شاهدت اللقطات المذاعة من الجلسة الثانية لمحاكمة الدكتور مرسي وعدد من أعضاء جماعة الإخوان حول أحداث سجن وادي النطرون إبان ثورة 25 يناير، ولست معنيا بالجوانب القانونية في المحاكمة فهذه تخص القانونيين، وإنما سأركز على الجوانب النفسية خاصة فيما يتعلق بوجود المتهمين داخل قفص زجاجي عازل "انتقائي" للصوت بما يسمح بسماع "انتقائي" للصوت من وإلى قاعة المحكمة، ولست أدري ماهو التكييف القانوني لمثل هذا القفص وهل هو متفق مع المعايير المحلية والدولية للعدالة أم لا فهذا أمر متروك أيضا لأهل الاختصاص، وما سمعته من بعضهم أنه غير قانوني.
فإذا انتقلنا لتأثير وجود المتهم في قفص زجاجي وإحساسه بالعزل التام عن القاعة بما فيها من قضاة ومحامين وممثلي وسائل الإعلام وممثلي المجتمع المدني، وأن صوته يصل فقط بالضغط على "زر" يتحكم فيه شخص بعينه، وأنه يسمع فقط ما يدور في القاعة بمشيئة من يتحكم في الضغط على "الزر" فإن هذا يجعل التواصل انتقائيا وليس كاملا ويدع المتهم في حالة حيرة وارتباك فهو لا يدرك المشهد إدراكا كاملا بل يدرك منه لقطات "منتقاة".
كما أن فلسفة العلنية في المحاكمات عموما (وهي القاعدة الأساسية في أغلب المحاكمات) تقوم على أساس الشفافية في عرض أقوال النيابة وسماع دفاع المتهم سواء بشكل شخصي أو عن طريق محاميه وسماع "الجميع" لتساؤلات واستفسارات هيئة المحكمة وسماع "الجميع" للمتهم (صاحب القضية الأصلي)، ومسألة القفص الزجاجي تعوق كثيرا هذه العلنية وهذه الشفافية وهذه التبادلية التواصلية خاصة من ناحية التعبير الصوتي، ويتبقى لنا فقط قراءة التعبيرات الجسدية والإشارات من وإلى المتهم وهذه لا تشكل كل محتوى التواصل بين البشر.
لو أضفنا إلى ذلك حالة الضيق والاختناق التي يشعر بها المتهم وهو في قفص زجاجي معزول تماما، وأثر تلك الحالة على توازنه النفسي وما يؤدي إليه من شعور بكتم صوته أو غالبية ما يقوله عن الحاضرين في القاعة والمتابعين للمحاكمة من رجال القانون والإعلام والمتابعين لها من الناس في كل أنحاء العالم فإن هذا يلقي بعبء نفسي عليه ربما يفقده حالته النفسية الطبيعية ويشعره بالقهر، خاصة وأن أي متهم يشعر غالبا أنه مظلوم أو أن له حقوقا يريد أن يحصل عليها بعد سلب حريته، فلا يتوقع أن تسلب حريته ويكتم صوته (حتى ولو كان الكتم انتقائيا بإرادة أحد).
والمبرر لعمل هذا القفص الزجاجي الذي نظن أنه اختراع مصري مستحدث هو أن المتهمين يحدثون ضجة أثناء المحاكمة مما يؤثر على سير الجلسة، فإن الرد على ذلك هو وجود عقوبات قانونية على من يفعل ذلك معروفة في القانون المصري وفي كل القوانين الدولية، وهي كافية لردع أي متهم يحاول أن يوقف سير العدالة. يضاف إلى ذلك أنه من حق المتهم أن يعبر عن رأيه لأنه يواجه اتهامات قد تؤدي به إلى حبل المشنقة فيصبح من أبسط حقوقه توصيل صوته ليس فقط إلى هيئة المحكمة بل إلى المجتمع المحلي والدولي أيضا، ولولا ذلك لكانت كل المحاكمات سرية على مستوى العالم. وقد بدا هذا واضحا في علامات الغضب والتوتر النفسي والحركي والحزن الشديد والوجوم التي كانت بادية على المتهمين في هذه الجلسة بعكس ما شهدناه في جلسات سابقة لم يكن فيها قفصا زجاجيا.
ومسألة القفص الزجاجي والسماع الانتقائي ربما تفتح الباب مستقبلا لقبول فكرة المحاكمات عن بعد عن طريق الفيديوكونفرانس أو السكايب بينما المتهمون في سجونهم ولا يكون هناك تواجد مباشر لهم أمام هيئة المحكمة وهذا مما قد يفتح أبوابا تخل بقيام أركان العدالة في المستقبل والتي ارتكزت على مدى التاريخ الإنساني على وجود المتهم ووجود الادعاء ووجود الدفاع وعلى رأس هؤلاء جميعا وجود القضاة في مكان واحد وفي حالة تواصل كاملة صوتا وصورة في جلسات علنية (باستثناءات قليلة تتيح خيار بعض الجلسات أو المحاكمات السرية). وإن كان المبرر أن المتهم قد يفشي بعض المعلومات أو الأسرار أو يورط بعض الأشخاص المهمين، فيمكن اللجوء لخيار الجلسات السرية وهذا حق مكفول تماما لهيئة المحكمة.
وقد يقول قائل: إن وجود قفص زجاجي من عدمه، بل كل ما يدور في قاعة المحاكمة هو حق مطلق للقاضي ولهيئة المحكمة بحكم القانون، وهذا صحيح لا يجادل فيه أحد، وأن ضمير القاضي هو الفيصل في النهاية وأنه مسئول فقط أمام الله، ولكننا نشير إلى مسائل تقنية تؤدي إلى تأثيرات نفسية على المتهم قد تنقص من قدرته على توصيل ما يريد إلى هيئة المحكمة، كما أن فكرة القفص الزجاجي قد تعطي الفرصة للطعن القانوني على سلامة إجراءات المحاكمة وعلى انتقاص فرصة المتهم في سماع ما يدرو بالقاعة "كاملا" وفي توصيل ما يريد إلى كل من بالقاعة "كاملا"، وأن من حقه أن يقول ماعنده حتى ولو كان ذلك لا يعجبنا كما ورد في الآية الكريمة "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، والمتهم – أي متهم - يشعر أنه مظلوم ويحاول دفع الظلم عن نفسه، والمحكمة لها الحق المطلق أن تحكم بما يمليه عليها ضميرها ولكن بعد إعطاء الفرصة كاملة للمتهم أن يسمع وأن يقول.
والغريب أن جمعيات وجماعات حقوق الإنسان لم تعلق على هذا الأمر ربما لأن المتهمين هذه المرة من الطرف المعادي لتوجهاتهم الفكرية والسياسية، وهؤلاء نذكرهم بقول الله تعالى "ياأيها الذين آمنوا لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلو هو أقرب للتقوى".
واقرأ أيضاً:
هشاشة النظام / لماذا يقتل المصريون رؤساءهم؟ / الترويج السياسي تحت مظلة الخوف / الزعيم الملهم