وسط حالة الانفلات المجنونة للعنف الآن تبرز قيمة العدل كأحد دعائم الاستقرار، والدولة المصرية الآن مطالبة بالعدل أكثر من أي وقت مضى حتى يطمئن الناس إلى ضمان حقوقهم فلا يلجئوا إلى أخذ حقوقهم بأيديهم، خاصة وأن المصريين في هذه المرحلة في حالة توتر شديد وسرعة استثارة وقابلية للغضب والاشتباك لأتفه الأسباب، ونحن نلاحظ حالة من القابلية العالية للعنف بنوعيه اللفظي والجسدي منتشرة بقوة في الحوارات والتعاملات في الشارع وفي أماكن العمل والبيوت، بين المعارف والأصدقاء والأزواج والأبناء، فكم من علاقات تقطعت وصداقات انتهت بسبب الخلاف في الرأي، إذ لم نتعود على الخلاف المهذب المحترم، فانطلقت الألسنة بالتجريح والسباب والتخوين على صفحات التواصل الاجتماعي وفي المناقشات والجلسات.
والاختبار العملي الآن هو كيف ستتعامل الدولة عامة والمؤسسة القضائية خاصة مع أحداث مأساوية هزت وجدان وضمائر الناس في الداخل والخارج، وأخص بالذكر قتلى مذبحة رفح الأولى وقتلى الحرس الجمهوري وقتلى المنصة وقتلى اعتصامي رابعة والنهضة وقتلى سيارة الترحيلات في محيط سجن أبو زعبل وقتلى أقسام الشرطة وقتلى مذبحة رفح الثانية. لا أتحدث هنا عن الاتهامات الإعلامية الجاهزة والفورية والتي تنطلق قبل القبض على المتهمين وقبل إجراء أي تحقيقات، فهذه الاتهامات تزيد النار اشتعالا حيث تغطي على الفاعلين الحقيقيين وتوجه السهام والعدوان والغضب تجاه من لم تتم إدانته بتحقيقات قانونية عادلة. ولا أتحدث أيضا عن بيانات وزارة الداخلية إذ لا ترقى إلى وثيقة قانونية مؤكدة ومحايدة.
والعدل ليس فقط في تحقيقات النيابة وفي ساحات المحاكم، وإنما يبدأ في تقارير الطب الشرعي ومحاضر المعاينة، وسأركز هنا على تقارير الطب الشرعي نظرا لحساسيتها وأهميتها، فقد كانت ثمة شكاوى من أهالي ضحايا الأحداث من وجود ضغوط عليهم ليقبلوا تقارير تفيد انتحار ذويهم أو تقارير لا تعكس سبب الوفاة الحقيقي. وإذا صح ذلك –وأرجو أن لا يكون صحيحا– فنحن أمام كارثة حيث تنتهك حقوق الميت بواسطة طبيب أقسم أن يقوم بواجبه الطبي بأمانة وإخلاص في كل الأحوال، وشهادته يسأل عنها أمام القانون وأمام ضميره المهني وأمام الله.
ومن الإشكاليات المثارة الآن حادث مقتل 38 من المسجونين المرحلين إلى سجن أبو زعبل، فقد عكست التقارير الطبية وفاتهم بالاختناق بالغاز بينما ذويهم يذكرون وجود علامات تعذيب شديدة على أجسادهم، وذكرت بعض التقارير الصحفية مثل هذا الكلام (جريدة الشروق 20/8/2013م الصفحة السابعة). وحتى في الروايات الرسمية التي ذكرت أن الوفاة نتيجة إلقاء قنبلة مسيلة للدموع على المحتجزين في سيارة الترحيلات، فإن الأمر يحتاج لإحقاق العدل حيث أن هؤلاء المحتجزين منذ لحظة احتجازهم يعتبروا أمانة في رقاب المسئولين عنهم في وزارة الداخلية وتحت إشراف وضمانة السلطة القضائية، ولا يجوز تعريضهم لأي خطر فضلا عن قتلهم إلا بحكم قضائي نهائي مهما كانت جرائمهم.
وبما أن السيد رئيس الدولة المؤقت هو في الأصل رئيس أعلى سلطة قضائية في البلاد فإن التوقعات بإحقاق العدل في أقصى صوره تنتظر التحقق بصرف النظر عن انتماءات المتهمين أو جرائمهم، وأن يكون هذا العدل ناجزا فلا يتأخر كثيرا حتى ينساه الناس، ولا يتأثر بأي ضغوط إعلامية أو شعبية أو سياسية، وهذه من أبجديات العدل. وحين لا تتحقق هذه التوقعات فإننا نكون أمام خطر تراكم الغضب والإحساس بالظلم مما ينذر بانفجارات عنف تهدد المجتمع بأكمله.
نتمنى أن نرى تحقيقات شفافة وسريعة مبنية على محاضر تحقيق ومعاينات وتقارير طبية صادقة وأمينة تهدئ النفوس وتحقق معنى الدولة التي تبسط الحماية والرعاية للجميع، وليحفظ الله مصر وأهلها من كل سوء.
واقرأ أيضاً: