لاشك أن الشهور السابقة شهدت تحولات هائلة في المجتمع المصري, كثير منها إيجابي وبعضها سلبي, فالثورة عمل هائل وزلزال كبير هز الكثير من الثوابت وغير الكثير من المسلمات، ونحن مازلنا في بداية المشوار وربما لم نجن بعد ثمرات الثورة, ولكن تزعجنا بعض أعراضها الجانبية, وأهم تلك الأعراض حالة التشقق الاجتماعي التي أعقبت الثورة, وحالة التصارع بين التيارات المختلفة المؤيدة للثورة والمناهضة لها, بل إن التصارع حادث الآن بين التيارات المؤيدة للثورة وبعضها البعض حول إدارة فترة ما بعد الثورة،
وللعلم فهذا أمر طبيعي في السلوك البشري خاصة في مثل هذه الظروف, ولكن يبقى دائما من الواجب ومن المفيد السعي نحو التئام الصف الاجتماعي والوصول إلى حالة من التوافق تسمح بالعمل الإيجابي في مرحلة البناء, وهذا التوافق يحتمل أن يحدث مع بداية تشكل المؤسسات الديمقراطية كمجلس الشعب والشورى والنقابات العامة ومؤسسة الرئاسة حيث سيجد كل فصيل فرصته للتعبير السلمي الديمقراطي من خلال هذه المؤسسات وتخف حدة المظاهرات والاعتصامات وينصرف الناس نحو الحوار السياسي ونحو بناء خطط للمستقبل ومتابعة التنفيذ بواسطة أجهزة الرقابة الشعبية،
ولكن للأسف ربما يأخذ هذا الأمر وقتا, وربما تزداد حدة التوترات الاجتماعية أو السياسية أو الدينية, لهذا نحتاج لتهدئة وتيرة الصراعات والتوترات والخلافات لكي تكون في الحدود الآمنة التي لا تهدد سلام واستقرار المجتمع, خاصة وأن المناهضين للثورة يستغلون هذه الحالة الراهنة للتدليل على فشل الثورة وعدم جدواها وأنها فتتت المجتمع المصري وهزت الاستقرار، وهؤلاء المناهضين يلعبون على عنصر فقدان الأمل فيصورون الأمر على أنه حالة سيئة ميئوس من صلاحها, وأن المجتمع دخل في حالة صراع وتشرذم وتشظي, وأن هذا لن يمكن الثورة من تحقيق أهدافها, بل وربما يوحون للبسطاء الصامتين من الناس أن الحال كان قبل الثورة أفضل, وهذه دعوة خطيرة لابد وأن ننتبه إليها وإلى خطرها،
والآن أمامنا فرصة عظيمة ورائعة لتحقيق درجة مهمة من التصالح الاجتماعي ألا وهي شهر رمضان, فهو شهر ذو طبيعة خاصة تجعل النفوس أكثر قابلية للتسامي والتسامح ونكران الذات, وتأخذ الأرواح لمستويات علوية تتلاشى فيها الأطماع الدنيوية، شهر يصبح الناس فيه أكثر تراحما وتكافلا, وأكثر استعدادا للتصالح, وأنقى نفسا وأصح ضميرا, ولهذا تجد المتخاصمين قبله يتمكنون من تجاوز تفاصيل الخصومات والأحقاد والغضب والمشاحنات ويلتقون على إفطار أو سحور أو في صلاة تراويح أو صلاة فجر فتهدأ حدة الصراعات ويصبح التصالح أمرا ممكنا،
وإن كان هذا جائزا في حدود الأفراد فهل يمكن أن يتم شيء من ذلك على مستوى الجماعات والأحزاب والائتلافات التي تمتلئ بها الساحة المصرية الآن خاصة بعد ما حدث بينها من اتهامات وتخوينات وتخويفات؟، نعم من الممكن بل من الواجب أن نستفيد من هذه الأجواء الروحانية في رمضان لرأب التصدعات الاجتماعية التي صاحبت أو تلت الثورة, وذلك من خلال لقاءات جماعية تتم بعيدا عن الإطار السياسي, ولا تناقش فيها أية قضايا خلافية, بل تكون القاعدة هي الأخوة الإنسانية والأخوة الإيمانية, ويكون الحديث متوجها نحو الالتئام النفسي والاجتماعي وسعي الجميع لمواساة واحتواء ودعم المحتاجين والفقراء وما أكثرهم في مصر, والاهتمام بأعمال الخير المطلقة والمنزهة عن أي مكاسب سياسية،
وهناك الآن ظاهرة تستحق الإشادة وهي قيام الجيش بتوزيع "شنطة رمضان" وقيام الإخوان بتوزيع مواد غذائية وملابس, وإعلان الكنيسة عن إلغاء حفل إفطار الوحدة الوطنية وتوجيه أموالها لفقراء المسلمين والمسيحيين, ونتمنى أن تنشغل بقية الأحزاب والائتلافات بمثل هذه الأعمال الخيرية في هذا الشهر (وما بعده) بحيث تصبح كل تلك التجمعات موجهة نحو خدمة مصر والمصريين وليست موجهة نحو المكاسب الشخصية أو الحزبية، ونتمنى أن يأتي رمضان القادم ويكون المصريون قد حصلوا على حقوقهم فلا يحتاجون للصدقات والهبات أيا كان مصدرها،
فهيا بنا نقف جنبا إلى جنب في صفوف متراصة في صلاة الفجر والتراويح وسائر الصلوات, ونمد أيدينا جميعا بلا تفرقة لإطعام الجائعين ومداواة المجروحين ولنستعيد روحنا المصرية الطيبة السمحة وروحنا الإيمانية السامية في هذا الشهر الكريم،