يصر أصحاب الصوت الأعلى في مصر بعد 30 يونيو وحتى الآن على أن ما حدث كان ثورة ! ولا أدري ما هو تعريفهم للثورة؟ بل لعله كان فادح الأثر في نفسي –رغم استيائي من كل ما جرى- ما سمعته من المستشار الإعلامي للرئيس المطبوع في المؤتمر الصحفي وهو يقول ردا على الصحفي الذي اعتبر ما حدث استكمالا للثورة وليس بذاته ثورة : "لو لم تكن 30 يونيو ثورة فإن 25 يناير أيضًا لم تكن ثورة" ! .... وكأن هناك مجالا لتشبيه ما حدث في 30 يونيو بما حدث في ثورة 25 يناير المجيدة، .... على إثر ذلك الرد بدأت تتبلور مقارنة كانت تجول في خاطري بين اليومين في حياة مصر وبين نوعية من خرج في هذا وذاك من جماهير المصريين ورأيت أن مغالطة كهذه لا يمكن أن تمر دون توضيح وتفنيد!
ولنبدأ بالتساؤل عن الواحد ممن خرجوا للتظاهر يوم 25 يناير كم يساوي من الذين خرجوا يوم 30 يونيو؟ كم يساوي من حيث الشجاعة والمخاطرة ؟ وهو سؤال أدعو كل عاقل أن يسأله لنفسه، في 25 يناير كان المعلن أن الشرطة لن تتعرض للمتظاهرين ولكن أحدا لم يكن يستطيع أن يطمئن إلى شرطة العادلي ومبارك لأنهم لمن لا يتذكر لم يكن يصدقهم أحد (وكان الحديث الدائر بين شباب الثورة قبل ذلك اليوم وقد سمعته بنفسي: سنخرج يوم 25 لنتجمع في التحرير وأمام دار القضاء العالي فإذا تجمعت أعداد كبيرة فإنا سنكمل الثورة على النظام وإن لم تتجمع سنعود بيوتنا ليلا فالمعتاد أن الذين يقبض عليهم دائما كل مرة هم الإخوان المسلمون، ولعل في هذا ما يشير إلى أن بعض الثوار على الأقل اتخذوا الإخوان كبش فداء دائما قبل الثورة وبعدها)... كان من يخرج للتظاهر في عهد مبارك يعرف أنه قد يصاب وقد يعتقل أو على الأقل يفتح له ملف في أمن الدولة وتستمر مراقبته والتضييق عليه، المهم –مع أقصى الكرم- فإن واحدا ممن خرجوا يوم 25 يناير يساوي 100 على الأقل من الذين خرجوا يوم 30 يونيو حيث الشرطة تحميهم والقنوات التليفزيونية تدعوهم وتدعمهم والحرس الجمهوري يده عنهم مغلولة!
نأتي بعد ذلك إلى الذين خرجوا في جمعة الغضب 28 يناير 2011 (عندما انضم الإخوان رسميا إلى الثورة ونزلوا إلى الميادين في كل مصر فانكسرت أسطورة الداخلية ! خلال ساعات)... كم يساوي أي واحد خرج يوم 28 يناير حيث كان معروفا أن قوات الشرطة استعدت بكل جحافلها وعدتها وعتادها للتصدي للمتظاهرين! ولم يكن ينظم أفعالهم لا قانون ولا تقوى؟ (ومنكر ذلك اليوم إما شرطي أو كذاب!)، كم يعادل ذلك الواحد من هؤلاء من الذين تواجدوا في ميادين مصر يوم 30 يونيو؟ أحسب أن تقدير 1000 مقابل الواحد فيه ظلم كبير لمن خرجوا يوم 28 يناير! علينا إذن قبل السقوط في فخ مقارنة أعداد بأعداد أن ننتبه إلى الفارق المذهل بين المناخ السياسي والأمني والإعلامي في يناير 2011 وما يقابله في يونيو 2013، وإلا فإن رؤيتنا مضللة.
من المضحك المبكي أننا الآن نسمع كثيرا تعبير "أبطال حركة تمرد"؟! أبطال!! أبطال أبطال! لكن لابد لي أن أتساءل عن علامات البطولة؟ كم منهم من وقفوا أمام جحافل الأمن المركزي وأطلقت عليهم النار! وكم منهم من دهسته سيارات الأمن المركزي؟ وكم منهم ألقيت عليه طلقات الخرطوش والقنابل المسيلة للدموع ؟ وكم منهم وقف عليه ساديو شرطة العادلي ومبارك بأحذيتهم ؟؟؟ وكم منهم كانت عينه هدفا للقناصة؟ أو كان قلبه أو رأسه؟... ما هي البطولة تلك التي أبداها أبطال تمرد! ... لابد أنها بطولة "دولسي" أو "كاراتيه"! أو "كمانانا"! مع الاعتذار لأصحاب الأسماء! ... حقا ما هي البطولة في الثورات؟ أليس لها تعريف؟ أم إلى هذا الحد يستخفون بعقول المصريين!
