لمستقبل حياة جديدة للبشر، أطلق عليه في أوّل الأمر مجتمع ما بعد الصناعة. لقد أيقن هؤلاء أننا نمضي إلى نظام جديد للحياة، يختلف كثيرا عن نظامي الحياة الزراعية والصناعية. واكتشفوا أن النظم التي نجحت في عصر الصناعة، لن يكتب لها النجاح في النظام الجديد الذي يقوم على أسس ومبادئ تختلف كثيرا عن نظيراتها في عصر الصناعة.
من واقع دراسة المجتمع الجديد، اتّفق الجميع على تسميته بمجتمع المعلومات، باعتبار أن المعلومات هي رأس المال الأهم فيه. ودون الدخول هنا في العوامل التي قادت إلى انقضاء عصر الصناعة، وسيادة عصر المعلومات، سنركّز على بعض التحوّلات الأساسية، التي تتيح لنا التعرّف على أسس التعليم الجديد، الذي يمليه واقع مجتمع المعلومات:
(1) من النمطية والجماهيرية إلى التنوّع والتباين واحترام الاختلاف،
(2) من المركزية إلى اللامركزية والنظام الشبكي،
(3) من العمل الجسدي إلى العمل العقلي والمعرفي،
(4) من الديموقراطية النيابية إلى ديموقراطية المشاركة،
(5) من التزامن المحكم، إلى الزمن المتكيّف،
(6) من التعليم النمطي، إلى التعليم الشخصي والذاتي المستمر،
(7) من التخطيط قصير المدى، إلى الرؤية المستقبلية،
(8) من التخصّص الضيّق، إلى المعرفة الشاملة،
(9) من السعي إلى الضخامة والنهايات العظمى، إلى شعار الصغير أجمل.
لكي نتعرّف على النظم التعليمية الجديدة في مجتمع المعلومات، يجب أن نحدد مواصفات الإنسان المنسجم مع الحياة في عصر المعلومات، والذي يستطيع الاستفادة من كلّ ما تتيحه الحياة في مجتمع المعلومات، ثم نبني على ذلك الأسس الجديدة للنظم التعليمية في هذا المجتمع.
عدم جدوى الإصلاح
بداية يجب أن نفرّق بين أمرين: إصلاح التعليم الحالي، والعودة به إلى المستوى الذي كان عليه منذ نصف قرن مثلا، وبين إعادة بناء النظم التعليمية عندنا، على أساس احتياجات مجتمع المعلومات الذي يسود العالم بأكمله يوما بعد يوم. الإصلاح، هو أضعف الإيمان، لأنه لا يغني عن إعادة البناء على الأسس الجديدة، والذي هو السبيل إلى حمايتنا من مواجهة كابوس البطالة الشاملة بعد عقد أو عقدين من الزمان.
كل ما نسمعه من محاولات إصلاح التعليم، من بناء المدارس الجديدة، والإقلال من عدد التلاميذ في الفصل، والارتفاع بمستوى المعلّم، والقضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية، وتحسين مستوى الكتاب المدرسي، ووضع معايير محددة لجـودة التعليم.. يدخل تحت بند إصلاح نظام التعـليم الذي استحدثه صالح الاقتصاد الصناعي. أي أننا نسعى إلى إصلاح نظام تعليمي لا ينفع في إعداد أجيال تعيش وتعمل في عصر المعلومات.
هدف التعليم هو: إعداد الإنسان المتوافق مع عصره. لهذا، كان من الضروري أن نعرف طبيعة العصر الذي نمضي إليه، وأن نتعرّف على مؤشراته، حتّى نستطيع أن نستنبط نوع النظام التعليمي الذي يفيد في إعداد ذلك الإنسان المتوافق معه.
إنسان مجتمع المعلومات
دون الدخول في تفاصيل يطول شرحها، يكفينا هنا أن نطرح بعض مؤشرات التحوّل الأساسية الراهنة، والتي تساعدنا على رسم صورة إنسان مجتمع المعلومات، والتي-كما سنرى- تختلف اختلافا كبيرا عن صورة إنسان عصر الصناعة التي صاغتها عقائده ومبادئه.
من أهم مؤشرات التحوّل الحالية، تسارع تدفّق المعلومات والمعارف والتكنولوجيات بمعدّلات غير مسبوقة. ثم مؤشر سيادة العمل العقلى وتراجع العمالة العضلية، التي كانت أساس عمالة الصناعة. وكذلك انقضاء النمطية أو الجماهيرية أو القولبة التي فرضتها الحياة الصناعية على كل شيء، والاندفاع نحو التنوّع والتباين والاختلاف في كل شيء أيضا. ومن المؤشرات الهامة، فقدان البيروقراطية لجدواها، كأساس رئيسي لتنظيم العمل والبشر، وظهور أشكال تنظيمية جديدة، تتوافق مع أسلوب الحياة الجديدة التي يوفّرها مجتمع المعلومات.
وسنرى فيما يلي، كيف ترسم هذه المؤشرات صورة الإنسان المتوافق مع مجتمع المعلومات، والقادر على العمل المنتج الفعّال فيه.
متفــّرد.. غير نمطي
نجاح النمطية والقولبة والتوحيد القياسي في عصر الصناعة، قاد إلى محاولة تطبيق هذه القولبة على البشر، رغم تناقضها مع الطبيعة البشرية. ولكن نتيجة لتدفّق المعلومات والمعارف، تباين البشر واختلفت مشاربهم، وتنوعت مطالبهم من الحياة.
فمجتمع المعلومات يستفيد أكثر من الإنسان الحريص على ذاتيته، المعتزّ برؤيته الخاصّة، الذي لا يرضى أن يكون صورة مكرّرة من الآخرين. هو الذي ينفتح على المعارف والمعلومات، ليختار مكوّنات ثقافته. وهو القادر على التعامل مع التكنولوجيات الإلكترونية المتطوّرة، التي تتيح له تجدّد معارفه.
مفكّر.. ناقد.. مبتكر
نتيجة للتغيّرات الجذرية المتسارعة التي يمرّ بها العالم، يكون على إنسان المعلومات أن يكون قادرا على النظرة الناقدة، لكل ما استقر من فروض وآراء، ممارسا للتفكير الناقد، الذي يستدعي: التعرّف على الافتراضات والمسلّمات التي تقوم عليها الأفكار، لكي يمتحن صلاحيتها في الظروف المستجدّة. ويكتشف السياق الذي خرجت منه، ومدى مصداقية ذلك السياق الحالي. ويكون قادرا على استكشاف بدائل جديدة لما يسود حياته.
ونتيجة لنفس هذه التغيّرات، وانقضاء جدوى الاعتماد على السوابق، عليه أن يكون قادرا على النظر إلى الأشياء بعين جديدة، ممارسـا للابتكار، خاصة بعد انكماش العمل اليدوي الروتيني المتكرر، وإيكاله إلى الكمبيوتر والروبوت، وشيوع العمل العقلي في جميع المجالات.
قادر على التعليم الذاتي الدائم
المعارف في حالة تجدّد دائم. وإنسان مجتمع المعلومات لا يقف تحصيله للمعارف عند حد الشهادة التي حصل عليها. وفي هذا يقال أن شهادة الطبيب أو المهندس، سيسجّل عليها في المستقبل تاريخ انتهاء صلاحيّتها، فلا يتاح له أن يمارس مهنته إلاّ إذا واصل التحصيل طوال سنوات عمله. وبهذا، تصبح الحياة سلسلة من التعلم والتدريب وإعادة التدريب. وهو يعتمد على ذاته في هذا، مستفيدا من تطوّر التكنولوجيات المعلوماتية وتكنولوجيات الاتّصال.
إيجــابي.. متعـــاون
البيروقراطـية، أو التنظيم الهرمي لتسلسل الرئاسات، فقد مصداقيته، وأصبح السبيل إلى الفشل والمشاكل المتوالدة. وبدأ ظهور أشكال تنظيمية جديدة للعمل، تعتمد على هبوط نسبة كبيرة من القرارات التي كانت تنفرد بها القيادات، إلى الوحدات القاعدية، شبه المستقلّة.
