اليوم 30 يونيو 2013م، لم أكن أتخيل مارأيت، المصريون فرحون، الملايين تصافح بعضها، تحتضن بعضها، وكأنهم كانوا في غياب طويل والتقوا اليوم، أجواء احتفالية مبهجة تعم المظاهرات والتجمعات التي ملأت الشوارع والميادين في طول مصر وعرضها. صحيح أن الشعارات تجاه النظام عدائية وتطالبه بالرحيل وبالقصاص، ولكن المشاعر البينية وسط الذين خرجوا مفعمة بالفرحة والحب، والأعلام المرفوعة موحدة، إنها علم مصر ذات الألوان الثلاثة المبهجة، والهتافات كلها من أجل مصر، والذين خرجوا مصريون طبيعيون بحلوهم ومرهم، من أولئك الذين نراهم في المدارس والجامعات والمصانع والحقول والمقاهي وعلى شواطئ البحر في المصايف وفي ملاعب الكرة وفي المساجد وفي الملاهي وعلى النواصي وفي الأفراح والمآتم؛
هم هم المصريون بناجحيهم وفاشليهم بمجتهديهم وكاسليهم بناشطيهم وخامليهم، خرجوا عن بكرة أبيهم (وأمهم) ليقولوا كلمتهم في النظام الذي أعطوه صوتهم في الإنتخابات (أو أعطاه بعضهم صوته) ولكنه لم يحقق لهم ما تمنوه واتفقوا عليه وتوقعوه، بل أشقاهم وأثقل كاهلهم بمشاكل وأزمات في الوقود والكهرباء ومستوى المعيشة، والأخطر من ذلك أنه خدعهم وكذب عليهم وناورهم وأضعف هيبتهم بين الدول بالاقتراض والتسول.
لست هنا بصدد الموقف السياسي ولكني معني أساسا بفرحة المصريين العارمة في هذا اليوم، والتي أحاول أن أفهمها، خاصة أنه كان من المتوقع أن نجد مشاعر غضب في مثل هذه الظروف أو على الأقل مشاعر قلق. لقد كانت هناك ثقة هائلة لدى المتظاهرين أن النظام انتهى وكأنهم خرجوا اليوم للاحتفال بالتنحي وليس للمطالبة به!!... ما هذا اليقين؟... وما هذه الثقة؟... وما هذه الطمأنينة؟
إنها حالة احتفالية أقرب ماتكون إلى يوم العيد، يخرج الناس بكل طوائفهم وأعمارهم صغارا وكبارا رجالا ونساءا شبابا وفتيات تبدو على وجوههم حالة منن التفاؤل والأمل رغم سوء الأوضاع وتراكم الأزمات والصراعات في الشهور الأخيرة. ويزيد من إحساسهم بالطمأنينة والأمان موقف الشرطة منهم وموقف الجيش الذي كتب على دباباته وعرباته "قوات حماية المواطنين"، إن الأمر في هذه المرة مختلف فالشعب يشعر بأن الشرطة معه (أو على الأقل ليست ضده)، والجيش معه، والقضاء معه، والمثقفين معه، والفنانين معه، والإعلاميين معه، وهذا مالم يكن متحققا في الثورة على مبارك. حتى الفلول وحزب الكنبة نزلوا هذه المرة، وربما هذا ما يفسر زيادة الأعداد في الشوارع والميادين بما يتجاوز أعداد الثوار في الموجة الأولى للثورة.
هل لأن الشعب أسقط مبارك بجبروته في 18 يوم فأصبح لديه ثقة عالية بقدرته؟... هل يشعر الشعب بالفرحة لأنه عاش الشهور الماضية في حالة انقسام سياسي وتهديد بالحرب الأهلية، واليوم يجد نفسه موحدا ومتحابا بكل طوائفه في الشوارع والميادين يحمل أعلام مصر ويهتف باسم مصر ومتجاوزا كل دعاوى الفرقة والتقسيم والطائفية والعنصرية؟
يبدو أنها فرحة التوحد وطمأنينة الثقة وثبات الخبرة في إسقاط الأنظمة التي لا تحقق وعودها ولا تحقق مصالح الشعب وأحلامه، إنها فرحة الانتصار على من كذب وخدع وناور وراوغ وظن أنه أذكى من هذا الشعب فخرج الشعب ليؤدبه وليعاقبه وليسقطه. الشعب يشعر الآن أنه الأقوى والأقدر والأحق.
أعرف أن الساعات القادمة ربما تحمل مفاجآت غير سارة وأعرف أن احتمالات العنف والمواجهات قائمة ومتوقعة، فقد عكر صفو هذه الأجواء التظاهرية الاحتفالية أحداث عنف هنا وهناك في بعض المحافظات وهي قابلة للتكرار والانتشار خاصة وأن مؤيدي الرئيس ليس من السهل عليهم التسليم بالأمر الواقع وإدراك أثر الحشود الشعبية الهائلة في كل مكان (خاصة وأنه يقال لهم أن الثائرين على النظام عدة آلاف من الفلول وأعوانهم المدفوعين بالإعلام الفاسد والعلمانيين الكارهين للمشروع الإسلامي)، وربما يشعرون بخطر التصفية أو الإعتقال فيحاربون معركة حياة أو موت، أو يستشعرون أو يشحنون بأنهم يدافعون عن المشروع الإسلامي أو عن الإسلام ضد من يعادونه وهنا يقاومون فكرة إسقاط النظام بكل مالديهم من إمكانات فتسيل الدماء في المعركة الغلط. يضاف إلى ذلك غياب قيادة للجموع الثائرة وغياب مشروع بديل لإدارة البلاد في المرحلة القادمة.
رب ألهم الجميع الصواب والرشد، واحم هذا البلد وأهله الطيبين من كل سوء.
واقرأ أيضاً: