كنت عائدا من عيادتي ليلا وكان طريق عودتي معبئا ببقايا قنابل مسيلة للدموع أطلقتها قوات الشرطة على متظاهرين بالقرب من ديوان المحافظة، وفقدت ساعتها القدرة على الرؤية والتنفس وخشيت أن لا أستطيع الوصول إلى بيتي على قيد الحياة وأنا في هذه الحالة، فقد كان تأثير ذلك الغاز هائلا ومختلفا تماما عن الغاز الذي ألفناه أيام الثورة، وحين وصلت إلى البيت بعد عناء شديد وجدت إعلانا عن خطاب للرئيس بعد قليل، وانتظرت ذلك القليل حتى غالبني النوم من شدة الإرهاق خاصة وأن هذا اليوم شهد ساعات عصيبة قضيتها أثناء النهار محتجزا في سيارتي على الطريق السريع بعد قطعه بواسطة أصحاب مصانع الطوب الذين حاولوا تحطيم سياراتنا ولم تنقذنا منهم قوات شرطة أو جيش رغم استغاثاتنا الكثيرة، ثم علمنا في اليوم التالي أن الخطاب أذيع في الثالثة صباحا أي قبل الفجر بقليل، وتعجبت وتساءلت: لماذا يفعلون بالرئيس وبالناس هكذا، ومن في قصر الرئاسة يريد توريط السيد الرئيس في خطأ بعد آخر فلا ينظروا مثلا في النتيجة ليعرفوا موعد الأعياد قبل تحديد موعد انتخابات مجلس الشعب ولا ينظروا في الساعة ليعرفوا مواعيد استيقاظ ونوم المصريين.
المهم شاهدت الخطاب في اليوم التالي، وكان أول ما لفت نظري حالة الطمأنينة الشديدة التي بدا عليها الرئيس أو بدت على الرئيس، فهو يبدو في حالة من الراحة والاسترخاء والرضا والسكينة والسعادة الداخلية. وحاولت أن أجد تفسيرا لهذه الحالة المتناقضة تماما لما نعيشه ونشهده في الشارع المصري من انقسامات حادة واستقطابات خطرة ونزوع نحو العنف ينذر بحرب أهلية وتدهور سياسي واقتصادي حاد ومروع، فقلت ربما السيد الرئيس لديه أخبارا ومعلومات لا نعرفها عن مصر وأحوالها تجعله مطمئنا إلى هذه الدرجة، أو أن الرئيس لديه ثبات انفعالي مرتفع يجعله لا يتأثر بما يراه كما نتأثر نحن، أو أن تكون الصورة التي تكونت لدى الرئيس من خلال التقارير الأمنية والحزبية تبدو على نحو يجعله مطمئنا وسعيدا إلى هذا الحد، بمعنى أن هناك مصر أخرى في عقل الرئيس غير مصر التي نعيشها.
باختصار شديد كان إيقاع الرئيس مختلفا تماما عن إيقاع الشارع، ودرجة الحرارة متفاوتة إلى حد هائل عن تلك التي تنبعث من بورسعيد والمحلة والمنصورة وكثير من الشوارع والميادين ومصانع الطوب ومحطات البنزين والعشوائيات. وحين سئل الرئيس عن حالة الأمن في سيناء اتضح أنها حالة ممتازة، وحين سئل عن المعارضة اتضح أنها معارضة طبيعية وناضجة وفي حالة وفاق مع الرئيس، وحين سئل عن قطر اتضح أنها مثل أي دولة عربية أخرى، وحين سئل عن بورسعيد تبين أنها تنتظر أياما غاية في السعادة بعد تحويلها إلى منطقة حرة وقلعة للصناعة والتجارة، وحين سئل عن الفقراء أوضح أن كثير من المناطق العشوائية على مقربة من انصلاح الحال وتطوير عشوائياتهم، وحين أخبر عن المصريين المكتئبين صرح بأن ثمة أمل كبير في حياة سعيدة وأن ذلك التشاؤم والاكتئاب لا محل له بيننا.
قلت ربما يريد الرئيس أن يبعث لنا برسالة طمأنينة حتى لا نجزع أو نيأس أو نتألم، وهذا أمر مقبول إذا كان القصد منه هكذا، ولكنني بعين المتخصص ألمح راحة حقيقية وهدوءا حقيقيا وطمأنينة مفرطة، وبعين المتخصص أيضا ألمح حالة من الإنكار، والإنكار لمن لا يعرفه هو حيلة دفاعية نفسية غير واعية تنشط لدينا نحن البشر حين يكون الواقع ضاغطا أو لا نستطيع قبوله كما هو فنعيد صياغته بعد حذف ما يؤلمنا منه ثم ندركه في صورة مخففة ومريحة، وأفزعني هذا الاحتمال ورحت أشكك في نظرية التحليل النفسي؛
وأقول لنفسي لا يمكن أن يتعرض السيد الرئيس لما يتعرض له آحاد الناس من حيل دفاعية تجعله يرى مصر في هذه الحالة النموذجية المريحة جدا لسيادته، والتي فرضت إجابات نموذجية ومثالية على كل الأسئلة التي وجهت إليه، وحاولت أن أقنع نفسي بالاحتمال الآخر وهو أن الرئيس يرى ما لا نراه نحن. وحين سئل عن أزمة السولار نفى تماما أن يمس غلاء السولار محدودي الدخل وأن كل أصحاب سيارات النقل والتوكتوك يحصلون على السولار بالسعر المدعم وأنه لا توجد مشكلة على الإطلاق، هنا اختلفت مع السيد الرئيس مرغما، ليس تشكيكا في كلامه، ولكن تصديقا لمعاناتي اليومية وأنا أسافر على الطرق فأجد الطرق مخنوقة أو مقطوعة بسبب طوابير سيارات النقل الباحثة عن نقطة سولار دون جدوى.
وحين تحدث الرئيس عن الأمن كان كمن يتحدث عن ملائكة يعيشون بيننا ونحن نحملهم فوق طاقتهم بينما هم يسهرون على راحتنا وأمننا، وأن لدينا جهازا أمنيا نفخر به أمام أكثر الدول تقدما ورفاهية وديموقراطية!!!!!. وحين تحدث عن الشعب المصري أثنى على تقدير الشعب لما يفعله!!!.
ويبدو أن الخطأ ليس خطأ الرئيس ولكنه خطأ عمليات المونتاج التي أجرتها مؤسسة الرئاسة على الخطاب والتي أخرت إذاعة الخطاب ساعات طويلة بينما هم يحذفون من الخطاب ما لا يرونه مناسبا فجاء الخطاب منزوع الدسم مغتربا عن الواقع مبالغا في التفاؤل وحذفت منه العبارات الواقعية وتعبيرات الحيرة والقلق التي لابد أنها ظهرت في وقت ما أثناء الحديث ولكنهم حذفوها حتى يبدو الخطاب مثاليا نموذجيا بحيث يقطعوا الطريق على المتربصين من المحللين حتى لا يتصيدوا أخطاء أو زلات للرئيس!!!... فهل يا ترى نجحوا في ذلك، أم أنهم أساءوا للرئيس حين أخضعوا خطابه لمقص الرقيب فجعلوه يبدو في واد بعيد عن الواقع المصري الملتهب والمضطرب.
واقرأ أيضاً:
هل تدخل مصر عصر الميليشيات؟ / السقوط الأخلاقي على خلفية السحل والتزييف / جمعة العقل وخطبة العنف والتحريض / السيد الرئيس.. الشبكه واقعه!