ولهذا، يكون إنسان المستقبل إيجابيا، قادرا على حلّ المشاكل، وعلى اتّخاذ القرارات. وفي إطار الندّية التي يفرضها التنظيم الجديد للعمل، يجب أن يكون إنسان المعلومات قادرا على التعاون مع أفراد مجموعته، ومع المجموعات الأخرى داخل المؤسسة وخارجها.
تعليم مجتمع المعلومات
من واقع مواصفات إنسان مجتمع المعلومات، يمكننا أن نتصوّر إطار النظم التعليمية الجديدة، المتوافقة مع احتياجات واقتصاد هذا المجتمع.
وفقا لخصائص إنسان عصر المعلومات التي أوردناها، يمكننا أن نستنبط طبيعة التعليم التي تناسب هذا العصر.. وهذا الإنسان.. والتي تشير إلى:
٠ تعليم يساعد على التفرّد، ويناهض القولبة، ومحاولة جعل الأفراد آحادا متراصة متشابهة.
٠ تعليم خالق للمعرفة، يحض على التفكير والابتكار، ويحارب التبعية النمطية والتلقين.
٠ تعليم يستفيد من دخول الأجيال إلى كل منابع المعلومات والمعارف، بلا قيود أو وصاية.
٠ تعليم يناهض كل ما هو جماهيري، من رواسب نظم عصر الصناعة، ويحترم الفروق بين الأفراد.
٠ تعليم لا يضع قيدا على العقيدة، ويحترم التنوّع الشديد الذي استحدثه تدفّق المعلومات والمعارف في عقائد البشر وتوجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين، هو مصدر ثراء له وللآخرين.
مع دخول الكمبيوتر، والإدارة الرقمية، والروبوت، إلى المصنع والمكتب، وقيامها بجميع الأعمال العضلية الروتينية التي كان يقوم بها إنسان عصر الصناعة، والتي لم تكن تحتاج إلاّ إلى القليل من التفكير والدراسة.. قيامها بذلك بطريقة أفضل وأكمل، دون تدخّل من عناصر الضعف البشري.. لم يبق للإنسان سوى العمل العقلي الابتكاري.. لهذا، اقتضى الأمر الاعتماد على نظم تعليمية جديدة، تختلف كثيرا عمّا كنّا وما زلنا نأخذ به، من بين هذه الاختلافات:
(1) من التلقين، إلى التفكير والابتكار:
الكمبيوتر والروبوت نجح في تولّي معظم الأعمال الروتينية في المصنع والمكتب، وبشكل متفوّق عن الأداء البشري، فلم يبق للبشر سوى العمل العقـلي أو المعـرفي، الذي يقتضي التفكـير، والقدرة على حلّ المشاكل، بالبحث عن بدائل الحلول، واختيار الحل الأوفق للظروف، ثم تطبيقه ومتابعة أدائه. وهذا هو التحوّل الأساسي في النظام التعليمي المناسب لعصر المعلومات. من تعليم يقف عند حد تلقين المعلومات المحدودة، إلى تعليم يشجّع على التفكير، والبحث عن الحلول، ويحض على الابتكار والإبداع. نحن ننتقل من تعليم عصر الصناعة الذي كان يعمد إلى تلقين التلاميذ، وحشو رؤوسهم بشتات المعلومات، وبعض التقنيات، إلى تعليم يستهدف خلق المعارف والتدريب المتواصل.
(2) بيئة تعليمية مفتوحة:
ستتحوّل البيئة التعليمية المغلقة الحالية، إلى بيئة تعليمية مفتوحة، تعتمد على شبكات المعرفة الإلكترونية، التي تعطي أهمية أكبر للقدرات الشخصية. البيئة التعليمية الجديدة، تنهي احتكار المدرسة للعملية التعليمية، وتفتح الباب أمام ممارسة التعليم في البيوت، وفي المؤسسات الاقتصادية التي ستتكفّل بجانب منه.
