الأخطبوط الأمريكي في آسيا الوسطى: اكتمال دائرة حصار الشرق الأوسط
من يمتلك ذات الكتالوج القديم في محاولات فهم الأهداف الأمريكية في العالم، فمن الأفضل أن يعمل على تغيير هذا الكتالوج بالنسخة الأحدث، التي تحوي معطيات أمريكية مختلفة جداً في استراتيجية الولايات المتحدة في العلاقات الدولية، والمبنية دوماً ومن دون تغيير على مصادر الطاقة! من المهم أن نلتفت إلى نشاطات ساخنة لواشنطن في أماكن أخرى في هذا العالم، لنفهم كيف تفكر القوة العظمى وما هي توجهاتها.
آسيا الوسطى، المنجم الجديد، ومحط اهتمام وأولويات واشنطن في السنوات الأخيرة، وهي المنطقة التي تتمتع بأهمية جيوسياسية تتناسب وطموحات واشنطن في السيطرة على أهم المحاور المستهدفة للأمريكيين – إيران، أفغانستان، الصين وروسيا بالضرورة. وقد صار جلياً أن واشنطن تبذل قُصارى جهدها للسيطرة على قادة تلك الدول في هذه المنطقة، خاصة في أوزبكستان، مستخدمة كل الوسائل المشروعة منها والمحرمة.
وكانت أولى علامات هذا النشاط الأمريكي فضيحة التجسس الكبرى التي أُثيرت في أواخر عام 2010 في أوزبكستان، عندما أُدين السكرتير الثاني في قسم الاقتصاد السياسي في السفارة الأمريكية في طاشقند، (جيمس روكر) بتهمة التجسس، وشريكه المتحدث الرسمي باسم وكالة المخابرات المركزية في أوزبكستان (جيفري روزنبرغ)، ليتبين بعد التحقيق أن الـ (’سي آي إيه’) جندت شبكة جواسيس عسكريين لها في أوزبكستان.
إن هذه الاختراقات الداخليـة الخطيرة تمـس الأمن القومي لأيـة دولـة بشـكل مباشـر، كما حدث في العراق؛ فنحن نعلم أن انتصار الولايات المتحدة وحلفائها على الرئيـس العراقي الراحل صدام حسـين، حدث نتيجـة خيانـة عدد من الجنرالات العراقيين الذين كانوا مسـؤولين عن تأمين وحمايـة العاصمـة بغداد، ولم تُخفِ أمريكا يوماً بأن هؤلاء الجنرالات تم تجنيدهم من قِبل المخابرات الأمريكيـة، خلال فترة ابتعاثهم للدراسـة والتدريب في الولايات المتحدة إبان الحرب العراقيـة الإيرانيـة..!!
ولأن اللاعب الأمريكي له نمطية محددة في سلوكه، فإن المقاربة مع لعبة واشنطن قبل سنوات في فنزويلا، حين أرادت التخلص من (شافيز) وقتها، تكاد تتطابق في الأسلوب، حين تدخلت أول مرة في أوزبكستان في محاولة أيضاً للتخلص من الرئيس الأوزبكي (كريموف)، بسيناريو‘الثورة الملونة’ ـــــ على غرار ما حصل في أوكرانيا وجورجيا ـــــ التي بلغت ذروتها في الأحداث الدامية في أنديجان في أيار/مايو 2005. لكن السلطات الأوزبكية حينها أبدت العزم والإرادة السياسية في نزع فتيل أزمة دموية، حسب السيناريو الأمريكي المخطط له، من خلال وقفة مواجهة قوية.
ومع ذلك لم توقف وكالة المخابرات الأمريكية محاولاتها لفرض سيطرتها على الأنظمة القائمة في دول آسيا الوسطى، خاصة في أوزبكستان إلى أن رضخ الرئيس الأوزبكي (كريموف) أخيراً لواشنطن وأصبح كالدُمية في أيديهم.
وليس عبثاً تصريح (كريغ موراي) السفير البريطاني لدى أوزبكستان 2002-2004، الذي أكد فيه أنه يملك وثائق مهمة حول أنشطة وكالة المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية MI6 على الأراضي الأوزبكية، عندما قامت المخابرات الأوزبكية بتزويد المخابرات الأمريكية والبريطانية بمعلومات عن وجود علاقة بين المعارضة الأوزبكية الداخلية وتنظيم‘القاعدة’، وقتها انتهجت المخابرات الأوزبكية سياسة التعذيب والتنكيل بحق المعتقلين لديها، للحصول على اعترافات خطية تُدينهم "بالإرهاب"، والتي بالطبع لم تكن صحيحة وانتُزعت من المتهمين بأسلوب التعذيب والتهديد، كل هذا في سبيل التقرب من واشنطن كحليف جديد موثوق به.
يُضيف (موراي) أن المعلومات الواردة من المخابرات الأوزبكيـة لا يمكن الوثوق بها لدرجـة عاليـة، ولكن قيمتها العاليـة كونها جاءت تتماشـى مع خطـة الولايات المتحدة لتبرير وجودها في منطقـة آسـيا الوسـطى، من أجل مواجهـة المد "الإرهابي" الإسـلامي على حسـب قولهم. ويُتابع (موراي) الحديث قائلاً، كانت طاشقند واحدة من الأماكن الثلاثة أو الأربعة الأكثر استخداماً لقانون الطوارئ، وكثيراً ما كانت الحكومة الأمريكية تنتقد أوزبكستان على ذلك، مشيرةً إلى أن نظامها يفتقد للكثير من الديمقراطية. ولكن عندما وافقت السلطات الأوزبكية على التعاون العسكري مع واشنطن وسمحت للطائرات العسكرية الأمريكية بالهبوط في مطار طاشقند، صرحت واشنطن مباشرة بأن البلاد تسير في الإتجاه الصحيح وبخطوات ثابتة نحو الديمقراطية الغربية، تحول مدهش! أليس كذلك؟
يُتابع السفير (موراي) حديثه قائلاً بأن الأشخاص الذين نقلتهم طائرات CIA من مختلف أنحاء العالم إلى معتقلات التعذيب في أوزبكستان، مُورس عليهم أشد أنواع العقاب والتنكيل، لإجبارهم على الاعتراف بأنهم أعضاء في تنظيم "القاعدة"، وأنهم كانوا في معسكرات التدريب في أفغانستان، وأجبروهم على الاعتراف أيضاً بأنهم التقوا بزعيم التنظيم أسامة بن لادن شخصياً.
أما أخطر وأهم ما يورده (موراي)، فهو حين يؤكد رؤيتـه للوثائق التي تُثبت أن الدافع الحقيقي وراء العدوان العسـكري الأمريكي والبريطاني على أفغانسـتان كان حقول الغاز الطبيعي في أوزبكسـتان وتركمانسـتان؛ فالأمريكيون يــريدون مد خط أنابيب الغاز عبر أفغانسـتان، بالقفز على جغرافيـة روسـيا وإيران، ولضمان ذلك، كان بالضرورة أن يتم الغزو بحجـة محاربـة "الإرهاب"، وما هي علاقـة الشـرق الأوسـط بكل ذلك؟ الجواب وفقاً (لكريغ موراي)، أن القاعدة الجويـة الأمريكيـة في "خان آباد" لم تكن لها حاجـة حقيقيـة قصوى كعنصر إمداد للعمليـة العسـكريـة في أفغانسـتان، كما تناقلت وسـائل الإعلام الأمريكيـة آنذاك، ولكن الحرب على أفغانسـتان اسـتُخدمت كمبرر وذريعـة لافتتاحها.
ففي الواقع، إنها واحدة من عدة قواعد جويـة أمريكيـة أُنشـأت أصلاً لكي تكون كالقيد حول عنق الدول في منطقـة الشـرق الأوسـط، التي بموجبها يسـتطيع الـ (بنتاغون) أن يُسـيطر ويُدير خطوط النفط والغاز التي تمتد من الشـرق الأوسـط عبر القوقاز إلى آسـيا الوسـطى.لهذا السـبب وقعت إحدى الشـركات الأمريكيـة عقداً لبناء خط أنابيب لنقل النفط والغاز الآسـيوي عبر أفغانسـتان إلى بحر العرب. وهذا ما يُفسر الاهتمام الأمريكي لتوقيع الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأفغانستان، فضلاً عن الدعم القوي الذي يُقدمه الرئيس الأوزبكي (كريموف)، لإتمام هذه الصفقة، مستغلاً موقع أوزبكستان الاستراتيجي، كونها في منطقة مجاورة لأفغانستان، وسعيه لجني أكبر قدر ممكن من الفائدة الشخصية لشراكة محتملة مع دول حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، وأيضاً سعيه إلى التخلص من النفوذ الروسي والشراكة التاريخية لصالح السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة.
من أجل كل تلك المنافع التي يصب جزء منها في رصيده بدأ الرئيس الأوزبكي يتبنى خططاً أمريكية طويلة الأجل، على أمل أن يشارك في هذه العملية المربحة. فهم يحتاجون للمساعدة الأمريكية في فتح الطرق السريعة وفي بناء السكك الحديدية القادمة من (هيرتان) نحو مزار شريف وكابول وقندهار، ومن ثم إلى ميناء كراتشي، باكســـتان، ولا ننســــى طبعاً شبكة أنابيب النفط والغاز. بالطبع، لتنفيذ هذه الخطط الطموحة والضخمة من قبل الأمريكيين يجب أن يكونوا على ثقة تامة من أن السلطات الأوزبكية سوف تكون على نسق واحد وقادرة على تطبيق الاتفاقيات الثنائية. هذا هو السبب الذي يجعل وكالة المخابرات المركزية والبريطانية تنشطان لإبقاء أوزبكستان تدور في فلكهما وحدهما، وسلخها تماماً عن جارتها روسيا، ومقاومة جميع التغيرات المحتملة في سياسات القيادة الأوزبكية جراء الضغط الروسي عليها، وهذا ما حدث فعلاً في زيارة الرئيس (كريموف) الأخيرة إلى روسيا، وما رافقتها من برودة في الاستقبال وغضب مبرر من الجانب الروسي في اللقاء الذي جمع الرئيسين.
واشـنطن، هي بالضبط مثل أخطبوط ضخم وحيد، يحاول بأذرعـه الطويلـة والقويـة أن يلوي عنق فرائسـه من الدول على هذا الكوكب، وبحبرها الأسـود الذي ينفثـه إعلامها هي قادرة على أن تجعل كل فريسـة في كل ذراع لها لا ترى الفريسـة الأخرى، لكن القضيـة كلها بقبضات أخطبوط واحد في النهايـة.