قدَّم المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905_1973) في كتابه "شروط النهضة" (1948) مقاربة متميزة للظاهرة الكولونيالية، مقاربةً ظلت متميزة حتى بالمقارنة مع المفكرين الذين جاءوا بعده بعقود ليتناولوا هذه الظاهرة. فبخلاف المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد مثلا، الذي كانت مقاربته للكولونيالية في مجملها احتجاجية على ممارسات الاستعمار وخطابه الاستشراقي ومواقفه الاستعلائية تجاه شعوب الشرق، كان مالك بن نبي أعمقَ رؤية ً عندما قال إن لقيام الاستعمار ظروفا ذاتية وموضوعية.
فعلى مستوى الظروف الموضوعية تحدث مالك بن نبي عن المُعامِل الاستعماري الذي "يخدع الضعفاء، ويخلق في نفوسهم رهبة ووهماً، ويشُلُّهم عن مواجهته بكل قوة". أما على مستوى الظروف الذاتية للشعوب المستعمَرة فتحدث مالك بن نبي عما سماه بمُعامِل القابلية للاستعمار، وهو معامل "ينبعث من داخل الفرد الذي يقبل على نفسه… السيرَ في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاتِهِ وأفكارَه وحياتَه". لذلك يرى مالك بن نبي أن الاستعداد النفسي من لدن الشعوب المستعمَرة للخضوع للاستعمار عامل قوي لاستدامة الاستعمار وبقائه، مستشهدا بقولة مأثورة لأحد المصلحين الذي قال: "أخرِجوا الاستعمارَ من نفوسِكم يخرجْ من أرضِكم".
يبدو أن المقاربة التي قدمها مالك بن نبي لظاهرة الاستعمار صالحة أيضا لتحليل ظاهرة الاستبداد، وذلك لاعتبارين اثنين؛ أولهما أن الاستبداد والاستعمار كِلَيهِما يهدفان إلى نفس الغاية، وهي إخضاع الشعوب للقهر والخسف والإذلال من أجل الاستيلاء على ثرواتها؛ ثانيهما أن الاستعمار يحتاج إلى معامل القابلية للاستعمار عند الشعوب. وبنفس المنطق، فالاستبداد أيضا يحتاج إلى معامل القابلية للاستحمار عند الشعوب لكي تقوم له قائمة.
الاستحمار: في المصطلح وما إليه
الاستحمار مصطلح يدل على الاستغباء الممنهج للشعوب الغافلة أو المغفلة من لدن قوى الاستعمار أو النظم السياسية المستبدة من أجل إلهائها عن المطالبة بحقوقها وثرواتها. فشَغل الشباب بكرة القدم مثلا من أجل إبعادهم عن قضاياهم الحقيقية مثال على استحمارهم. والاستحمار هو في الحقيقة إخراج لهذه الشعوب من طبيعتها الإنسانية والنزول بها إلى مستوى الحمير من أجل تسخيرها للركوب ولمآرب أخرى. ولكن محاولات الاستحمار قد تبقى بدون جدوى وتبوء بالفشل الذريع إذا كانت الشعوب يقِظةً نبيهة، أما إذا كانت الشعوب قابلة للاستحمار فإن معامل القابلية هذا سيلعب لصالح المستحمِر سواء كان مستعمِرا أو مستبدا.
وأول شرط من شروط القابلية للاستحمار عند الشعوب هو العزوف عن القراءة، قراءةِ الواقع وقراءةِ ما استؤمنت عليه من الكتاب. لذلك كانت رسالة الإسلام الهادفة إلى إخراج العالمين من مرحلة الاستحمار حاملة لشعار "اقرأ باسم ربك الذي خلق". ولذلك كان التفريط في فعل القراءة وفي حفظ ما استؤمنت عليه الأمة من الكتاب إيذانا بدخول مرحلة الاستحمار. يقول القرآن الكريم: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا". (سورة الجمعة-5). فلا غَرْوَ إذن أن نرى الأنظمة الاستبدادية تتفنن في تفصيل برادع على مقاسات ظهور الشعوب عندما تقبل هذه الشعوب ألوان الاستحمار الممارَس عليها.
