يتصل بي عدد كبير من مرضاي ومريضاتي هذه الأيام ومنذ مذبحة رابعة ... لا يملكون سبيلا للانتقال لي في عيادة القاهرة وبعضهم أيضًا لا يستطيع في عيادة الزقازيق رغم أنه حتى الآن لا يوجد حظر تجوال في محافظة الشرقية،... كذلك يتصل بي مرضى سابقون تعافوا أو هم في المتابعة ولكن كل سنة مرة على طريقة المصريين العاملين في الخارج، وأهم ما يشتكي منه هؤلاء جميعا بلا استثناء الألم والذهول النفسي المعرفي الذي يعيشونه وكثيرون يصفون –كسبب للاتصال- أعراضا نفسية ذات علاقة بالاستجابة البشرية للرضح والكرب المتعلق به من نوع الذكريات المقتحمة Intrusive Recollections في صورة اقتحامات معرفية شعورية (انفعالية) Intrusions أو الرجائع الزمنية Flashbacks بصور ودرجات متفاوتة، وتحدث غالبا كاستجابة لما يذكر باعتصام رابعة وتكون أحيانا تلقائية، من هؤلاء من أقام في رابعة أو النهضة ومنهم من زاروا رابعة أو النهضة حجا مرة أو مرات ومنهم من عاش في رابعة ليليا عبر شاشة الجزيرة أو غيرها من القنوات التي كانت تنقل من منصة رابعة العدوية.
ونستطيع بوجه عام أن نقول أن أهم ما يميز الذكريات المقتحمة التي تعقب التعرض للرضح سواء في مرحلة الكرب الحاد أو ما قد يليها من اضطرابات، أهم ما يميزها القوة والحيوية التي تتسم بها تلك الذكريات فضلا عن كونها مزعجة بشدة، ورغم التداخل المعتاد بين أنواعها ودرجاتها المختلفة إلا أننا نستطيع تحديد مستويات ثلاثة من الذكريات المقتحمة حسب درجة الارتباط مع الواقع هنا والآن، أما المستوى الأول فهو مجرد اقتحامات Intrusions تحدث دون أن تؤثر على الارتباط بالواقع أي أن الوعي يبقى كاملا، وتستغرق ثوانٍ أو دقائق على الأكثر، وأما المستوى الثاني أو الرجائع الزمنية ففيه ارتباط خفيف بالواقع، ونقص في الوعي وأحاسيس جسدية قوية وأيضًا تستغرق ثوانٍ أو دقائق على الأكثر، وأخيرا نجد المستوى الثالث وهو الرجائع الزمنية الانفصالية Dissociative flashbacks وفيها ينعدم الارتباط بالواقع (هنا والآن) وغالبا توجد أحاسيس جسدية غامرة ويستمر لدقائق أو ساعات... ومن الواضح أن أغلب ما سمعت أحدا يشتك منه حتى الآن هو من المستوى الأول الذي يعتبر طبيعيا.
