في مثل هذا الشهر منذ عشرين عاما .. انعقدت في القاهرة قمة الأمم المتحدة للسكان والتنمية، وسبقت اجتماعات القمة وصاحبتها دعاية تهاجم بعض ما كان مطروحا على الوفود الرسمية كوثيقة للتداول والتشاور والإقرار .. حيث تضمنت الوثيقة بنودا مستفزة لثقافات كثيرة حول الإجهاض والاعتراف القانوني والمجتمعي بالشذوذ الجنسي .. إلخ.
قبيل القمة اكتشفت التجمعات السياسية والمدنية في مصر أن القمة قمتان .. بمعنى أن هناك مؤتمرًا رسميًا للوفود الممثلة للحكومات، ويتوازى معه مؤتمر ضخم للمنظمات غير الحكومية مفتوح لمشاركة المصريين بلا شروط تذكر، وحين وصلتني هذه المعلومة هرولت مع آخرين للتسجيل، ثم داومت على الحضور يوميا طيلة فترة المؤتمر صباحا ومساءً .. ورويدًا رويدًا تبينت لي المفاجأة!!
العالم ليس كما نتصوره، أو يصور لنا: القضايا المطروحة، الأسئلة المثارة، القوى الناشطة والعاملة والمتفاعلة، طرق التواصل والتعاون والتأثير، نوعية الأفكار المتداولة، وغير ذلك من تفاصيل أدهشتني حينذاك، وحفزتني للمواصلة في رحلة استكشاف بدأتها في حينه، ولا تزال مستمرة .. حتى الآن!
تذكرت هذا وأنا أتابع النقاشات التي صاحبت الإفراج عن بعض الشباب الثوري الذي سبق للسلطة في مصر أن اعتقلتهم وحاكمتهم بتهم متنوعة مما توزعه على من تشاء .. كيفما شاءت!!
هؤلاء الشباب دخلوا منذ بدايات حياتهم العملية والنضالية في علاقات قوية بالعالم وأنشطة ونشطاء منظمات غير حكومية كثيرة تتعامل في ميادين حرية التعبير، والاتصالات، وحقوق الإنسان، ومحاولات الناس للتحرر من سيطرة السلطات بكافة أشكالها، وهي محاولات ومبادرات وكيانات كثيرة وممتدة وواسعة، ولكن أكثر المصريين لا يعلمون!!
السلطات في مصر مثلها مثل أية سلطة طامحة للسيطرة .. فهي تعادي هؤلاء الشباب وتخشاهم في آن واحد، بسبب اتصالاتهم، ومعارفهم، وأنشطتهم المشتركة مع آخرين عبر العالم، ويدهشني أن بعض من يجهلون هذا العالم الزاخر يكتفون بترديد ببغائي لما تقذف به أجهزة التضليل من تشويه لسمعة كل من يخرج عن طوع السلطات، ويدهشني أكثر أن نفس هؤلاء الببغائيين يتضررون من تشويه نفس السلطات لهم، ولكن بتهم أخرى .. ربما!!
وبدلا من أن يتعلم من يجهل .. ما يجهله .. يستسلم للمزيد من الجهل والجهالة وإعادة توزيع ونشر الاتهامات الجاهزة التي تسوقها السلطة، ويبقى هو في كهفه مظلوما وحيدا بائسا!! وبدلا من أن يتعرف على العالم والناس في دوائر كثيرة ناشطة متفاعلة وهذا يفيده في محنته .. يستسلم لتصوراته الطفولية عن عالم يتآمر عليه بسبب لونه أو عقيدته أو لغته أو ثقافته المختلفة!!
كيف تقنع طفلا بأن العالم غير ما يعتقد ويتصور ؟؟ وهو في نفس ذات الوقت يعتقد أنه يعرف عالمه جيدا، ويناضل فيه، ويواجهه وحده؟!!
في العام التالي لمؤتمر السكان والتنمية .. انعقدت قمة الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية، أو ما سمي وقتها بقمة الفقر والفقراء، حيث احتضنت كوبنهاجن عاصمة الدانمارك أكثر من عشرة آلاف ناشط من كل أنحاء العالم جاءوا من كل فج عميق ليشهدوا ويتحاوروا .. وحين تواصلنا مع جماعة المركز الإسلامي هناك وجدناهم لا يعرفون شيئا عن الحدث، ولم يهتموا بحضوره إلا مرورا سريعا، وكأن الأمر لا يعنيهم!!
إذا كان العالم لا يعنيك، ولا تبذل في فهمه والتواصل معه جهدا ووقتا، وتكتفي في تصوره بما ينقله لك الإعلام الذي تشتكي من ابتذاله وانحطاطه وتحيزاته فيما ينقل عنك، وتتداول مع من حولك هذا الهراء، وكثيرون ممن يعيشون في هذا العالم يفعلون مثلك يكتفون بهراء الإعلام وأكاذيبه وتضليله في فهم الآخرين، ومن ثم التواصل معهم، أو بالأحرى .. الانقطاع عنهم!!
هل تنتظر من هذا العالم الذي تجهله ويجهلك، وبالتالي تعاديه ويعاديك على أساس من جهل، هل تنتظر منه أن يتعاطف معك وينصفك ويقف إلى جوارك في محنتك، ومعركتك في مواجهة الظلم؟!!
وهل إذا تواصل غيرك مع نفس هذا العالم الواسع، وفيه بشر منهم الصالح والطالح، الراقي في سموه، والمنحط في حضيضه، الرائع في وعيه، أو الغارق في غيبوبته .. كما يحصل فيك، وحولك .. سواء بسواء، فهل إذا تواصل بعضنا مع هذا العالم، وقبعنا نحن في كهفنا لا نغادره خوفا أو استعلاء أو سوء تقدير .. تكون النتيجة أن نلوم من تواصل واجتهد من باب عقاب المتميز .. كما نفعل غالبا في مدارسنا وبيوتنا؟؟
و هل إذا لزم الآخرون في العالم الخارجي كهوفهم واكتفوا في تصورهم لنا وتعاملهم معنا على ما ينقله الإعلام بمصالحه، أو تخططه السلطة لأهداف تقدرها، وكل السلطات في العالم هي ضد تواصل الشعوب بالتأكيد، وضد أن يشعر الناس بقوة هذا التواصل وقدرته وفعاليته في التغيير؟!!
هل نلوم من يرانا بغير عينيه هو ويسمع عنا من غيرنا .. في الوقت الذي نمارس فيه نفس الرذيلة؟؟
ما لكم؟؟؟ كيف تحكمون؟؟؟
واقرأ أيضا:
بعد سكوت المدافع / تراويح / نسيم النفحات / تعلموا من العراق / الذي انهزم / أوهام الكهف