اهتز ضمير العالم حين شاهد على فضائياته وصحفه ومواقعه الإلكترونية منظر المواطن المصري وهو عار تماما بينما قوات الشرطة تسحله على الإسفلت أمام قصر الاتحادية يوم الجمعة 1 فبراير 2013م، ويضربه أفرادها بقسوة وإهانة بعصيهم وأحذيتهم بينما هو مستسلم تماما لا يملك أن يفعل شيئا. وقد كان يمكن أن يمر الأمر -كما مرت أمور كثيرة مشابهة في مصر- على اعتبار أن هذا خطأ من بعض الجنود والضباط يعتذر عنه وزير الداخلية (وقد حدث ذلك فعلا في بداية الأمر)، ولكن القريحة والعقيدة الشرطية القديمة والمتبقية من عصر مبارك شاءت أن تضع للمشهد سيناريو آخر حين اختطفت المواطن المسحول العاري وأخذته بحجة علاجه في مستشفى الشرطة لكي يخرج على شاشات الفضائيات في اليوم التالي ليعلن أن الذين نزعوا عنه ملابسه وتركوه عاريا هم المتظاهرون، وأن الذين ضربوه وسحلوه وعذبوه هم المتظاهرون، وأن قوات الشرطة كانت تريد حمايته وعلاجه، وأنه هو الذي قاوم قوات الشرطة حتى أتعبها.
وكانت هذه صدمة هائلة لكل صاحب عقل وضمير، إذ أن مشاهد الاعتداء على هذا المواطن كانت تنقل على الهواء مباشرة ورأى العالم على مدى وقت ممتد الصفعات والركلات والعصي تنهال من أفراد الشطرة بملابسهم الرسمية على كل جزء في جسد الضحية "العاري" بلا أي رحمة وبلا أي ضرورة اللهم إلا رغبة سادية في القهر والتعذيب والإذلال وكسر الإرادة ليس للضحية فقط وإنما لكل من يراه.
لقد تعرض المواطن المسحول لعمليات قهر إرادة وتزييف للوعي لكي يخرج ويزيف الحقيقة تحت تأثير عصا السلطة وجزرتها، وليصدم أسرته الصغيرة التي ربما كانت تتمنى أن تتباهى بتضحية رجلها وعائلها في موقف مشهود كهذا، وليصدم أيضا مشاعر شعب بأكمله كان يستعد للقصاص من مرتكبي الجريمة بكل الطرق القانونية والسياسية، وليصدم الضمير الإنساني الذي تألم لواقعة التزييف أكثر مما تألم لواقعة السحل والتعذيب، لأن السحل والتعذيب ربما يقال أنه تم بشكل اندفاعي في لحظات مواجهة وعلى يد أفراد معدودين يمكن إدانتهم ومحاسبتهم؛
أما واقعة التزييف المفضوحة والساذجة والغبية فلا يمكن هضمها أو قبولها في وجود أدلة مشهودة بالعين للحدث ذاته، كما أنها تعني تورط جهاز الشرطة بأكمله (مع سبق الإصرار والترصد) في التستر على الواقعة بترتيب وتدبير، وتعني أن الجناة لن يطالهم حساب أو عقاب، وتعني أن الدولة سكتت على هذه الجريمة المزدوجة واستراحت من مطاردة جمعيات حقوق الإنسان ومن عذاب الضمير، وتعني تعرض هذا المواطن المعدم الفقير لكل وسائل الترهيب والترغيب حتى يغير حقيقة ماحدث ويدخل في صدام مع ابنته وزوجته اللتان كانتا تدافعان عن حقه في الكرامة بينما اضطر هو أن يكذبهما ويعلن أنه "أدرى بمصلحته"، كل هذا يصب في اتجاه حالة سقوط أخلاقي وتشويه إنساني مروع.
وقصيري النظر ممن تورطوا في هذه الجريمة المزدوجة ربما يعتقدون أن هذا يغلق الملف ويخيف المعارضين أو المعترضين، ولكن هذا في الحقيقة يدفع إلى مزيد من العنف، حيث تصبح الثقة مفقودة في الجميع وتنهار فكرة دولة القانون والحقوق وينهار مبدأ الكرامة الإنسانية (الذي قامت الثورة من أجله) وتنهار فضيلة الصدق وتلحقها بقية المنظومة الأخلاقية، وهذا يمهد لحالة من الفوضى العارمة.
ومشهد السحل هذا يستدعي من الذاكرة مشهد سحل وضرب آخر كانت ضحيته فتاة متظاهرة أمام مجلس الوزراء في عام 2012 إبان حكم المجلس العسكري، ولكن المجلس العسكري وقتها لم يكمل السيناريو بهذا الشكل الذي يتم الآن بل حدث اعتذار ووعد بالمحاسبة. ولم نسمع أو نعرف ماذا حدث لمن سحلوا الفتاة العارية، ولهذا تكرر مشهد السحل والتعرية مرة أخرى ولكن بجريمة إضافية أشد وأنكى وهي جريمة التزييف الغبية والمفضوحة أمام أعين العالم كله مما يجعلنا أضحوكة أمام كل من شاهد الحدث على الهواء مباشرة على كل شاشات الفضائيات العربية والأجنبية.
وقد يفعل ذلك جهاز شرطة لم يتم تطهيره بعد الثورة لأسباب لا نعلمها أو نعلمها، ولكن المصيبة الكبرى أن ترضى الحكومة ويرضى الرئيس بهذا التلفيق وهذا التزييف الفج ويتم إغلاق الملف بكل تقيحاته وصديده وعفنه وكذبه وغشه وخداعه، هنا يتورط النظام كله في الجريمة الكاشفة الفاضحة ويفقد كل مقوماته الأخلاقية أمام حدث شديد التكثيف شديد الدلالة على قيمة الإنسان وكرامة الإنسان وقدرة الدولة والقانون على الحماية والرعاية والردع. لذلك فإن الحد الأدنى في توقعات هذا الحدث أن يرفض السيد رئيس الوزراء هذه المسرحية الهزلية ويرفض رئيس الجمهورية هذه الفضيحة الإنسانية الدولية ويأمرا بفتح التحقيق فيما حدث وتقديم المتهمين للعدالة، والأهم من ذلك تطهير الشرطة من تلك العناصر وتلك العقيدة وتلك العقلية التي كانت سببا مباشرا لقيام ثورة 25 يناير.
وحتى يحدث ذلك، إن كان ثمة احتمال أن يحدث، فعلى جمعيات حقوق الإنسان أن تفك أسر هذا المواطن المسحول، وتتيح له مكانا آمنا للعلاج والتأهيل بعيدا عن مستشفى الشرطة، وتهيئ له كل الوسائل لاستعادة وعيه وكرامته وحقوقه، وتتيح له حماية شعبية مناسبة من كل المؤسسات والهيئات والجمعيات القادرة على ذلك، وسيعرف الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
واقرأ أيضاً:
الشيخ المبتسم دائما!/ العريفي يعرفنا بمصر التي لانعرفها/ من مدرسة المشاغبين إلى باسم يوسف/ هل تدخل مصر عصر الميليشيات؟
التعليق: عندما أقرأ أمثال هذه المقالات، أحسب أني أقرأ نكتة!! وأشعر برغبة عارمة بضحك ينتهي ببكاء مرير!!...
"أبيّة من سورية"