العقل العربي الغالب تشوه، وتراكمت تشوهاته حتى أنتجت واقعا تنافسه جهنم في بؤسه وفشله وتعاسة من يعيشونه!! فـأنى الـتفتُ فـحق سليب .. وأنـى أصخت .. فرجع النحيب! وأنـى سـرت فدرب مريب .. وفـخ عـجيب .. ولغم رهيب!
المشهد العربي العام قبيل ثورات الربيع كان شديد البؤس لكن نوعا من التطبيع قد حصل معه بحيث ألفت الناس الحياة البائسة المشوهة التي هي أقرب إلى الموت منها إلى العيش الإنساني الكريم ماديا، فما بالنا وأغلبية العرب مسلمون يدينون بدين يرى الإنسان خليفة لله في أرضه، خلقه وأنزله إليها ليعمر ويبني ويقوم بالقسط بين الناس، ونظرة واحدة إلى بلدان العرب تكشف عن قدر مذهل من الفساد وجبال من المظالم .. على كل المستويات، وكان الناس قد ألفوا هذا العفن بعد أن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة!!
فتح الربيع العربي كل الملفات، وكشف كل السخائم، وتعرينا جميعا بشدة حتى طفقت عصابات عرب الثروة تخصف على ما انكشف أستارا كثيفة لعل الناس تنسى أو تتناسى، وشياطين التزيين والتزييف على شاشات سلب الوعي وتخدير الضمائر وكتمان الحقائق ونشر الأباطيل تبرز ما انكشف وتداعياته، وتسمي صدام المتشوقين إلى التحرر بكهنة القهر وجلادي الشعوب .. تسمي هذا الصدام فوضى!! وتترحم على أيام الاستقرار .. في قاع الدنيا، والتطبيع مع العفن!! وتتحكم في حياتنا مجموعة أوهام صارت معتقدات .. منها مثلا أنه إذا قامت ثورة أو تحرك الناس لرفض الأوضاع المزرية التي يعيشونها فإن هذا كفيل بتغييرها!! ولذلك يصدم سمعي كثير من الكلام الأبله عن لا جدوى الثورة، وعبثية الاختيار الثوري، لأن ثورة، أو ثورات قامت .. ولم يتغير شئ!!
هذا الكلام يقال في بيئة ثقافية تتلو ليل نهار: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، هكذا أراد سبحانه أن يكون الناس هم جهة الفعل ورسم خرائط التغيير، وتحديد المصير .. لأنفسهم، بينما نحن نرى أن الثورة ستقوم بما لا يقوم به الله سبحانه من تغيير لأحوال الناس، لا أن ينتهزوا فرصة التحريك الذي تحدثه ويتغيروا هم!! ترسانة مفاهيم ومعتقدات تحشو العقل العربي يرى الإنسان بمقتضاها الأحداث والأشخاص على معيار تقسيمة العالم إلى جيد وسيء .. فالاستقرار جيد .. مطلقا، وأي حركة غير منظمة هي شيء مقلق!! والحياة السعيدة هي التي تخلو من المشكلات!! وقد كشفت الثورات عن مشكلات كثيرة وعميقة في البنية العقلية والأنسجة المجتمعية وعلاقتنا بالدين وبالسلطة، وعن تكوينات عصاباتية تسيطر على الثروة والسلطة ومقاليد الأمور، وعن نخب مستفيدة تقاتل من أجل مصالحها!!
في كتابها الأشهر "عقيدة الصدمة:صعود رأسمالية الكوارث" تصدم نعومي كلاين قارئها بأن هذه العصابات تنتهز فرصة الكوارث لتطرح منظومة من الحلول الجريئة، والتغييرات الجذرية في الاقتصاد وبقية نواحي الحياة بالتبعية، وترصد حقيقة نفسية بأن البشر أفرادا وجماعات يكونون مستعدين لتمرير تغييرات كبرى على خلفية ما عاشوه من كوارث وأزمات وصدمات!! الكتاب يستحق قراءة متمهلة متأملة متعمقة، وكثيرا ما حدثت نفسي قائلا: لماذا يستفيد من تحريك/اضطراب الأوضاع .. وحدهم ..أولئك القابضون على رقابنا فقط!! ولماذا لا نرى نحن هذا التحريك بوصفه يتيح فرصا، ويطرح تحديات مستفزة للإبداع، ومحفزة للتعاون والتكاتف .. الذي نفتقده؟؟
المشكل الأهم هو أن العقل العربي .. يبدو في تشوهاته وبرمجاته -المعوجة تربية وتوجيها وتعليما- معاديا للحياة والبهجة والنجاح والسعادة والعقلانية والروحانية الحقيقية، وبالتالي فإنه في نفس ذات اللحظة والظروف التي يمكن لأي عقل سليم أن يرى ملامح الفرصة تتبدى جلية .. تجد عقول أغلب العرب ترى نفس ذات المشهد، وكأنه كارثة وعقوبة ومأساة!! نفس العقول – بالتالي - تدفع بأصحابها إلى خندق الشعور بالاغتراب والاضطهاد والفشل والإحباط وكل الأوجاع، وتداعياتها اللاحقة من أوضاع، وخطابات مريضة!!
في مقالي السابق تناولت ملامح ما أراه فرصة أمام المصريين، وبقية العرب ليسوا بعيدين عن نفس الفرص مع اختلاف في التفاصيل، وكثيرون سيرون في كلامي مبالغة أو جنونا!!
نعومي كلاين في كتابها الأحدث "هذا يغير كل شيء" .. سرقت ما حدثت به نفسي .. (أبتسم) .. وتطرح الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية ليس بوصفها أزمة وكارثة بيئية، ولا عقوبة من السماء بما كسبت أيدي الناس .. كما اعتدنا الحديث عنها، ولكن بوصفها تحديا يتيح استجابات ناضجة، وتغييرات تحتاجها المجتمعات، وتقاربا يطمح إليه الواعون حول العالم! والمرء حيث يختار تصوراته..
الجمعة, 10 أكتوير 2014
واقرأ أيضا:
المجد للطلاب / كسر الصمت / عن .. هدر أغلى ما نملك / التربيط / المشروع الثوري ثورة داخل الثورة / فرصتنا للحياة