تحدثت كثيرا عما بعد الانقلاب، وطالبت جميع عقلاء هذا الوطن الذين ما زالوا يقاومون دولة الاستبداد أن يتصوروا ماذا سنفعل بعد انهيار هذا الانقلاب الهش. في الوقت نفسه يحاول كثير من "الثوار" أن يستعيدوا لحظة الخامس والعشرين من يناير، بكل عذريتها وبراءتها، عزمها وتفاؤلها وقوتها، وهذا أمر جيد، ولكنه – عمليا– مستحيل! أتحدث عن مشاعرنا في الميدان، عن انصهار مئات الآلاف من البشر في جسد واحد (إيد واحدة)، ولست أتحدث عن مبادئ الثورة، فهي ثابتة، وإن كنا قد اكتشفنا أن كلا منا يفسرها بطريقته.
إن لحظة يناير بعد كل ما جرى في النهر من مياه أمر مستحيل، بل هو سعي لا معنى له، والتصرف الصحيح هو تطوير هذه اللحظة، وإذا سألني سائل كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ فإن إجابتي تتلخص في الآتي:
الاعتراف أولا: لا بد أن نعترف أن الحكم العسكري الذي حكم هذا البلد ستين عاما قد حقق كثيرا من النجاحات في تفريق الناس، وتخويفهم من بعضهم. أربع سنوات مرت على يناير، ولا بد أن نعترف أننا مختلفون، وأن المسافات بيننا قد اتسعت، وأن تصوراتنا عن الحياة ليست بالبساطة التي كنا نتخيلها. لا بد أن نعترف أننا مختلفون حول تفسير مبادئ الثورة نفسها، وأننا مختلفون في سلم أولوياتنا في الحياة. وطبعا لا بد من الاعتراف أولا: بأننا جميعا – بلا استثناء يكاد يذكر – قد أخطأنا في حق هذه الثورة العظيمة، بل نستطيع أن نقول إن الجميع قد ارتكب الأخطاء نفسها، بشكل أم بآخر.
الاتفاق ثانيا: لا بد أن نتفق على أننا سنعيش سويا، وعلى أن التعايش بيننا ممكن، وعلى أننا لن نتمكن من العيش سويا إلا بتنازلات من الجميع. لا بد أن ينسى سائر المخلصين في هذه اللحظة وهم الفوز بالضربة القاضية، ولا بد أن يعي الجميع أن القضاء على أي تيار مستحيل، وأن ثمن محاولة فعل ذلك أغلى بكثير مما نتخيل، وأن المكابرة في هذا الأمر أصبحت خطيئة سمجة.
الرفض ثالثا: والرفض هنا سيكون لثلاثة أمور، أولها: الدولة العسكرية، وثانيها: الدولة الدينية، وثالثها: رفض المتعصبين الموجودين في سائر التيارات.
التطوير رابعا: إذا فعلنا ما سبق، فإن بإمكاننا أن نصل إلى تصورات عامة تتعلق بتطوير ثورة يناير، ويكون ذلك من خلال أمرين .. الأول: تصور عام للمرحلة الانتقالية التي تلي الانقلاب (والتي لن ينفرد فيها أي عسكري – شخصا كان أو هيئة – بإدارة المشهد). ثانيا: تصور عام لشكل الدولة المصرية، مع تعهد الجميع بعدم الاستحواذ على أي أغلبيات أو أكثريات خلال الفترة الانتقالية، وخلال المرحلة الأولى من الديمقراطية بعد المرحلة الانتقالية.
لقد دعا الداعون إلى انتفاضة الشباب المسلم الجمعة الماضية 28 نوفمبر، وقد تعمدت السكوت، وعدم التعليق، والآن أقول بكل ثقة، لا يمكن لأي تيار لوحده أن يفعل شيئا على الأرض! وكل من يمني نفسه بأي نجاح لتياره منفردا، أو بإقصاء الآخرين (مهما بدا حجمهم غير مؤثر) لا بد أن يراجع نفسه، ولا بد أن ينزل من أحلامه على الأرض، خاصة أنها أحلام لا مبرر لها، ولا مكسب للوطن من ورائها.
أطرح الآن سؤالا هاما: هل هناك أي محاولات جادة على الساحة لتطوير يناير؟ هل هناك من يحاول أن يرى (ما بعد يناير)؟
إجابة السؤال كالتالي:
لا يمكن تطوير يناير إلا من خلال الشباب، وتأكد أن كل ما قلته سابقا يعني بالضرورة تقاعد غالبية عجائز القيادات من سائر التيارات والحركات والأحزاب، والاستثناءات ستكون محدودة جدا، وكلامي ليس فيه إساءة لأي أحد ولا هو موجه ضد فئة عمرية بعينها، بل هو مرتبط بأفكار تعتنقها غالبية تلك الفئة أثبتت التجربة عدم صلاحية هذه الأفكار لمعالجة ما نمر به من أزمة، فضلاً عن فهمها بالشكل السليم أصلاً. لذلك لا بد أن نرى بعين البصيرة مبادرات الشباب من سائر التيارات، والحقيقة أن من أهم ما حدث خلال الأيام الماضية هو بيان شباب الإخوان المسلمين الذي صدر (بشكل غير رسمي).
البيان يحمل اعترافاً بخطأ الجميع في حق الثورة ومن ضمنهم الإخوان، وفيه رؤية متطورة للوضع الحالي، ورؤية واقعية توافقية لمستقبل مصر، ولم يحمل أية مطالبات بعودة فصيل بعينه إلى الحكم. إن هذا البيان يقدم شكلا من أشكال (تطوير يناير) الذي تحدثت عنه. نسبة كبيرة من شباب الإخوان مقتنعون بهذه الرؤية، صحيح أن قيادات في الجماعة ما زالت تنظر للأمور بمنظور تقليدي قديم، ولكن الواقع قد فرض الشباب فرضا على الأحداث وقد أثبت الشباب مرونة وقدرة على التطور مع الأحداث بشكل معقول.
هل نرى من شباب التيارات الأخرى محاولة لتطوير يناير؟ هل ينتج هذا البيان شيئا عمليا على الأرض يحقق التوافق بين سائر شباب التيارات التي تقف ضد الدولة العسكرية؟
الأيام القادمة قد تحمل إجابات فاصلة لتلك الأسئلة.
ملحوظة أخيرة: قد يتوقع البعض مني تعليقا على الحكم ببراءة مبارك، والحقيقة أن الحكم متوقع ومعروف، وهو فرصة للم شمل الثوار، وتجديد العهد للقصاص لشهداء يناير. الحكم فرصة – عملية – لموجة ثورية، وليس لحظة مأساوية نكتب فيها قصائد في رثاء الثورة. من كان يظن أن الثورة ماتت فليعلم أن عزيمته هي التي قد ماتت، وليعلم أيضا أن عزائم آخرين ما زالت حية، وبهؤلاء ستتحرر مصر.
واقرأ أيضا:
ثورة الشباب العربي: ثورة من أجل التحرر (1) / الشباب العربي مشاكل وحلول / مسار الثورة 23 سبتمبر... الجامعة مشتعل