صحيح أنه وزير ابن وزير، وصحيح أن له صفة رسمية بالغة الأهمية، ويقوم بواجبه في حدود قدراته، وصحيح أن شكله الرقيق، ولهجته الراقية تدل على طبقته العالية، لكن كل هذا لا يشفع له أن ينسى من يمثل ومن يخاطب وخاصة في ظروفنا الحالية العصيبة. هذه الهيجة العالية الصوت لها مبرراتها طبعا، فالذاكرة المصرية لا تنسى تصريحات المرحوم "أمين عثمان" عن زواج مصر بالمملكة المتحدة (إنجلترا) التي كلفته حياته، كذلك نحن في وقت شديد الحساسية بالنسبة لإعادة تقييمنا لعلاقتنا بكل الدول بلا استثناء، والتي نقيسها، أو ينبغي أن نقيسها بمصالحنا جدا، لا بالعواطف والأماني، ولا بالرومانسية والشاعرية، لقد لاحت لنا فرصة أن نستعيد استقلالنا، كما ظهر في الأفق تنوع واعد بعلاقات متكافئة محترمة، ربما لذلك تحفظت على زيارات مسئولينا للولايات المتحدة مؤخرا، خاصة وأن العلاقة في هذه المرحلة هي على درجة من الالتباس والغموض تحتاج إلى يقظة، وربما استعدادا بصواريخ رد التآمر/ بالتآمر،
ولعل هذا هو ما دعاني إلى ما قلته هنا يوم 27 إبريل (منذ أقل من أسبوع) ونصه: "....وعلاقة هذه الأمريكا بإسرائيل جعلت مرارة بشعة تتخلل قبولي.. من أول الإفراج عن الأباتشي حتى زيارة اللواء محمد فريد التهامي مدير المخابرات العامة المصرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية" ولم تكن معالم زيارة وزير خارجيتنا قد ظهرت بعد. بل إنني بالغت في ذلك المقال وأنا أتقمص حس شعبنا "الأروب" إذا ما فوّت لهذه التحركات أنه إنما يتلاءم ويسمح بحذر لمثل هذه اللقاءات بضمان ذكائه الفطري، الذي حين تقمصُتُه سمح لي أن أستشهد بمثلين عامين من أقسى ما يمكن، المثل الأول يقول "اللي ييجي منه أحسن منه"،
وهو مثل ميكيافيلي وصل إليه الحدس الشعبي المصري دون أن يقرأ كتاب "الأمير"، وربما استلهمه السادات في مناوراته لعقد معاهدة بداية ثقافة الحرب اعترافا بألم الاستسلام، -برغم تصريحه المستحيل بتحديد نهاية للحروب -وقد كنت أعتقد أنه كان أول من سيلغيها، أيضا تنفيذا لتقليد فلاحي مصري يسمح لنفسه أن يتحايل على عدو مجرم خبيث، ولو بوعود يعرف بينه وبين نفسه أنه قادر على التراجع عنها بأي مبرر ولو اخترعه، ولسان حاله يقول: دهـْدِيّ! فيها إيه؟ جدّت في الأمور أمور: قلت ورجعت، بس خلاص!!"، وتصورت أن المرحوم السادات كان سوف يعملها، وربما لهذا قتلوه، أما المثل الثاني الذي استشهدت به فهو أكثر قسوة وأخبث فـِلحاً وفيه رائحة زواج، ولكن بما بدا منا، هو الذي يقول: "خـُدْ بنـْت الندْل وخاصْمه".
أنا آسف، لكن يا ترى هل يعرف السيد الوزير الرقيق المجلجل المهذب الذي لا عيب فيه (يعني "جنتلمان" كما علمني أبي) هل يا ترى وضع في اعتباره ثقافة ناسه، وهو يدلي بتصريحاته التي أثارت كل هذه الضجة بحق؟ لا أظن،
طيب، إن كان لا يعرف ذلك فهل يعرف أن المؤسسة الزواجية التي استشهد باستقرارها (بما في ذلك الزواج الكاثوليكي الذي أودى بحياة أمين عثمان) مرّت وتمر بنقد بلا حدود، ولولا أنها –مثل الديمقراطية –أحسن الأسوأ، لما استمرّت حتى الآن برغم نجاح زواجه شخصيا لمدة 39 سنة كما قال في نفس حديثه، وإني مستعد أن أهديه كتاب دافيد كوبر عن "موت الأسرة" Death of the family
ربما يتذكر أن مفهوم الزواج في ثقافة غربية غير مفهوم الزواج في ثقافتنا الذكورية المتماسكة ولو ظاهريا، وحتى ثقافتنا فهي قد تفككت إلى ثقافات فرعية ليختلف فيها معنى المؤسسة الزواجية التي يمثلها: "سي السيد أحمد عبد الجواد بالسيدة أمينة" عن ما يمثله "زواج أحمد عز بزينة حتى لو أنجبت توأمين أسمتهما باسمهما، عز الدين وزين الدين"
نرجع مرجوعنا إلى حديث وزير خارجية مصر المحروسة ـلقد راجعت حديثه بالعربية والإنجليزية، وعذرته وأنا أتقمصه بالمواصفات السالفة الذكر، فهو يخاطب ثقافة أخرى تماما، وربما نسي ثقافتنا تماما أيضا، أو لم يعرفها أصلا.
ثم خطر لي خاطر آخر وأنا أتقمص بعض شعبي الذي أصدر هذه الأمثال، وطبعا استبعدت أن يخطر على بال الوزير المهذب ما خطر لي، فكثير من شعبنا يستقبل العلاقة بين إسرائيل وأمريكا على أن إسرائيل متزوجة أمريكا، وليس العكس، وبالتالي فإن "ماما أمريكا" لا تستطيع أن تجمع بين زوجين، وقد انتبه شعبنا إلى ذلك وحذر منه حتى لا نقول للسيد نتانياهو "ياعمي"، وهذا ما يقدمه مثله الشعبي الذي يقول: "اللي يجّوز أمي أقول له يا عمي"
وأخيرا فإننى لم يصلني من هذا الحديث ما يشير إلى أن أمريكا وافقت، أو سوف توافق، على الزواج ، ألم يتصور أو يفترض وزيرنا الجنتلمان، أنها يمكن أن ترفض ولو دلالا مؤقتا، وفي هذه الحال سوف أشفق عليه وهو راجع مكسور الخاطر بالأصالة عن نفسه وليس بالنيابة عنا، وما دمنا في سياق أمثالنا العامية الأقوى من السياسة الخارجية، فقد تصورت أن لسان حاله سوف يقول: "لا أجـّوزت ولا خِلِي بالي، ولا أنا فضلت على حالي" فهل سوف يبحث عن زوج جديد، في ظروف أفضل، أرجوه إن كان سوف يفعل، فليفعلها لحسابه شخصيا، أو على الأقل فليأخذ رأينا بأية طريقة ديمقراطية تضع وعي شعبنا العريق في الاعتبار.
اعملوا معروفا فينا، نحن شعب حساس عريق لا نستأهل أن يستهان بنا هكذا اعملوا معروفا دعونا نعيش أحرارا ولو تعنّسْنا لبضعة عقود
الجمعة: 2-5-2014
موقع اليوم السابع
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
واقرأ أيضاً:
الذين يعبدون الله على حرف، والإيمان المصري / نادين شمس: شاعرة تكتب قصيدتها الأخيرة