يا ترى ما الذي يحدث لأغلبنا هذه الأيام بعد محرقة الإسلاميين في رابعة وغيرها، ما الذي يحدث عندما نسمع كثيرا من الهتافات المعتادة في المظاهرات ضد الانقلاب بعد 30 يونيو الأسود وكنا سمعناها لأول مرة في رابعة، أو عندما نسمع بعض مقاطع الأغنيات التي كانت تصدح بها منصة رابعة؟ فيضٌ من المشاعر والانفعالات والأفكار يغمرنا؟ تفر الدموع من العينين أو تكاد؟... لو أردت الرد على هذا السؤال كمعايش ومعالج نفساني فإن لدي مصدران أحدهما هو ما بيني وبين مرضاي الحقيقيين سواء في الواقع أو عبر وسائل الاتصال السرية المختلفة وهذا ما أكتب عنه بصورة علمية مجهلة، وأما المصدر الآخر فهو صفحتي على الفيس بوك وصفحة نفسانيون من أجل الثورة العربية وأيضًا نفسانيون ضد الانقلاب، حيث سألت أعضاء المجموعة أو المعجبين بالصفحات فكتبت متسائلا: يا ترى ما الذي يحدث لأغلبنا عندما نسمع كثيرا من الهتافات المعتادة في المظاهرات ضد الانقلاب بعد 30 يونيو الأسود، أو بعض مقاطع الأغنيات التي كانت تصدح بها منصة رابعة؟....... أود وصفا تفصيليا من كل منكم... أشعر بكذا أفكر كذا أتصور كذا أو أتذكر كذا؟؟ وسأنقل لكم هنا طرفا من الردود والتعليقات:
"سأبدأ أنا، وكنت من معتصمي رابعة، الذكريات الرائعة لا تفارقني رغم الألم، ابتداءاً من الابتسامة المعتذرة لمن يقفون عند البوابات للتفتيش ويقولوا معلش سامحونا بس علشان سلامتنا وسلامتكم، أرى ذلك الشاب المرح الذي يقف عند البوابة يسأل الداخلين بنشيد ضاحك "اوعى تزعل مالتفتيش، انت يا بيه بتزعل من التفتيش، انت يا هانم انت بتزعلي من التفتيش، محدش بيزعل مالتفتيش"، كنت أدخل في كل مرة وأنا أقاوم دموعي وأنا أرى المصريين الحقيقييين من البسطاء، الذين اكتسبت وجوههم سمرة شمسنا، وتحكي ملامحهم قصة كفاح المصريين، أولئك الذين كانت وما زالت النخبة تستهزيء بهم وتستخف بعقولهم؛
كانت دموعي ليست حزناً عليهم بل شعوراً مختلطاً بين الحب الشديد لهم، والغضب من نفسي حينما كنت أنظر إلى الناس وأقسمهم إلى مثقفين وبسطاء، كلماتهم كانت تقطر بالحكمة، وكلمات النخبة تقطر بالسطحية والغباء، يتقاسمون الطعام والشراب، مبتسمون، متفائلون، وأهم شيء أنهم كانوا يفهمون تماماً لماذا هم موجودون في هذا المكان، ولو تنازل أصحاب الأبراج العاجية من المنظرين الذين يصفونهم بالبسطاء المغيبين وحاور أحدهم، لعلم أن نظرياته ستنهار إمام الحكمة التي لا ترتبط بالتعليم قدر ما ترتبط بالنشأة والمبادئ والهدف في الحياة وحب الأوطان"
"كنت يوماً أمشي في الميدان ولم أستطع حبس دموعي من الأحداث فوجدت سيدة لا أعرفها تقول لي بحماسة وابتسامة جميلة " بتعيطي ليه ، إوعي يا حبيبتي تعيطي" قولي يارب وبس""
"كنت أضحك حينما أرى من كانوا يسمونهم "فريق تأمين الميدان" حينما أرى أجسامهم الهزيلة ووجوههم البريئة التي لا تستطيع أن تؤذي نملة وهم يرتدون الخوذات التي تغطي أعينهم من اتساع حجمها عن أجسامهم الهزيلة ويقفون بكل ثقة لا يمسكون إلا عصا خشبية كانت وسيلتهم الوحيدة لمواجهة الرصاص الحي"
"لا أنسى المرة الوحيدة التي ذهب فيها والدي الذي فاق عمره السبعين إلى الميدان (قبل استشهاد أخي فيه) فقابله طاقم التأمين بالأحضان والقبلات واتفضل يا عم الحاج، حتى أن أخي رحمه الله قال لهم ضاحكاً، يعني أي حد يضحك عليكم بحضن وقبلات تدخلوه بدون تفتيش، ده أنتم ناس طيبين قوي"