أود أن يخبرني أيٌّ من المرددين لتعبير "بطولة حركة تمرد" و"شباب تمرد الأبطال" كم واحد منهم اعترضه أحد وهو يحاول جمع التبرعات؟ هل أحد منهم تم التضييق عليه ؟ بالعكس كانت قنوات "الفلول" تسجل عملهم وتتغنى بهم وتحبب الناس فيهم؟ وأغلب الذين يفعلون ذلك كانوا من المتواطئين مع نظام مبارك على شباب الثورة في التحرير عندما كانت هناك ثورة! وكان الناس بالشارع إما مخدوعون يوقعون بكل أدب أو من الذين "إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" .... فهل البطولة كانت الوقوف على النواصي وفي الميادين لجمع التوقيعات؟ أظن البطل هنا كان النظام الذي سمح لهم بذلك ولم يأمر أحدا من الشرطة بالتضييق على أي منهم!
وشخصيا منذ يوم 30 يونيو وما تلاه حتى اكتمال الانقلاب فوجئت مثلما فوجئ كثيرون في مصر وخارج مصر بالأعداد الهائلة التي خرجت ورأيت تفسير ذلك جزئيا بالاجتياح الانتخابي للآخرين وما يخلفه ذلك في نفوسهم من عداء لا للإخوان فقط بل للدين الذي يستأسد به الإسلاميون في الانتخابات، لكنني وتحديدا يوم إعلان الانقلاب (الأربعاء 2 يوليو وهو من أيام تواجدي في عيادتي بمصر الجديدة بجوار قصر الاتحادية) اضطررت تحت إلحاح زوجتي للنزول فكان أن رأيت عينة من المتواجدين حول القصر وساعدني ذلك جدا على فهم ما حدث ... فقد كانت أعداد السيدات والبنات -بكامل زينتهن- كبيرة جدا وأعداد اللواتي اصطحبن أطفالا أو كلابا أو قططا كبيرة بشكل لافت بما يوحي أنهم أهل مصر الجديدة نزلوا للفرجة والفسحة وربما للتعبير عن موقفهم السياسي أيضا في أمان تام ولا أظن إحداهن تدعي أنها كانت نازلة الثورة ! فهي كانت بالكثير نازلة تتفرج على المظاهرة كيف تكون.... كثيرون أيضًا كما أشرت من قبل هم من العاملين في الخليج فبعضهم الآن في إجازة الصيف وقد نزلوا ليتفرج أولادهم على المظاهرات كيف تكون! إذن هو مثلما أشرت من قبل شكل مودرن لما كان يسمى في مصر بالموالد!.... لست أقصد هنا الاستهانة بالتظاهرات وإنما أود بيان مدى الأمان والسلامة في الخروج وكيف يكون منتهى الظلم أن نقارن أعداد من خرجوا في هذه الظروف بأعداد من خرجوا يوم 25 أو 28 يناير 2011.
في التظاهرات أيضًا كان كم كبير من البلطجية والرعاع المهمشين في مصر، ولعل ما رأيته من رايات وأعلام مرفوعة عليها سباب من أحقر الألفاظ في مصر كان سببا في إعراض زوجتي وطلبها ترك المكان، وأعربت عن حزنها وأسفها لأن المحترمين في التظاهرة لم يمنعوا شيئا كهذا، وكان ردي عليها أن العداء للإسلاميين يعمي النفوس، وكان من المضحك أن أسمع إحداهن تقول لأخرى : "ده .... بتاع كلية الشرطة اللي كلمتك عنه" عندها ضحكت وقلت والله عشنا وشفنا د. مرسي جمع الشرطة مع الشعب في مظاهرة ضده! ولم تكن بلغتني بعد أنباء رتب الشرطة الذين كانوا بزيهم الرسمي يرقصون في الميدان ! عيانا بيانا أمام الكاميرات وهو ما يشير إلى منتهى الاستهانة بالثوار (وهو وضع أعرف أن حقدهم الانتخابي تسبب في صبرهم عليه حتى الآن)، ومنتهى الاستهانة والاستخفاف بعقول الناس.
وفي التظاهرات كذلك كما بينت في مدونة سابقة كمٌ كبير من البسطاء ومحدودي الدخل الذين استفزوا ولا شك بأزمات الكهرباء والبنزين، مثلما فيها أعداد غفيرة من الذين تصنع عقولهم الفضائيات المعروفة والتي كانت تتجاوز خطوط الأدب يوميا وباستمرار ولم يغلقها أحد من نظام الدكتور مرسي، وفيها كل المنتمين إلى أحزاب المعارضة وفيها ربما أعداد ضخمة من المسيحيين الذين فزعوا وروعوا بفوبيا الحكم الإسلامي، ... وأيا كانت أعداد المتظاهرين وانتماءاتهم أنا لا أريد من قارئي هذه المدونة إلا الانتباه إلى أن الخروج للتظاهر في رعاية الشرطة والجيش وتشجيع الفضائيات، وتواطئ أغلب أجهزة الدولة والمحليات (لمن لا يعرف ففي أغلب المدن المصرية أغلقت المجالس المحلية ومجالس المدن من صباح الأحد 30 يونيو وكتب عليها المجلس مغلق حتى رحيل النظام!) يعني يعرف نازل المظاهرة أن الحكومة كلها معه وليس الشرطة فقط! فإذا انتبهت عزيزي القارئ اسأل نفسك هل تمثل تظاهرات 30 يونيو "ثورة؟!" .... وهل "شباب تمرد أبطال؟" وهل ما حدث كان سقوطا للإخوان أم كان سقوطا لثورة 25 يناير؟ وإن كان متوقعا من الشرطة ومن الفلول أن ترقص في الحالين فإن من العجيب أن يرقص ثوار 25 يناير للاحتفاء بما يمثل تتويجا لانتصار الثورة المضادة!...!
