على الرغم من احتفاء أنصاره ومريديه ومحبيه بقرار ترشحه للرئاسة بالهتافات واللافتات والرقصات والصور والزغاريد, وعلى الرغم من أن هذه مناسبة يتوقع فيها أن يكون سعيدا, إلا أنه هو شخصيا ظهر في خطابه الأخير وهو يودع الحياة العسكرية حزينا مهموما قلقا ولم يستطع أن يخفي تلك المشاعر على الرغم من كونه رجل مخابرات عسكرية تعلم وتدرب أن يخفي مشاعره الحقيقية.
بعيدا عن نص الحوار, فإن أهم شيء كان واضحا في لغة الجسد هو ذلك الحزن العميق في العينين المشوب بدرجة من القلق والإرهاق, ويؤيد هذا انخفاض طبقة الصوت والبطء النسبي للكلمات واستخدام عبارات عاطفية تعكس شعورا بالأسى على ترك الهوية العسكرية وخلع البذلة العسكرية التي تعود عليها وعاش وشرف بها منذ مايقرب من 45 عاما من عمره, تلك لحظة فراق مؤلمة بالتأكيد, وتغيير جذري في حياته يخرج به من حصانة ومناعة ومعلومية ووضوح وحزم وحسم وهيبة الإطار العسكري إلى حياة أخرى يكتنفها الكثير من الغموض والقلق والتوجس والتعقيدات والتوقعات والطموحات والإحباطات والتداخلات والتناقضات والمؤامرات.
كان على عادته في استخدام الكلمات العاطفية يلامس بها مشاعر الناس والتي كانت تصل إلى حد المبالغة والاصطناع في بعض الأوقات, ولكن يبدو أنه انتبه في هذه المرة (أو نبهه آخرون) إلى ضرورة الحديث عن البطالة والصحة والفقر والاقتصاد والمؤامرات والتحديات, وانتبه إلى الفخ الذي يكاد أن يقع فيه بتوريطه في دور المخلص والمنقذ وحلّال العقد, فيتبرأ من هذه الصفات وينادي بمؤازرته ويعلن عدم قدرته على فعل شيء دون تلك المؤازرة الشعبية.
وعلى الرغم من حرصه على أن يبدو هادئا حنونا متواضعا بقسمات وجهه ونظرة عينيه وطبقات صوته وطبيعته الحسية (الخارجية), إلا أن لغة الجسد في أجزاء أخرى تعلن غير ذلك, وهي ضرورية في قراءتها كي تكتمل الصورة ومنها حركة اليدين (ضم الأصابع الأربعة وشدهما مع انفصال وارتفاع الإبهام _ وتسمى حركة اليد الساطور) وهما يرتفعان قليلا فوق سطح المكتب ثم يهبطان بحزم وحسم عليه, وفيها دلالة الحسم والحزم والقطع والسلطوية.
كما أن حركتهما سويا واقترابهما أمام الجسد بما يشكل حصنا أو حاجزا يعطي لمحة الحرص على الاحتماء والرغبة في وضع الحدود مع الآخر ومنع الاقتراب والحرص على الذات وما تحويه من أسرار ومعلومات وسيادة وسلطة وتفرد, وارتفاع الإبهامين يعكسان القلق والترقب والتحفز. كما أن توجه باطن اليد المشدودة نحو الذات يعكس اهتماما كبيرا بتلك الذات والمحافظة على حدودها من الاختراق أو التلصص بينما ظاهر اليد المشدودة المتوجهة نحو الآخر تحذره من الاقتراب أكثر من المسموح به.
إذن فنحن أمام رسالتين في اتجاهين مختلفين, الأولى من الوجه والعينين وطبقات الصوت في اتجاه الاستمالات العاطفية المتوددة إلى الآخر والمتعاطفة معه والمحتضنة له, والثانية من حركة اليدين تحصن الذات وتحميها وتعلن سلطويتها وقطعها وبأسها وشدتها وقلقها. والبعض قد يفسر هذه الثنائية بأنها تكامل بين الجانب العاطفي من ناحية والجانب السلطوي العسكري من ناحية أخرى, بينما يفسره البعض الآخر على أنه يعلن الفرق بين الأصل والقناع بمعنى أن حالة الحنيّه والعاطفية وسمت التواضع قناع يغطي على الجزء السلطوي المتحكم والقاطع في الشخصية. ويلاحظ أن حركة اليد اليسرى كانت قليلة بما يعلن عن قدرته على التحكم في انفعالاته ومحاولته السيطرة عليها وقدرته على الاحتفاظ بأسراره.
وهناك دلائل كثيرة على أننا لم نر الشخصية الحقيقية للسيسي حتى الآن (على الرغم من تحليلات خطاباته التي كانت تعكس قدرة ملحوظة على إبهار الجماهير المؤيدة والسيطرة على مشاعرهم, وعلى الرغم من قراراته وأفعاله التي كانت تبين قدرة تنظيمية وتكتيكية واضحة سواء اتفقت أو اختلفت معها), فوجوده في المؤسسة العسكرية كان يفرض إطارا حديديا حوله, كما أن عمله بالمخابرات الحربية قد أعطاه القدرة على إظهار ما يحب إظهاره وإخفاء ما يرغب في إخفائه.
وعلى الرغم من إمساكه بكل الخيوط وتحريكه للأحداث فعليا إلا أنه كان يفعل ذلك من وراء ستار, ولذلك علينا أن ننتظر حتى يبدأ الدخول في معمعة حملة الترشح وينزل الساحة المفتوحة ويتلق الأسئلة والاستفسارات حول كل شيء وأي شيء ويتحرك خارج إطار البذلة العسكرية والتقاليد العسكرية والحصانة العسكرية لتتكشف لنا الجوانب الحقيقية في الشخصية. ويبدو أن هذا كان أحد الأسباب وراء الحزن البادي في عينيه وفي نبرة صوته وهو يودع البذلة العسكرية والحياة العسكرية, إذ سيضطر للخروج من كل هذا وسيضطر لخلع النظارة العسكرية الفخمة السيادية السوداء التي اشتهر بها وأن يواجه الناس والأحداث والمشكلات والعقبات والتحديات بعين مكشوفة وصدر عار ويتعرض لكل مايتعرض له مرشح للرئاسة أو رئيس يقود مجتمعا مضطربا منقسما من تحديات.
وفي معمعة السياسة وخضم الأحداث وسخونتها لن تكفي التعبيرات العاطفية الدافئة, ولن تشبع الكلمات الحانية ولن يتراجع الكارهون والرافضون والمعارضون والمكايدون, ولن يرحم المؤيدون الجائعون والطامحون والطامعون, ولن يسكت الناقدون, ولن يهدأ الضغط الخارجي المتوجس من عبد الناصر جديد والساعي لاصطياد الزعيم في أقرب حفرة ممكنة, خاصة وأنه حتى الآن غير متوافق معه في أغلبه.
إذن فعلى الرغم من قناع العاطفية والطمأنة والحنيّة الظاهرة على السيسي إلا أن الجزء المعلوماتي المخابراتي كان يمده بمعلومات وحقائق موضوعية كفيلة بأن تبعث في نفسه الحزن والقلق, فما ينتظره كثير, وحتى المؤيدين والمحبين والمريدين العاطفيين (وهم كثيرون) قد ينقلبون عليه إذا لم تتحقق توقعاتهم وإذا لم يحصلوا على استحقاقاتهم وهي توقعات واستحقاقات متناقضة ومتباعدة فمنها ما يخص الفلول والنظام القديم ومنها مايخص رجال المال والأعمال والإعلام ومنها ما يخص قليلا من الثوار المؤيدين ومنها ما يخص جموع الشعب المطحونين.... الخ, ولا يوجد بشر يستطيع إرضاء كل هؤلاء, ولن يتحمل رئيس إغضاب بعضهم وإلا أسقطوه كما أسقطوا من قبله.
وسيواجه السيسي صراعا بين استحقاقات ثورة 25 يناير ومؤيديها من الثوار, وما حدث في 30 يونيو باختلاطه وتناقضاته وصراعاته ونفوذه. وربما لوحظ ارتفاع حدة النقد والهجوم على شخصه بعد إعلان ترشحه في صورة حملات شرسة على الفيس بوك وتويتر تظهر حجما كبيرا لمعارضة شبابية شرسة تنتظره, أو مكايدة سياسية تترصد له وتسعى إلى إفشال مهمته أو وضع العراقيل في طريقه.
حقا لقد نزل السيسي من على مقعد الزعيم الشعبي ودخل في معمعة لا يعلم مداها إلا الله ومشى في طريق ملئ بالحفر والألغام, تلك هي الحقيقة التي يدركها عقله المخابراتي وتغيب عن مجاذيبه ومهاويسه ومحبيه ومريديه وعاشقيه. يضاف إلى ذلك خروجه للبحر الشعبي المفتوح وضرورة تواجده في مؤتمرات انتخابية أو مناظرات تليفزيونية وتحركه بين الجماهير المحبة والكارهة واحتمالات تعرضه لمحاولات اغتيال فهو المطلوب رقم واحد على قائمة الاغتيالات لدى كثير من المجموعات المسلحة وسيظل هكذا حتى آخر العمر. كل ذلك يفسر كل هذا الحزن والقلق البادي في عينيه لحظة إلقاء خطابه الأخير بالبذلة العسكرية.
واقرأ أيضاً:
الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ التقييم النفسي لمرشحي الرئاسة/ المصريون في قفص السياسة/ الاستبداد صناعة الحاكم والمحكوم/ فوبيا المعارضة!