Nermeen Mohamed
أناشيد: ثورة دي ولا انقلاب, الجدع جدع والجبان جبان, الميدان الميدان الفارس ينزل الميدان.. إيييييييييه رابعة رمز وروح ..صحيح الاعتصام اتفض لكن ممكن كل واحد يكون قلبه معتصم بالله والجميع معتصمون بحبل الله تعالى. المشاعر مختلطة حزن وتوتر وبكاء ودعاء للقتلى ودعاء لذويهم، تفكر في تقلب الأمور والقلوب تفكر في تقلب الأحوال، مشاعر غضب من استباحة الدماء بغير حق والله غالب على أمره
Sara Mohey
أحس بالشجن والحنين والألم والأمل - أفكر فى أن لله حكمة فيما حدث قد لا نعيها الآن وأتمنى أن نفهمها، أن نتعلم من أخطائنا ونصوبها، أن نرجع لأنفسنا ننقيها ونصوبها، أن نثبت ونرابط ونستمر بوعى أكثر بعد أن عرفنا قصة الطريق كلها
آخر مرة كنت هناك دخلت قبلى باكينام الشرقاوى المستشارة السياسية للرئيس وكانوا بتوع التأمين عاملين دوشة بيزعقوا للبنت اللي بتفتش الستات علشان فتشت باكينام وكانت زعلانه منهم جداً وقالت لهم والله لو محمد مرسي نفسه جه برضة هفتشة -منتهى البراءة وخفة الدم - ربنا ينتقم من من قتلهم
Salma Abdo
وأما النص التالي ففيه ما فيه من أحلام لا تمثل أحلام استعادة الخبرة الرضحية مثلما هو المعتاد... وإنما تمثل نوعا من التناغم الداخلي بين الاستشهادية التي تحلم بالموت مبتسمة.. ويختلط فيها الصفاء بالصدق بالإيثار... أورده كنص يعبر عن كيف تفكر الإرهابية التي تقارب الثلاثين من عمرها، ولأنها تشير إلى دور المشاركة في التظاهر في تخفيف آثار التعرض للقتل الجماعي والمجازر والمحارق، ومن يشارك يقلل أي أثر سلبي من الكرب الرضحي:
(أنا عايزة اوصف لحضرتك الحالة التي أنا فيها حالة غريبة مركبة وأحاسيس ملخبطة.. في الأول أيام اعتصام رابعة كنت مضغوطة جدا ومكتئبة وأحلم كوابيس (أني بموت ومش عارفة أتحرك أو أتشاهد-أو أني بنضرب بالرصاص والحلم ده تكرر وفي أحلام تانية مش فاكراها) وكان بعد كل مجزرة يجيء لي شوية ذهول وصمت بس بعد كام يوم والمظاهرات الواحد بينسى شوية...
أنا روحت رابعة كذا مرة ولا أنسى مرة فيهم جاء لنا أخبار أن فيه بلطجية جايين للاقتحام...كنا قبل الفجر بشوية..طبعا اللحظات اللي عشتها في انتظار الهجوم لا توصف..هلع وبكاء دون توقف...والخوف مش من الموت بالعكس أنا كنت أتمنى الشهادة لكن خايفة من هول الموقف وهل أنا هتصاب ولا هتخطف لدرجة أني حسيت أني سأموت من كثر الهلع..
ولكن بعد مجزرة الفض اختلف الأمر.. ويمكن الصدمة التي هزتني فعلا هو استشهاد أخ عزيز جدا على قلبي وزوجته تعتبر هي الملجأ لي بعد الله في الأزمات............................................................ ... .. ...... فأنا أتألم مرة لفراق عمو وأتألم ألف مرة علشان طنط وهي في هذه الحالة........................ ................. وتقريبا بعد ما شوفت صورته مبتسم وهو شهيد...او مش عارفة أحدد متى بالضبط جاء لي إحساس غريب جدا وهو أني بقيت أخاف جدا من الشهادة أو من ما بعدها من عالم الغيب الذي لا يعرفه أحد..بقى عندي رعب كبير جدا وبقيت حتى مش قادرة أقول اللهم ألحقني بهم....
أصبح عالم الغيب ده مصدر رعب بالنسبة لي مع أن الواحد عارف إن شاء الله أنها الجنة وكنت قبل كده لما أروح رابعة ببقى فعلا واثقة أني لو استشهدت هروح الجنة والفردوس الأعلى وكنت مشغولة جدا باللحظة الفارقة اللى بتبقى عند انتقال الشهيد إلى الرفيق الأعلى وازاى هو بيبتسم...