كذلك أدعو كل واحد منكم أيها المصريين المصدقين أن ما حدث كان ثورة سواء كنتم من معارضي مرسي أو مؤيديه، أدعوه أن يقارن في ذاكرته بين الشارع المصري في الأيام الأولى التي تلت ثورة 25 يناير وتلك التي نعيش اليوم ! ..... حصاد المقارنة ببساطة هو أننا خرجنا من أحداث 25 يناير وحتى 11 فبراير متفقين جميعا ....(مشاعر الكل تكاد تكون واحدة، باستثناء نسبة قليلة -حقا قليلة أو كانت قليلة- من الفلول ورجال المخابرات والشرطة، وحتى هؤلاء لم يجدوا صعوبة أو لم يعلنوا عنها في ذلك الوقت)، وكانت السعادة بادية في تعاملات الناس وتصرفاتهم، هل تجدون أي شبه بين ذلك وبين الشارع المصري بعد أحداث 30 يونيو؟ ... الشارع منقسم من قبل ذلك بكثير .. أعرف لكن السؤال هل توحد الناس (رغم جهود الانقلابيين بما فيهم شيخ الأزهر وبابا الكنسية) ؟ أم ازدادوا تفرقا ؟ هل الشعوب بعد الثورات تخرج منقسمة ؟ إلا أن تكون هزيمة فصيل من الشعب تجاه فصيل ... فإن كانت كذلك فهي ثورة ! لكنها إن شئتم الدقة هي تتويج الثورة المضادة بامتياز بدأت من يوم 11 فبراير (كما في كل الثورات) ... وهي بدلا من أن تتعثر أو تتراجع أخذت تتقوى وتتآمر حتى جاءت أحداث الثلاثين من يونيو لتشكل غطاء أحسن إعداده لتلك الثورة المضادة... وجعلت المصريين في أعين العالم من الشعوب المضحوك عليها بامتياز (تصديقا لقول ابن العاص أرضها ذهب ونساؤها لعب ورجالها عبيد لمن غلب يجمعهم مزمار وتفرقهم عصا)!.... مناخ الشارع في مصر مشحون بين مكلومين يشعرون بالغدر وبالخطر على دينهم ! ومنتصرين واعين يحتفلون صادقين وآخرين تمثيل! وبين فرحين يحسبون ما حدث انتصارا لمصر ! ... وآخرون أغلبية لا يبدو أن الأمر يعنيهم سار في أي اتجاه لا يريدون إلا استقرارا ولو بالذل!
الإعلام المتحيز للفلول والمعارضة (خرج الانتخابات) يحاول الآن بشتى الوسائل والطرق إقناع الناس بأن ما حدث كان ثورة وأن شباب تمرد أبطال ثورة! ويضطر من أجل الوصول لذلك أن يدشن أكاذيب وراء أكاذيب بما فيها كيل الاتهامات للإسلاميين وإطلاق الشائعات، وفي نفس الوقت أغلق منفذو الانقلاب كل قنوات الإعلام المتحيز للإسلاميين ويستمرون في التضييق على قنوات الإعلام المحايد بتهمة انحيازه للإسلاميين .... وفي مناخ كهذا تنشط الشائعات على الجانبين وتصبح الاحتمالات كلها مفتوحة والمآلات متسمة بالغموض.. والمتابع للموقف الآن يدرك أن الجيش وقع في ورطة كبيرة فلا هو أحسن تقييم الأمور قبل القرار بالانقلاب ولا هو يحسن تسيير الأمور بعدها، وبغض النظر عن الكاسب أو الخاسر في هذه المأساة، أسأل الله أن يهدي القائمين على الأمر قبل أن يصبح تدارك الموقف غير ممكن،.... وقبل أن يصح وصفنا المتوجس له بـ "30 يونيو الأسود"... لا "ثورة 30 يونيو"! .... وأخيرا أقول للجميع اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون!
واقرأ أيضًا:
لا شمع ولا مياه .... ولا كهرباء ولا بنزين/ مدونات مجانين فوائد انقطاع الكهرباء/ المارد الذي بعيدا عن النزال 2012/ مازوخية المصريين: ثورة بالقانون وها.. ذي آخرتها!/ مازوخية المصريين: باي باي ثورة!