(3) من التعليم النمطي، إلى الشخصي:
النظام التقليدي النمطي الجماهيري، النابع من عقلية واحتياجات عصر الصناعة، يحل محلّه نظام جديد يقوم على أساس اعتبار قدرة الفرد واختياراته. وهذا يعني أنّه في مكان نظام التعليم الحالي، الذي يجري تقسيمه على أساس الأعمار، يقوم نظام جديد يسمح لقدرات الأفراد بالتقدّم إلى مستويات متقدّمة، بصرف النظر عن العمر.
(4) التعليم على مدى الحياة:
التعـليم العام لعصر الصناعة يقوم على تعليم إجباري، بالإضافة إلى فرص قليلة للتعليم الأعلى والحرفي. وكان التعليم ينتهي عادة بالحصول على شهادة إتمام الدراسة، التي تؤهّل لدخول الوظائف ومجالات العمل.
مع تسارع المعلومات والمعارف، وتغيّر النظريات، وهبوط علوم وصعود علوم جديدة، تنشأ ضرورة اعتماد الدارس، أيا كان عمره، على التكنولوجيات الإلكترونية الحديثة، لمتابعة ما يحدث بشكل عام، وفي فرع تخصّصه بشكل خاص. وهذا يجعل تعليم عصر المعلومات عملية ممتدة على مدى حياة الفرد.
(5) التعليم الذاتي:
يساعد على التعليم الدائم المتواصل، مبدأ التعليم الذاتي الذي يأخذ به عصر المعلومات. وهو ما يوفّره الكمبيوتر، وغير ذلك من التكنولوجيات الإلكترونية. لقد أصبح بإمكان الفرد أن يعلّم نفسه، على مدى مراحل عمره، اعتمادا على البرامج التعليمية الخاصّة بالكمبيوتر، الذي يقوم باختبار الدارس، عند مراحل معينة، للتثبّت من استيعابه، تمهيدا لإعادة الدرس، أو الانتقال إلى الدرس التالي.
ما هي المشكلة؟
ما هي الصعوبة التي تواجهنا عند محاولتنا تحقيق التحوّل في تعليمنا، من التلقين والنقل، إلى التفكير والعقل؟
تكمن الصعوبة في أن حياتنا كلّها تمضي في مصر وفق اعتماد النقل والتلقين، من المهد إلى اللحد، وكراهية التفكير الناقد الذي قد يجترئ على الثوابت، في البيت والشارع والمدرسة والجامعة والحكومة بكل أجهزتها.. وكذلك ضعف قدراتنا في مجال التفكير الابتكاري، الذي يصبح في مجتمع المعلومات ممارسة جماهيرية.
ولكي نفهم أبعاد هذه المشكلة الكبرى، التي يعجز عن إدراكها معظم من يخططون للتعليم.. علينا أن نفهم أبعاد التفكير الناقد، والتفكير الابتكاري، الذي نقول بحتميتهما في مرحلة الانتقال من نمط الحياة الصناعية، إلى نمط الحياة المعرفية.
ولا بد هنا من التنبيه إلى أن هذا التحول لن يتم في هدوء.. وأنه سيلقى مقاومة مستميتة من جميع العناصر الحريصة على بقاء الأوضاع الحالية، إمّا بدافع التخلّف والاستناد إلى مرجعيات تاريخية منقضية، أو بدافع الاحتفاظ بالسلطات والمنافع الحالية، أو بمجرّد العجز عن الرؤية الابتكارية.
التفكير الناقـد
في اختصار شديد، سأطرح هنا أبعاد التفكير الناقد، حتّى نرى معا إذا كان من الممكن تعميمه، في تعليمنا أولا، ثم في جميع مجالات حياتنا بعد ذلك.
في زمن التغيّرات الجذرية الشاملة، كالتي يمرّ بها العالم منذ منتصف القرن الماضي، والتي تبدّل ما استقرّ من شؤون حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. في هذا الزمن، نفقد القدرة على الاستناد إلى الخبرات السابقة، ونحتاج إلى إبداء حرص شديد في تناولنا للأفكار والمعاني والأوضاع، اعتمادا على حصيلتنا السابقة، ودون اختبار جديد لمدى مصداقية ما أخذنا به، وما زلنا نأخذ به.
التفكير الناقد، ينصبّ أساسا على: امتحان الافتراضات التي تقوم عليها أفكارنا ونظرياتنا وعقائدنا.. ثم التعرّف على السياق الذي خرجت منه تلك الأفكار والنظريات والعقائد، لنرى إذا ما كان ذلك السياق متفق مع سياق حياتنا الحالي، والمستقبلي.. ومن عناصر التفكير الناقد:
(1) التعرّف على الافتراضات وتحدّيها:
من أهم أسس التفكير الناقد، محاولة التعرّف على الافتراضات التي يقوم عليها تفكيرنا، وتتأسس عليها ضروب سلوكنا.. وذلك تمهيدا لامتحانها والتحقق من مدى سلامتها واتفاقها مع الواقع المعاصر. نحن هنا نتساءل بالنسبة لكل ما نأخذه مأخذ التسليم، ونعتبره من الأمور البديهية، سواء في تنظيم العمل، أو في علاقاتنا مع الآخرين، أو في الأساس الذي يقوم عليه التزامنا السياسي والعقائدي.
(2) الانتباه إلى السياق الذي تخرج منه الافتراضات:
مع اكتشاف الافتراضات التي تحكم عاداتنا، وسلوكنا، ومداركنا، وفهمنا للأمور، وتفسيرنا للعالم من حولنا.. مع حدوث ذلك نصبح أكثر إدراكا لتأثير السياق الذي تنبع منه تلك الافتراضات.. وممارس التفكير الناقد، يعلم أن الممارسات والتصرفات والترتيبات الاجتماعية لا تكون بلا سياق يحكمها.
(3) تصوّر وامتحان البدائل:
من الأمور الأساسية في التفكير الناقد، القدرة على تخيّل الاحتمالات، وامتحان البدائل المختلفة للطرق الحالية التي يلتزم بها الفرد في تفكيره وفي حياته. عندما يتحقق الفرد من أن العديد من أفكاره وتصرفاته تنبع من افتراضات لا تناسب الحياة الراهنة، ينشغل باكتشاف وامتحان طرق جديدة للتفكير والتصرّف، واعيا بأهمية أثر السياق في تشكيل كل ما يعتبره عاديا وطبيعيا.
(4) التشكّك التأمّلي:
عندما نكتشف بدائل جديدة لما رسخ في تفكيرنا وسلوكنا، نصبح أكثر تشككا في كلّ ما اعتدنا أن نطلق عليه تعبير "الحقيقة النهائية"، أو "التفسير الكامل". وهذا النوع من التشكك يطلق عليه اسم التشكك التأمّلي.. وهو لا يعني التشكك من أجل الرفض، ولكن التشكك من أجل التأمّل والتثبّت من المصداقية. ممارس التشكك التأمّلي، يدرك أن التمسّك بممارسة ما، أو الاعتماد على بنية ما، لزمن طويل، لا يعني أنها الأنسب لجميع الأزمان، وبالتحديد للحظة الراهنة. كما أن مجرّد قبول الفكرة من أعداد كبيرة، لا يعفينا من امتحانها على أرض الواقع الراهن، ثم قبولها أو رفضها واستبدالها، وفقا لما يتمخّض عنه ذلك الامتحان.
الابتكار.. ضرورة عند اقتحام المستقبل
وقد يكون من المفيد أن نحدّد بإيجاز ثماني نقاط أساسية، تتّصل بالتفكير الابتكاري الذي ندعو إلى الأخذ به في مواجهة المشاكل الناشئة عن التغيير الدائم الذي نعيشه، وعند السعي إلى بناء الهياكل الجديدة في حياتنا، التي يفرضها دخولنا إلى مجتمع المعلومات.