لدرجة أني حلمت مرة فعلا أني انضربت برصاصة في رأسي وبعدها رأيت أشياء جميلة جدا أنا لا أذكرها وابتسمت في تلك اللحظة وأنا في الحلم لما أراه...........).
وباستثناء النص الأخير جاء معظم ما سبق من تعليقات ردا متسرعا ركز على اقتحامات معرفية طبيعية عند التفاعل مع الأحداث الجارية من طرف أي إنسان مدرك لحقيقة القضية المصرية الحالية، خاصة لو كان إسلاميا (ليس فقط مسلما).. وبعض التعليقات على الفيس بوك جاء نوعا من الذكريات المرتبطة برابعة والاعتصامات عموما وما كان يحدث قبل الفض الدموي الأخير،.... لكن يبدو أن لمرضاي المستترين الذين عاينتهم حديثا -وبعضهم من معتصمي رابعة أو ذوي الشهداء أو المصابين أو المفقودين أو المعتقلين على هامش رابعة- مثلما لمرضاي القدامى الذين تواصلوا بالهاتف معي آراءًا أخرى في خبراتهم المعرفية الشعورية التي تحدث عند تعرضهم للمشعرات المرتبطة عندهم باعتصام رابعة Rabe3a Cues وتجعلنا نتحدث عن آثار أبعد أثرا لكرب الرضح النفسي أو الصدمة.
تتمثل الرجائع الزمنية النموذجية في حدوث نوبات متكررة من اجترار الرضح Trauma من خلال ذكريات اقتحامية ( رجائع زمنية Flashbacks) تحدث على خلفية مستمرة من الإحساس بالتنمل والتبلد الانفعالي Emotional Numbness والانفصال عن الآخرين، وعدم الاستجابة للعالم المحيط، أي أن الشخص يشعر بانفصاله عن الواقع المحيط للحظات، يتذكر فيها الحادثة المأساوية التي تعرض لها في نفس الوقت الذي يشعر فيه بتبلد مشاعره اللهم إلا الشعور بالخوف أو العجز والضعف.... ومن المهم التأكيد على أن الشعور بالخوف أو العجز والضعف أثناء الحدث (أو مشاهدته) شرط مهم لحدوث طيف استجابات الكرب الرضحي المختلفة.
ما حدث في محرقة الإسلاميين في رابعة العدوية وغيرها لم يكن فقط قتلا و/أو حرقا لآلاف من أطهر وأشرف وأنقى وأغلى وأغنى من وطأ تراب مصر، بل كان تمثيلا بأبسط وأسمى حقوق الإنسان، وتشويها لأسمى القيم والمبادئ الإنسانية... بكل ما يحمله ما سبق من رضح معرفي شعوري مأساوي يمكن أن يصيب من يعيشه من البشر، وقد تم نقل ذلك كله عبر الفضائيات ولكل العالم تقريبا... وتابعه خاصة ذوي الأصول العربية والإسلاميين على مستوى العالم في أثناء حدوثه، مثلما تبادلت الفضائيات وصفحات الإنترنت مئات الفيديوهات التي سجلت بشاعة ما حدث ولا إنسانيته بالكامل.
من المؤكد أن كل من عايش محرقة الإسلاميين معتصما متلقيا للرضح أو مشاهدا له عبر الشاشات أو مشاركا في الفض أو القتل أو القنص أو التعذيب كل هؤلاء أثر فيهم ما شهدوه من خبرات رضحية جسيمة الوقع على نفس الإنسان باستثناء معتادي الإجرام من المعتدين على حقوق الناس في التظاهر والاعتصام، لكن من المؤكد كذلك أن معايشة الأحداث التي تقع في سوريا منذ مارس 2011 والتي أيضًا تنقلها الشاشات مثل عامل تخفيف وقائي للصدمة هذه المرة عند قطاع عريض من الناس الطبيعيين وإن كان الأمر مختلفا عند الحديث عن مرضى الكرب الرضحي أو ما بعد الصدمة، حيث يمكن جدا أن تكون الخبرات الرضحية السابقة عامل إضعاف للقدرة على تلقي خبرات رضحية جديدة.
إلا أن هناك عاملا هاما يجعل الصورة ربما مختلفة عما قد يتبادر إلى الذهن عند قراءة ما سبق من هذا المقال، ذلك العامل هو أننا نقصر احتمال حدوث مضاعفات نفسية خطيرة على أولئك الذين يشعرون بالخوف أو العجز والضعف أثناء الحدث من بين المشاركين في الأحداث، وبالتالي يتوقع بينهم أن نجد الأطفال هم الضحية الأولى تليهم النساء وأخيرا الرجال والذين ربما قاوم أغلبهم ولو بالعصي والحصى والنعال أو حتى بالهتاف والدعاء مما خفف أثر الكرب الرضحي عليهم، وأن المشاهدين المتابعين للأحداث من البيوت ربما أكثر عرضة لآثار الخبرات الرضحية السلبية من المشاركين في الفعاليات على الأرض وهو استنتاج ربما استغربه البعض، لكنني أذكر أن قطاعا كبيرا من المصريين ما يزالون يعايشون الأحداث والفعاليات الاحتجاجية وهو ما يعني أنهم لم يشعروا بعد لا بالخوف ولا العجز ولا الضعف ويتفاعلون مثلهم مثل من شاركوني بالتعليقات على الفيس بوك مع الحداث ما زالوا بمنتهى الوعي والإصرار والاستبشار واثقون من أنهم قادرون على التأثير في الحدث الكارثي.
وعلينا كذلك أن نبين أن كل ما تطرقنا إليه في هذا المقال إنما هو حديث لا عن اضطراب الكرب التالي للرضح وإنما عن التفاعل للكرب الحاد Acute Stress Reaction لأن المجزرة لم تكمل الشهر بعد لكنها تكاد تكون مستمرة، ويعرف هذا التفاعل في الطب النفسي بأنه: (اضطراب عابر على درجة كبيرة من الشدة، يحدث للشخص دون وجود أي اضطراب نفسي واضح آخر، كاستجابة لكرب استثنائي جسدي أو نفسي أو كليهما، ويتلاشى عادة خلال ساعات أو أيام)، ومسبب الكرب في حالات الحروب التي نحصر كلامنا هنا عنها قد يكون تعرض الشخص نفسه أو أحد أعضاء أسرته أو جيرانه المقربين أو منزله للخطر أو الإصابة أو الموت، مثلا وفيات متعددة أو حريق في المنزل وهذا بالطبع أقل بكثير مما يحدث في سوريا أو العراق أو عزة، كما أن احتمال الإصابة بهذا الاضطراب يزيد إذا تواكب مع إجهاد جسدي أو عوامل عضوية (وهذا بالطبع حال السواد الأعظم من المواطنين العرب في أقطارهم قبل بداية الأحداث سواء في العراق أو سوريا أو غزة أو مصر).
والاستعداد الشخصي للتأثر والقدرة الشخصية على الصمود يلعبان دورا كبيرا في ظهور وشدة أعراض التفاعلات الحادة للكرب، فليس كل من يتعرض لنفس المؤثر يصاب بهذا التفاعل، وهنا نجد أنفسنا محتاجين لمعرفة معلومات كثيرة عن الشخص وعن معنى الحدث بالنسبة له غير متناسين أنه كلما كانت الروح المعنوية اعلى كلما ازدادت قدرة الشخص على التحمل، لذا تتميز أعراض التفاعل للكرب الحاد بالتباين الشديد من شخص لآخر، لكن الأعراض النموذجية تشمل حالة مبدئية من التبلد، مع بعض الانكماش في مساحة الوعي والانتباه إضافة إلى عدم القدرة على فهم المنبهات المحيطة والتوهان، وقد يلي هذه الحالة إما انسحاب متزايد من الموقف المحيط ربما يصل إلى حد الذهول الانشقاقي، وإما تهيج وزيادة في النشاط (تفاعل الهروب)، إضافة إلى أعراض اضطراب وظائف الجهاز العصبي المستقل (الأوتونومي) -مثل اختلال سرعة دقات القلب وسرعة أو معدل التنفس وربما العرق والرعشة وجفاف الحلق وكثرة التبول إلى آخره- وتظهر هذه الأعراض خلال دقائق من حدوث الكارثة (إن لم تكن فورية) وتختفي خلال يومين أو ثلاثة (وغالبا خلال ساعات)، وقد يحدث فقدان ذاكرة كلي أو جزئي بالنسبة للنوبة.
وكما يلاحظ في وصف التفاعل للكرب الحاد فإن السياق يتحدث عن كارثة واحدة مهما كانت شدتها، وما حدث ويحدث في مصر بعد 30 يونيو هو مأساويات كارثية متكررة..... وهذا هو ما يستوجب السؤال عن أثر تكرار الحدث المأساوي واستمرار المآسي دون توقف لأكثر من شهر، ويبدو المصريون سادرين في خلافهم العميق... لكنه وفي رأيي الشخصي ليس أثرا سلبيا بالتأكيد؛ لأنه في الحالات التي يستمر فيها الكرب فإن الأعراض السالفة الذكر تبدأ عادة في النقصان بعد يوم أو يومين رغم استمرار القصف والكوارث الناتجة عنه، أي أن الكائن البشري يكتسب ما نستطيع تسميته بالصلابة في المواجهة، فإذا أضفنا ما يقوم به الإيمان بالله وبقدرته ومشيئته إلى هذه الصورة فإن النتائج لن تظل سلبية بالتأكيد على الأقل عند أصحاب العقيدة الراسخة الحية.... والذين يلقون دعما مناسبا في هذه الأوقات! وهم في بلادنا العربية قليل للأسف
وأما ما هو مهم بالتأمل فهو تأثير الاضطرابات الحالية في مصر على الاكتئاب أو المخاوف في الأطفال والمراهقين، وهنا أقول لك بأن الأفكار المسبقة قد تكون خادعة في هذا المضمار، فصحيح أن التعرض للكروب يزيد الاكتئاب شدة والأمل في الخلاص انعداما، ولكنني رغم ذلك أشعر بالتفاؤل..... وألخص لك بعض النقاط الهامة في التعامل مع الأطفال والمراهقين في عدة نقاط هامة هي أولا إعطاء اهتمام أكثر للأطفال والسماح لهم بالتعبير الحر عن مشاعرهم المتعلقة بالأحداث مع مراعاة استخدام المفاهيم والمعلومات التي تناسب سن ومستوى فهم الطفل، وثانيا ضرورة الانتباه من جانب الراشدين إلى ردود أفعالهم هم لأنها حين تتسم بالخوف والانزعاج الشديد تكون أسوأ أثرا على أطفالهم، وثالثا الحد قدر الإمكان من ما يشاهده الطفل من مشاهد العنف والأفضل ألا يشاهد، ورابعا مراقبة تصرفات الطفل أو الراشد الصغير التي تدل على الكرب والسماح للأطفال باللعب والرسم مع مراقبة الألعاب والرسوم لأجل إخراج الانفعالات.... وأخيرا أحيلك لمقالة الزميلة د. منى يسري جودة حياة الطفل المصري خلال الاضطرابات على موقع مجانين.
ليس خافيا أن ما يحدث الآن لأغلب محبي رابعة هو اقتحامات معرفية وشعورية تحدث كاستجابة للكرب الرضحي أو للمشعرات البيئية المرتبطة به وهذا أمر طبيعي ... وطبيعي كذلك أن يصاحب ذلك فيض مشاعر حية ومختلطة... فما يرتبط برابعة أو النهضة يجعل ما يحدث لنا بمثابة ومضات تحيي أشياء عديدة فينا وليس فقط تذكرنا بما كان في رابعة، وأخيرا يبقى التساؤل في نسبة كم من الناس يا ترى ستظهر بعد شهور أعراض من أعراض اضطراب الكرب التالي للرضح النموذجية؟...... أسأل الله اللطف بالمصريين والعرب والناس أجمعين.
واقرأ أيضًا:
أهل رابعة... سلاما.. أسمى من كانوا بيننا! / في شوارع القاهرة : كاسرا حظر التجول ! / مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد!