تنهى عن الفحشاء والمنكر -2
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ{45}} (العنكبوت:45)
إن الصلاة من المؤمن الخاشع بما فيها من قراءة وقيام وركوع وسجود تجعل المؤمن يعيش لحظات من ذكر الله {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي{14}} (طه: 14). وتلاوة ما أوحى الله من ذكره، أي: القرآن الكريم تزيد من يقظة المؤمن، وتقلل من غفلته. وبالصلاة وتلاوة القرآن، وغير ذلك من طرق ذكر الله تتولد في نفس المؤمن دوافع نفسية معاكسة لميله البشري إلى الوقوع في الفاحشة والمنكر الذي يزيّنه له شياطين الإنس والجنّ. فالصلاة تنهى عن الفحشاء (أي: الزنى) والمنكر بأشكاله كافة، وكذلك ذكر الله (أي: القرآن) الذي بدأت الآية الكريمة بالأمر بتلاوته قبل الأمر بإقامة الصلاة، ينهى أيضا عن الفحشاء والمنكر، بل هو كما تقول الآية الكريمة (أكبر) أي: أكبر نهياً للمؤمن عن معصية الله.
وقبل البحث في الآلية النفسية التي يمكن أن يكون هذا النهي متولداً بها، يجب الانتباه إلى أن الله قال: (تنهى) ولم يقل: (تحول وتمنع)، إنّه النهي، ويبقى المؤمن المصلّي التالي لما أوحي من الكتاب والذكر، يبقى على خطر، إذ قد تكون الدواعي النفسية لديه والتزيينات التي يتعرض لها والتي تحثّه وتدعوه إلى الفحشاء والمنكر، قد تكون قوية فيستجيب لندائها، ويتغافل عن نهي الصلاة، وذكر الله له، فيقع في فحشاء أو منكر من المنكرات.
وقد تحدّث القرآن عن المتقين فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135}} (آل عمران:135) فالمؤمن الذي يضعف أحياناً، فيقع في فاحشة، أو يظلم نفسه بارتكاب منكر من المنكرات، لا يعني ذلك أن صلاته لم تنفعه وأنّ تلاوته لذكر الله لم تؤثر فيه،
إنّما هي الطبيعة البشرية حيث قد يقع الإنسان في كثير من الأحيان في حيرة وتردد بين اختيارات متعددة، ويكون لديه من الدوافع النفسية المتعارضة ما يدعوه لفعل أمر ما، وما ينهاه عن فعله، فالطبيب الذي يعلم حقّ العلم أن التدخين ضار بصحته ولكنه مدمن على التدخين لا يتمتع بسيجارته إلا إن نسي أو تناسى ما يعرف عن أضرارها، أما إن بقي ذاكراً لتلك الأضرار فإنها ستنهاه عن التدخين، أي: ستأمره ألاّ يدخّن، لكنها بالطبع لن تمنعه، فقد تشتد شهوته، ويقرر الاستجابة لها، والتغافل عن صوت النهي والتحذير،
وهذا أبدا لا يعني أن معرفة الناس لأضرار التدخين لا تفيد، لأن الإنسان الذي يعتقد أن التدخين لا يضر سيدخن أكثر، إذ ستبقى لديه الدواعي النفسية لأن يدخّن، وستغيب النواهي النفسية عن أن يدخّن، ولن يتعرّض لأي نوع من الصراع النفسي قبل إقدامه على التدخين. وكذلك المؤمن تنفعه الصلاة وتلاوة القرآن إذ تولّدان في نفسه (ناهياً نفسيّا) يعينه في وجه أيً (داع نفسي) إلى الفحشاء والمنكر، وحتى مع وجود الناهي تبقى له الحرية في أن يستجيب إلى الناهي، فلا يقع في الفحشاء والمنكر، أو أن يستجيب إلى الدّاعي فيقع فيهما.
إنّ الصلاة والقرآن عاملان معينان للمؤمن كي يبقى في حالة من التقوى، لكنهما لا يسلبانه الإرادة، ولا يلغيان كلّ النوازع البشرية لديه من شهوة، أو غير ذلك.
ويتبع>>>>>> : تأملات نفسية في الصلاة7_7
واقرأ أيضاً:
بصائر نفسية إسلامية (4) / أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى4 / منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري