توحي لك ابتسامته "الدائمة" في البداية بالبراءة والسماحة وربما بالطفولة المدللة، وتوحي لك هيئته بالشبع حتى التخمة من الطعام والمشاعر، ولكن بعد برهة تتغير الصورة حيث ترى طفلا متمردا نرجسيا إلى درجة عبادة الذات، مراوغا في نعومة، يقطع بسكين لا تشعرك بالجرح، يشغلك بابتسامته عن البلطة التي يحملها في يده، يغير الحقائق ويعطيك ما تحتاجه لكي يطمئن قلبك، وإذا تعمقت أكثر فأكثر فسترى ذلك الوحش بداخله، وحش يتوق إلى الاهتمام وإلى الظهور وإلى المركزية والتسلط. صورته في كل مكان، ومريدوه أيضا، يحركهم بإشارة من إصبعه فمهاراته الإيحائية والاستهوائية عالية للغاية، وقدرته على أن يكسو احتياجاته الشخصية بغطاء ديني مقدس ليس لها حدود.
شاهدت تلاميذه ومريديه يقفون في التحرير (بعد الثورة بالطبع) ينتظرون وصوله إلى الميدان من العشاء حتى الفجر، حيث اصطفوا صفين من طرف الميدان إلى وسطه يتلقون من وقت لآخر حبات التمر وسندوتشات اللحم من شخص يحمل جوالا على كتفه، وحين حضر مر من بينهم وهو يركب سيارته المرسيدس، وتفقد الميدان ثم خرج مسرعا على وعد بلقاء آخر خاطف وسريع كالعادة، فهو لا يعرض نفسه للمخاطر، والبركة في رجاله المقمين في المكان الذي يريدهم فيه. وبالقدر الذي يتمتع فيه بحب القيادة والتوجيه يتمتع أتباعه بحب الطاعة والانقياد له، فذاته تتضخم وتنتفخ وذاتهم تصغر وتنسحق حتى تتلاشى في ذاته، ولهذا فهم رهن إشارته، لا يسألونه عما يفعل أو يقرر، هم فقط ينفذون، فالطاعة له من طاعة الله، والجندية فريضة ونعمة. وهو لا يحتاج أن يبقى معهم في أي اعتصام أو تجمع، يكفي فقط مروره عليهم للحظات خاطفة يصرح فيها بشيء، ويملأ نفوسهم بالحماسة لما يأمرهم به ويبارك طاعتهم وانضباطهم، ثم يغادر الموقع سريعا ليجلس في مكان مريح يستمتع بالطيبات من الرزق، وأحيانا لا يكلف نفسه بالذهاب لأتباعه بل يحدثهم صوتيا عبر التليفون ومكبرات الصوت.
والقناع المبتسم "دائما" يفتح له قلوب البسطاء والقابلين للإيحاء والاستهواء والاستلاب، وهم بالمناسبة كثر بين المصريين، خاصة الشباب الفقير الذين يبحثون عن بطل بمواصفات داعية ليعيشوا تحت رايته حالة جهاد وتضحية، ويجدون بجانب ذلك دفء الجموع وحلاوة الانتماء إلى شيخ أب وقائد مفوه مبتسم "دائما". وهو فوق ذلك يريحهم من عناء التفكير النقدي المجهد ومن اتخاذ أي قرارات قد يجدون صعوبة في اتخاذها، ويحسم ترددهم الحياتي بعبارات حازمة وحاسمة تجعل الطريق ممهدا تحت أقدامهم نحو جنة يعدهم بها.
ظهوره الإعلامي هائل، وأداؤه الحواري مقنع ومقنّع، ونعومته توحي بقدر من العقلانية والتحضر، وقدرته اللفظية ليس لها حدود، وضخامة جسده توحي بالثبات والثقة والامتلاء والاسترخاء، وقدرته على الكر والفر تدعو للعجب والإعجاب (حتى لو اختلفت معه)، وبراعته في تبرير تناقضاته لا يباريه فيها أحد، وأدبه الظاهر يجعل محدثه يتحمل منه أفكاره العجيبة. وهو ضيف دائم على الشاشات الفضية والملونة وفي كل مرة يبدي سعادته بوجوده في القناة التي استضافته وسعادته بالمذيع الذي حاوره، ومع هذا اتهمهم بالفساد والتحيز وحاصرهم هو وجنوده، وتربص بهم.