(1) الابتكار الذي نعنيه.
الابتكار الذي نعنيه، والذي يتّصل بالتعامل مع المستقبل، له معناه المحدّد الذي يحسن أن نتّفق عليه بداية، والذي يختلف عن الاستخدام السائد لكلمتي "الابتكار" و"الإبداع" في مجال الإنتاج الأدبي والفني.
الابتكار الذي نتكلّم عنه يتضمّن: الوصول إلى الجديد غير المسبوق، الذي تكون له قيمته وفائدته، والذي ينضوي على تغيير للمفاهيم والمدارك.
بهذا، يخرج عن نطاق بحثنا، العمل الفوضوي أو التخريبي، الذي يأتي بأوضاع جديدة غير مسبوقة، لكنّها غير ذات قيمة، ولا يحدث تغييرا في المفاهيم والمدارك.
كذلك يخرج عنه، الإنتاج الفنّي والأدبي، الذي يأتي عادة بغير المسبوق، والذي تكون له فائدته وقيمته، لكنّه في أغلب الحالات لا يحدث تغييرا في المفاهيم والمدارك (وإن كان بعض الإنتاج الفني والأدبي تتحقّق فيه خاصّية تغيير المفاهيم، مثال ذلك بيكاسو وسيد درويش).
(2) الابتكار والتغيّرات الجذرية الحالية.
الثابت أنّنا نمضي إلى شكل جديد لحياة البشر، يختلف كثيرا عن أشكال الحياة التي عرفناها طوال عصر الزراعة الذي امتدّ إلى عشرة آلاف سنة، ومن بعده عصر الصناعة الذي استمر لما يزيد عن قرنين من الزمان.
عند التعامل مع الواقع الجديد الذي تفرضه التغيّرات الحالية والقادمة، لن يجدينا الاعتماد على الأفكار أو النظريات أو المبادئ أو العقائد النابعة من عصري الزراعة والصناعة. لن تفيدنا الخبرات التقليدية، والسوابق المجرّبة، لأنّها لا تصلح للتعامل مع نظام الحياة الجديد الذي يسود عصر المعلومات.
هنا، تتجلّى أهمّية الاعتماد على التفكير الابتكاري: في فهم حقيقـة ما هو حادث، وفي محـاولة التصدّي لحل المشاكل المتفاقمة وغير المسبوقة، ثم أخيرا عند التفكير في عمليات إعادة البناء الشاملة في جميع المجالات.
(3) الابتكار، من الصفوة إلى الممارسة العامّة.
العمل في عصر الزراعة، والصناعة أيضا، كان عملا بسيطا، له طبيعة روتينية عضلية، لا يقتضي الكثير من التفكير، ولا يحتاج من العامل في الحقل أو المكتب أو المصنع أن يبتكر. لذلك، كان الابتكار من عمل الصفوة أو النخبة المتميّزة، عند المستويات العليا من هرم التسلسل الوظيفي.
التطوّرات التكنولوجية الحالية (الكمبيوتر والروبوت) سحبت من مجالات العمل كلّ ما هو روتيني وعضلي، فسادت الحاجة إلى العمالة العقلية أو المعرفية.
العامل العقلي في مجتمع المعلومات، يفكّر ويتصدّى لحل المشكلات المتّصلة بعمله. وخلال بحثه عن الحل المناسب يكون عليه أن يبتكر. وهكذا، يتحوّل الابتكار من تخصّص للصفوة، إلى ممارسة عامة يشارك فيها الجميع.
(4) الذكاء.. والابتكار.
من بين الأوهام الشائعة عن الابتكار أنّه صنعة الأذكياء فقط. ومن ثم يكون على أصحاب معامل الذكاء المتوسّط أو المنخفض ألاّ يحاولوا ممارسة التفكير الابتكاري. وحقيقة الأمر، أنّه لا يوجد ارتباط طردي بين الذكاء والابتكار. بل أن أصحاب معاملات الذكاء العالية غالبا ما يحجمون عن خوض تجربة التأمّل والتخمين والنطق بأفكار جديدة قد توصف بأنّها طائشة. الذكاء إمكانية من إمكانيات العقل البشري، تعتمد على نشاط بعض الأنزيمات، التي تسمح بردود فعل عقلية أسرع، وبمعدّل أسرع في الرصد.
العلاقة بين الذكاء والابتكار، كالعلاقة بين السيارة وسائقها. والسيارة القوية تفقد تميّزها مع السائق غير المدرّب!. كما أنّه ليس من الضروري أن يكون الشخص متميّز الذكاء لكي يمارس التفكير الابتكاري.
(5) العقل البشري ليس مبتكرا بطبيعته.
لكي نفهم هذا، يجب أن نفهم طبيعة عمل المخ، كنظام معلوماتي ذاتي الترتيب. المخ مصمّم بحيث يقيم نماذج وأنماطا للعالم المحيط بنا، ثم يلتزم بعد ذلك بهذه النماذج والأنماط.. هكذا يتم الإدراك عادة عند الإنسان.
ولو أن الأمر سار على غير ذلك، لأصبحت الحياة مستحيلة. المخّ البشري يستهدف جعلنا قادريـن على البقاء، ومواجهة الحياة في كلّ لحظة، ولا يستهدف أن نكون ابتكاريين. ومن هنا تجيء أهمية التدرب المتعمّد على الابتكار، والاعتماد على آليّات خاصة للتفكير الابتكاري.
(6) آليّات الخروج من خريطة العقل التقليدية.
ما دام العقل البشري ليس ابتكاريا بطبيعته، نضطر إلى البحث عن آليّــات أو حيل للفكاك من التخطيـط التقليدي المحفور فيه. ومن بين الآليّات الشائعة، ما يعرف باسم "العصف الذهني"، والتي تعتمد على إطلاق سيل من الأفكار الغريبة، وربّما المجنونة، على أمل أن يصيب أحدها الهدف.
إلاّ أن الذي يحدث في مجال الابتكار يختلف عن هذا تماما. فالعصف الذهني، يفتقد ما يجب تحقّقه من قصد وتعمّد. التعمّد ـ في التفكير الابتكاري ـ يتيح للفرد أن يخرج عن المسالك التقليدية في عقله، من أجل اكتشاف مسالك جديدة، أكثر نفعا في التعامل مع الواقع الجديد.
ملاحظات ضرورية
يجدر بنا ، كلّما فكّرنا في إعادة بناء جانب من جوانب حياتنا، أن نتّفق على بعض ضوابط التفكير:
أولا: في زمن الثبات النسبي أو التغيرات المحدودة، كالتي تحدث خلال سيادة مبادئ الصناعة مثلا، يكون من الممكن التفكير في إصلاح أو إعادة بناء أي مجال من مجالات حياتنا، دون الالتفاف إلى ما يجري في المجالات الأخرى، باعتبار خضوع مختلف مجالات الحياة لنفس المبادئ والعقائد الواضحة للصناعة.. فيمكننا إصلاح التعليم أو إعادة بناء أوضاعه وفقا للأسس السائدة، دون خوف من تناقض ذلك مع صالح الاقتصاد الصناعي.
ثانيا: لكن في زمن التغيرات الجذرية المتسارعة، كالتي يمر بها البشر حاليا، في انتقالهم من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، وقبل أن تستقرّ العلاقات النسبية بين مختلف مجالات الحياة، لا يجوز لنا أن نفكّر في إعادة بناء التعليم ـ مثلا ـ دون أن نرى أثر ذلك على باقي مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، من خلال إرسائنا للرؤية المستقبلية لمصر، اعتمادا على أمرين أساسيين:
(1) رؤية مستقبلية شاملة لمبادئ وأسس مجتمع المعلومات، أي الهدف الذي نسعى الوصول إليه.
(2) الخريطة الحقيقية الأمينة للواقع المصري الراهن، أي الأرض التي ننطلق منها. وهذا يعني واقع الإنسان المصري الفعلي، على سلّم تتابع الموجات الحضارية، من زراعة إلى صناعة إلى معلومات. أي نسبة سيادة العقلية الزراعية، إلى شيوع العقلية الصناعية، إلى مدى اقترابنا من العقلية المعلوماتية. (وما نطلق عليه العقلية، ينبع من مدى سيادة تكنولوجيات كل عصر من هذه العصور).
ثالثا: عندما تتوفّر هذه القاعدة المعرفية، يمكن الانتقال إلى الاستراتيجية العامة لإعادة البناء في مصر، التي تنبع منها مختلف الخطط النوعية طويلة المدى وقصيرة المدى، وتتحدد أولويات الحركة والتطبيق.
(لكي يكون هذا أكثر وضوحا، نقول ـ على سبيل المثال ـ: إنّه لو بقي التعليم المصري على حاله الراهن، وفي نفس وقت تحرّكنا اقتصاديا للعمل وفق مقتضيات عصر المعلومات، فستكون النتيجة بطالة شاملة، لأننا سنخرّج عمالة عضلية، كانت قد تصلح للحياة في المجتمع الصناعي، وغير مطلوبة لمجتمع المعلومات، بينما نفتقر إلى العمالة العقلية الابتكارية التي يطلبها العمل في عصر المعلومات.. والعكس صحيح. لو بدأنا إعادة بناء التعليم على أسس العمالة التي يحتاجها مجتمع المعلومات، دون أن نعيد بناء اقتصادنا في نفس الوقت، سيقود ذلك أي بطالة معكوسة).
رابعا: عندما نتكلّم عن إعادة بناء التعلـيم، أو أي شيء آخـر ، يجب أن نتذكّر أهمية الفهم الجيد لقوانيـن ومبادئ وعقائد المجتمع الذي تمضي إليه البشرية، ذلك الفهم الذي تنبع منه الرؤية المستقبلية الشاملة، ولا نعمد إلى الغرق في الأحلام والأماني وتصورات المدن الفاضلة.. فالثورة الصناعية، واحتياجات اقتصادها، هو الذي وضع حدّا للعبودية والرقّ، وعملية شراء الإنسان لأخيه الإنسان، وليس أحلام البشر أو ثورة سبارتاكوس.
خامسا: مواصفات التعليم الذي يساعد على بناء إنسان عصر المعلومات، لا يتحقّق بالشكل المناسب ما لم ندعمه أساسا بأمرين:
(1) إعلام مختلف عن الإعلام الجماهيري الذي ورثناه عن عصر الصناعة، يتناسب مع إنسان يتحوّل من النقل إلى إعمال العقل، ومن الانسياق والانقياد إلى التفكير الناقد والابتكاري.. إنسان الكمبيوتر والانترنيت، الذي يعتزّ باختلافه عن الآخرين، ويستطيع أن يصنع الدوائر التي ينشط من خلالها.
(2) ممارسة سياسية، تتيح للفرد أن يشارك في اتخاذ القرار، بنفسه دون أن ينيب عنه أحد، تتضمّن هبوطا متدرّجا في مسؤولية اتخاذ القرار، من القمّة إلى القاعدة. ورفع القيود عن نشاط المجتمع المدني، الذي يعتبر خير تدريب على ديموقراطية المشاركة.
من كلّ ما سبق، يتّضح لنا إن التصدّي لإعادة بناء التعليم في مصر، يتجاوز قدرات وزراء التعليم، ورجال الوزارة، والعاملين في حقل التعليم.. وأيضا يتجاوز كل ما يصدر عن الأحزاب المصرية، وبصفة خاصّة ما يصدر عن أمانة السياسات بالحزب الوطني.. ويتجاوز اجتهادات الكتّاب في الجرائد والمجلات، وعلى شاشات التلفزيون،.. لمن لا يعرف لماذا؟.. عليه أن يقرأ هذه الصفحات من جديد..
هلّ بلّغـت.. اللهم فاشـهد..
واقرأ أيضاً:
لماذا لا نريد أن نفهم؟! / الرؤية المستقبلية لمصر