لم يكن مخططا له أن أجد نفسي في عيادتي ببطرس غالي القاهرة، والساعة قد تجاوزت السابعة مساء، وعلي أن أنزل لأنتقل من روكسي إلى أمام سنترال القبة فشارع طومان باي لأبيت ليلتي ..... عندما دخلت القاهرة قادما من الزقازيق في حوالي السادسة مساء لم تكن الشوارع مزدحمة بالسيارات كعادتها ولكنها لم تكن خالية أيضًا، كنا أشبه بشوارع القاهرة قبيل المغرب في الأسبوع الأول من رمضان، .... لكنني في الثامنة وجدت شكلا مختلفا تماما لم أكن أتوقعه!.
لم يكن ممكنا أن أخرج من باب المبنى العادي في الطابق الأرضي لأنه مغلق ببوابة حديدية مجنزرة، لذلك نزلت إلى المرآب (الجراج) وهناك كان السايس جالسا أمام التلفزيون .... وكانت الأغنية التي أسمع صوتها حماسية بدرجة فوق العادة وحقيقة شعرت أننا نحارب إسرائيل مثلا ونقف على أبواب تل أبيب ! .... سألت الناس ماذا هنالك ما هذه الأغاني هل نحن في حرب؟ فكان الجواب أن هذه هي الأغاني التي نسمعها في هذه الأيام !
وعند مخرج المرآب كان باب حديدي مجنزر آخر ... وقد خيرني السائق بين أن نستخدم السيارة وفي هذا مخاطرة أو أن نتحرك على قدمينا فاخترت السير على القدمين... كانت الطرق فارغة وكل المحال التجارية مغلقة بل وحتى محلات الأكل ! ... وبين كل عدة مبانٍ تجد جماعة من الناس جالسين .... وبين الفينة والفينة تمر سيارة مدنية مسرعة، لكن لا تاكسي يقف لأحد! ....
لماذا الشوارع بهذا الشكل فارغة ولماذا أشعر بكل هذا الاستغراب ... هل لأننا في الزقازيق ليس عندنا حظر تجول؟ وكنت أحسب أن الالتزام بحظر التجول لا يكون 100% باعتبار مستوى الخطر ليس ضخما... هل لأنني عند فرض حظر التجول يوم الأربعاء الأسود مباشرة عقب مجزرة رابعة ومجزرة النهضة أي في أول أيام الحظر لم أر شوارع القاهرة بهذا الشكل! وكنت يومها نزلت ومعي زوجتي وابني الرضيع جواد ولم يكن معي السائق فقررت استقلال تاكسي وكنت صائما نزلت من العيادة بعد صلاة المغرب بربع ساعة أي كنا على مشارف السابعة، ونزلت ووجدت تاكسيا بصعوبة بعض الشيء وعلى أن ينزلني في أول شارع طومان باي! ... كدت أرفض لكن سارعت زوجتي بالموافقة فركبت وكنت سعيدا لأني أرى الناس فرادى وجماعات موجودين هنا وهناك في الشارع والسيارات هنا وهناك... لكن جوا من الغيوم والحزن يبدو أني كنت أسقطه وأراه فيمن وفيما حولي وأنا ما أزال أسير الفاجعة التي استيقظت مصر عليها ذلك اليوم... المهم أني ساعتها لم أكن أتخيل الوضع سيختلف كثيرا عن أيام حظر التجول المعتادة منذ ثورة 25 يناير والتي نادرا ما كان يلتزم بها أحد.
لا أدري قد يكون لذلك كله دور فيما كنت أحسه وأنا في ميدان روكسي المكشوف تماما، وإذ أصر على أخذ حقيبة اللابتوب من سائقي لأنه يحمل أربعة أحمال ... وما هكذا تكون الصحبة في المشي، وبينا آخذ منه الحقيبة قلت له : هل الصحيح أن نسير هكذا في وسط الميدان أم الأفضل أن ندور حوله مستترين بالمباني، ربما هناك قناصة لو كان الميدان وجهة أي من المظاهرات ...، يا منعم الحمد لله أنا على وضوء لجمع المغرب مع العشاء... قال لي ربما وجدنا مسجدا ما زال يصلي العشاء، .... قلت له لا فالأمور لا تسلم من حصار للمسجد الذي نصلي فيه! وإذا حولنا البلطجية، وربما اعتبرت حقائبنا هذه متفجرات!.
أخيرا عطف علينا أحد سواقي التاكسي ... كان متوترا لكنه شهم ... ركبنا معه من تقاطع شارع جسر السويس أو ما تسمى إشارة روكسي...، سألته ماذا جرى أنا مندهش يا ولدي هل تطبيق حظر التجول صارم إلى هذا الحد؟ قال : والله مانا عارف هو وقف حال على كل حال، قلت له هل هناك خطر في شوارع القاهرة يستدعي ذلك؟ فقال الشرطة تستعرض علينا يا دكتور والجيش ومن يتلكأ في الوقوف أو السماح بالتفتيش يضرب فورا بالنار... لكن أسبوع كفايه ! شهر كثير !
اتجهت إلى محل فول وفلافل قريب من محل إقامتي المؤقتة في القاهرة وتركت السائق يشتري لنا وسألت عن بقالة قريبة فقال عامل المحل هناك سوبرماركت على نفس الجهة من الطريق ..... قلت شكرا ... السوبرماركت كان مطفأ الأنوار أو معتما ... والخو خانق في الداخل أكثر من الخارج ... لأن التكييف هناك عند الثلاجة في محل على شكل مستطيل ضيق العرض طويل.... هذا الجبن وذاك المشروب ... ثم سألت ماذا يحدث في القاهرة ؟ أين الناس ؟ فيرد الحظر يا افندم ... أقول لهذه الدرجة؟ .... يقول حتى يتمكنوا من جمع السلاح السائب في البلد !
عيناي كادتا تقفزان من وجهي !! وهل جمع السلاح السائب في البلد يحتاج إلى كل هذا الجو المشحون بالرعب ؟! يبدو أن الإخوان هربوا جيوشا إلى داخل مصر بعتادها الخفيف والثقيل ! لا حول ولا قوة إلا بالله .. والناس مصدقون!
قدر ما يؤلمني الحزن والغضب لشهيد مات في أي من المذابح التي تتوالى منذ 30 يونيو الأسود الذي أصبح ملطخا بالدماء وأتخيله واحدا من الشبان الصادقين المخلصين اليافعين فقدناه بيد آثمة وشوهنا معاني وناسا وبالمرة أجيالا قادمة، قدر ما يوجعني الحزن والغضب على شهيد من جنود الأمن المركزي الغلابا والمغلوبين على أمرهم في بيوت كبيوتنا ... شابا يعد نفسه للزواج أو متزوجا يرعى صغارا ... فقدناه بيد آثمة وشوهنا أسرا ربما كاملة ! ولعل هذا سبب فجيعتي عندما سمعت اثنين على مقهى يتهامسان بصوت مسموع وأنا أمر أمامهم وكان أحدهما يقول حلها أن تختلف الشرطة والجيش ... الجيش عاوز ينظم ويحكم أو يُحكم .. والشرطة عاوزة تأخذ ثأرها من الناس ... قلت أستغفر الله العظيم الله يحفظنا ..... هذا لا يكون لأن الشرطة المصرية من نفس نسيج الجيش... المهم أن يمن الله سبحانه علينا بمخرج يحقن الدماء ويحفظ البلاد والعباد!
بدأت أشعر باللوم على قنوات الجزيرة لماذا لم تصلنا هذه الصور عن شوارع القاهرة المخروسة ".. بجد.." منذ الأربعاء الأسود لماذا كل تركيزهم على التظاهرات ؟ أم أنه ممنوع التصوير أثناء حظر التجوال وأنا لا أعرف؟ ... لكن وبمنتهى الأمانة لابد أن أسجل انطباعي عن شوارع منطقة روكسي ومنها إلى طومان باي وقصر القبة وهي تحت حظر التجول ... غموض ورعب وأحيانا تسمع أصوات طلقات نارية بعيدة... وجو يوحي بأننا فعلا في معركة ضد عدو تسلل بيننا حتى أصبح جيشا بعدة وعتاد ... وما هكذا هي الأمور بأي عقل يعرف التفكير! .. باختصار توجز التجربة في أن بعض القلق والخوف الذي انتابني والأفكار التي ضايقتني استمرت معي حتى خرجت إلى ميدان روكسي الفارغ إلا من قدر يسير... ثم لما رأيت الأمر مبالغا فيه، وشعرت أن توتر الناس أكثر من اللازم .... بدأ الضيق يتعاظم والحزن على البلد والناس يغطي كل شيء!
وأخيرا ورغم كل ذلك ربما هناك من الخطر ما لا نعلم وقد نعرفه يوما من الجيش أو الداخلية ويكون منطقيا ومثبتا ووقتها لا ينفع الندم ... علينا الالتزام بحظر التجول إلا في التظاهرات السلمية المنظمة ولا أنصح أحدا بتكرار تجربتي ... ببساطة لأنها لم تكن مثيرة بالمرة!
واقرأ أيضا:
الحالة النفسية للانقلابيين في مصر/ عودة الرئيس محمد مرسي!/ المقال الممنوع: جمعة أسوأ من أيام المخلوع!/ أهل رابعة... سلاما.. أسمى من كانوا بيننا!
التعليق: احنا خلاص كده ... جاء علينا الدور علشان نتذوق ما يتذوقه أشقائنا في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان .... إلى آخر القائمة ...
لازم نتكيف مع هذه الصور التي أعتقد أنها ستتكرر كثيرا !!!
وربنا يحفظ لك ابنك الرضيع جواد ويحفظك له