وأتباعه يظهرون الجانب الآخر له الذي يخفيه خلف ابتسامته الطفولية البريئة، فترى فيهم حدة وغضبا واندفاعا وميلا للاشتباك، ولديهم إصرار على ما يريدونه ويعلنون دائما أن ما يريدونه "لازم يحصل" مع أن الشورى والديمقراطية ليس فيها "لازم". وهم غالبا مشدودين ومشدوهين بسحره الشخصي وحلاوة حديثه عن الدين والدنيا ونضارة وجهه الممتلئ وغزارة جسده المستريح المستقر، وربما يجدون فيه الصورة التي يتوقون إليها من الشبع والراحة والهناء والاستقرار والقدرة والسيطرة والتحكم مع المسحة الدينية المطمئنة. هو بالنسبة لهم أب وزعيم وملهم وقائد وحامي ومعلم وموجه، وهم جنود طائعون ومريدون مشدوهون بسحر الشيخ وعظمته وهالته وحلاوة لسانه وعذوبة حديثه.
وتحت النعومة والعذوبة والبراءة الطفولية ونضارة الوجه والابتسامة البلاستيكية (غير المبهجة) يكمن الوجه الآخر قابعا في ظل الشخصية طامحا نحو الرياسة والزعامة والتميز والتسيد والظهور، باحثا عن موقع المركزية في الاهتمام الذي يبدو أنه تعود عليه طفلا من أم أو أسرة جعلته محور الارتكاز في الكون، وأمدته بمقادير هائلة من الشبع الغذائي والتخمة العاطفية جعلته شرها للاهتمام والتقدير والتأثير، وزودته بملكات ومهارات اجتماعية مكنته من تحقيق مراده.
وهو يلعب دور الزعيم القائد دون كلفة شخصية، فالفاتورة يدفعها الآخرون، وبمعنى آخر فهو قائد المعارك المضمونة والغزوات المحسوبة الآمنة التي جني فيها المكاسب دون أن تتعفر قدماه في أرض المعركة أو يتعكر صفوه بغبارها، ولهذا لا يمكن أن تراه متعبا أو مرهقا أو مكدرا أو مكدودا، وإنما تراه دائما في صحة جيدة تكسو وجهه نضارة لا تخطئها العين وتسريحة شعره الناعم تنم عن رفاهة مطلقة.
والعلاقة بينه وبين أتباعه هي من نوع "السادوماسوشية"، فهو يستمتع بتسيده عليهم وتحريكهم ليقوموا بواجب النضال بالنيابة عنه والتعبير عن الوجه الآخر الذي يخفيه، بينما هم يستمتعون أيضا بل ويتلذذون بالتبعية والانقياد ومستعدون لتقديم حياتهم فداءا لقائدهم وهم يظنون أنهم يقدمونها في سبيل الله، وهم أيضا يجدون فيه الوجه الآخر الذي يفتقدونه من الدماثة والكياسة والنعومة. وفي هذه العلاقة تلتقي رغبة وإرادة السيد برغبة وإرادة المسود ويحدث نوع من الاعتمادية والتواطؤ السري المتبادل ونوع من التماهي مع القناع أو الظل في شخصية التابع والمتبوع تصل بالطرفين إلى حالة من التوازن النفسي ولهذا نرى هذا التماسك والتوافق بينهما. لن أسمّي هذا الشيخ فهو منتشر بيننا وحولنا بما لا يحتاج للتسمية.
واقرأ أيضاً:
التقاعس الأمني جريمة وخيانة للوطن/ مراحيض الفضاء الإلكتروني/ السيد الرئيس... لا تمش في الأرض مرحا/ الصورة المزدوجة للرئيس
التعليق: حضرتك تقصد حازم صلاح أبو إسماعيل
لكني أرى أن وصفه بحب الرياسة والتقدم مبالغ فيه إلى حد ما