وانتشر استعمال مفهوم الاستحمار في تحليل ظاهرة الاستبداد بانتشار كتاب المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي، "النباهة والاستحمار". ويُعرِّف شريعتي الاستحمار بأنه "تسخير للإنسان كما يُسخَّر الحمار" (ص. 43). ويعتبر أن الاستحمار هو كل إلهاء للمستحمَر بأمر ليس من الأولى له أن يشتغِل به من أجل الاستيلاء على متعلقاته حتى لو كان هذا الأمر إيجابيا في ظاهر الأمر. فالزهد قد يكون وسيلة من وسائل الاستحمار عندما نُقنِع المستحمَر بأن يشتغل بالآخرة حتى نستولي نحن على دنياه. والشعر قد يكون من وسائل الاستحمار عندما نشغل به الشباب عن السياسة. والفن قد يكون من وسائل الاستحمار عندما نشغل به المرأة عن المطالبة بحقوقها… وهكذا دواليك.
ويرى شريعتي أن الشعوب التي تتمتع بصفة "النباهة" تبقى عصية على الاستحمار… أي أنها لا تتوفر فيها صفة القابلية للاستحمار بلغة مالك بن نبي. ويضرب شريعتي مثلا على النباهة برعية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. يقول شريعتي:
"… وحينما رأوا الخليفة عمر، ذلك الإمبراطور الذي فتح لهم مصر وإيران وبلاد الروم، يرتدي ثوبا، من الغنائم الحربية، وهو أطول من أثوابهم بقليل، علت أصواتهم بالمعارضة، وتقسيم الغنائم بالمساواة، لقد صاحوا: لأي شيء ثوبك أطول من ثيابنا؟ وهم لا فرق عندهم بين عمر، أميرِهم، إمبراطورِ الشرق والغرب، وبين جندي من الجنود. لقد أجبروه على المحاكمة لأول مرة، وبدلاً من الثناء عليه، وإجلاله لفتح إيران والروم، طالبوه بالعدالة! انظر إلى شعور تلك الأمة، وإلى اهتمامهم والتزامهم بمصيرهم، وهم يستطيعون أن يرفعوا إيران المتحضرة في العهد الساساني بأطراف أصابعهم، ويلقون بها أينما شاءوا، وفعلا قلعوها، ولا يُعلم أين ذهبت! ولهذا كانوا قادرين على فتح بلاد الروم كلها، ولقد استطاعوا فتح مصر، وإخضاعَها بثلاثة آلاف رجل" (ص. 47).
إن العديد من أبناء هذه الأمة اليوم يقولون: يا ليت لنا زعيما في عدل ونزاهة عُمَر. لهؤلاء أقول: كونوا في نباهة ويقظة شعب عمر، يكن زعيمكم في عدل ونزاهة عمر. إن سُنة الله التي لن تجدوا لها تحويلا تقول أنه كما تكونوا يُولى عليكم. فشعب قابل للاستحمار لن يجد إلا راكبا يمتطي صهوته ببردعة أو بدونها، وشعب يقظ نبيه ستكون له هيبة تفرض على حاكمه أن يفكر ألف مرة قبل أن "يلعب بذيله".
شعوبنا بين الاستبداد والقابلية للاستحمار
إن السلوك السياسي للشعوب العربية منذ بداية ما يسمى بمرحلة ما بعد الاستعمار هو الذي كان له نصيب الأسد في صياغة نُظم الحكم في المنطقة، لأن السكوت عن سلوك النخبة الحاكمة كان إقرارا له. ولا داعي لأن نذهب بعيدا في استقصاء تاريخ هذه الشعوب باحثين عن مظاهر استحمارها وقابليتها للاستحمار، ففي حاضرها ما يفي بالغرض، والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها كلها، ولكن لا بأس من ذكر بعضها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر نرى أن طوائف الشعب العراقي منشغلة بالتناحر فيما بينها من سنة وشيعة ومسيحيين وأكراد، في الوقت الذي تنهب فيه شركة هاليبورتن وأخواتها ثروات الشعب، هذا مثال صارخ عن القابلية للاستحمار. بنفس المنطق، انشغال فتح وحماس بالصراع فيما بينهما فيما يوسع الكيان العدو مستعمراته ويزحف على المقدسات شكل آخر للقابلية للاستحمار. وانشغال المصريين بالاحتراب بين المسلمين والأقباط لم يستفد منه إلا النظام الاستبدادي الذي كان يسعى للتوريث، والذي ثَبَتَ ضُلوعُه في تفجير كنيسة القديسين مطلع هذا العام، مثال آخر للقابلية للاستحمار… وهلُمَّ جرّاً.
أما إذا أردنا أن نتحدث عن الاستحمار والقابلية للاستحمار عندنا في المغرب فالأمر يحتاج منا إلى مجلدات، لا سطوراً في مقال. أليس إهدار مال الشعب الفقير في مهرجان موازين دليلا على اختلال الموازين في هذا البلد؟ أليست الحشود الغفيرة التي تحج إلى هذا المهرجان حتى يموت بعضها تحت أقدام بعض، في مشهد لم نعرف له مثيلا إلا في الديار المقدسة حيث يدوس الحجاج بعضهم بعضا في رمي الجمرات… أليس هذا المشهد دليلا على قابلية هذا الشعب للاستحمار؟ لماذا تُنفَق هذه الأموال على الغناء والرقص؟
أليست الغاية هي ترقيص الشباب "على وحدة ونص" حتى لا يشتغلوا بالعلم ويعرفوا حقوقهم فيصبحون مصدرا لوجع الرأس بالنسبة لنخبة حاكمة تغتني بأرزاقهم؟ ما السر وراء الانشغال بالمسلسلات التركية والمكسيكية وأخواتها؟ لماذا يريدون لأمة محمد أن تصير أمة مهند؟ أليس هذا شكلا من أشكال الاستحمار؟ عندنا في المغرب قناتان تلفزيتان قائمتان على مد يديهما الأثيمتين إلى جيوب المواطنين من خلال فاتورة الكهرباء، وهاتان القناتان تصران على مخاطبة شعبنا الأمازيغي العربي بلسان فرنسي غيرِ مبين، أليس سكوت الأحزاب السياسية والجمعية المغربية لحماية المستهلكين وباقي هيآت المجتمع المدني على هذا الوضع قابلية للاستحمار؟ ألا يستطيع هذا الشعب أن يرى أن مُستحمِريه هم الوحيدون الذين يستفيدون من غفلته؟ إن هذا الحديث المر سيطول بنا إذا أردنا أن نعدد مظاهر القابلية للاستحمار عند المغاربة، لكني أظن أن الإشارة تكفي لأولي الأبصار… ولكن تعداد الأمثلة لا يكفي لأولي الانبطاح.
ماذا بعد؟
إن القبول بالحقائق المصطنعة دون طرح أسئلة هو أم الخبائث. إن التساؤل عن كل ما يجري أمامنا والتفكر في مغازيه وأبعاده ومراميه هو أول عاصم من القابلية للاستحمار. بـ"فضل" مناهج التعليم ووسائل الإعلام صار الاستحمار صناعة قائمة بذاتها، وتجارة مربحة للنخاسين في سوق الرقيق العصري، ولا سبيل أمام كساد هذه التجارة إلا بالتربية على التفكر، رافعين في ذلك كشعارٍ قولةَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشهيرة: "لستُ بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعُني".
واقرأ أيضاً:
أخطاء الفكر وخطايا الفعل مشاركة