التعاطف1
إبطاء العملية:
تجتاحنا في بعض الأحيان انفعالات غامرة، إنها تعمينا بالحرف عما يدور حولنا. والانفعالات السلبية كالخوف أو الغضب بشكل خاص تطلق هرمونات الإرهاق، تجعل العضلات تتشنج وتضيق الاستثارات الفيزيولوجية من الرؤية وتخفض بصورة مؤكدة من قدرات الإدراك. وعندما نشعر أن شخص ما يعاني من هذه الحالة نبدي التعاطف وذلك بأن نساعده على "التنفيس" عما بداخله وعلى ألا يستخلص استنتاجات متسرعة. وتتجلى القدرة التعاطفية من خلال مساعدتنا لشخص ما على كيفية رؤية "الكل الأكبر" قبل أن يستسلم لتصرفات طائشة.
السؤال بصورة صحيحة:
بعض الأسئلة تتضمن الإجابة، أو بشكل أدق: تتضمن الحكم، "أنت تعتقدين إذاً أن صديقتك الجديدة جيدة" تسأل الأم ابنتها بصوت متهكم، مسبقة بهذا ردة فعل دفاعية تصغيرية- البنت تصمت أو تتبنى الحكم السلبي. فإذا ما كانت الأم تريد أن تعرف ما الذي يدور بالفعل داخل ابنتها فعليها أن تطرح سؤالاً صريحاً -تعاطفياً: "ما الذي يعجبك بصديقتك بشكل خاص"؟. فالأسئلة الصريحة تقود لاستقصاء الذات عند المسؤول- وتبث في الوقت نفسه: أنا مهتم بالفعل بوجهة نظرك.
الانتباه للجسد:
عندما نجلس مقابل شخص آخر متوتر فإن توتره سوف يمتد إلينا إن عاجلاً أو آجلاً. ويدفع غضبه ضغط الدم لدينا للارتفاع. ويمتد تأثير الجهاز الودي(السمبتاوي) الذي يعد جزءاً من الجهاز العصبي المسؤول عن حشد ردود فعل المواجهة أو الهرب، عبر ما يسمى بالتزامن الفيزيولوجي إلى أبعد من المصدر -وينقل الغضب الخارجي، أي غضب الآخر إلينا، إننا نصاب بالعدوى منه وقد نعتبر أنفسنا هدفاً لهذا الحنق، ونستجيب بصورة دفاعية بدلاً من التنقيب بشكل أعمق.
أما الاستجابة التعاطفية للغضب الخارجي، غضب الآخر، فلن يكون ممكناً إلا عندما نتمكن من حشد الجهاز العصبي نظير الودي (الباراسمبتاوي) المسؤول عن الاسترخاء و الحفاظ على الطاقة. وهذا ما نتمكن منه عندما نتمكن من تشغيل التفكير وتوجيه الذات- كأن نتذكر على سبيل المثال كيف كنا نحن أنفسنا غاضبين لأننا شعرنا بأننا معزولين أو مساء فهمنا أو مرهقين.
ومن هنا يمكننا أن نستخدم التزامن الفيزيولوجي بصورة واعية، بهدف إحداث تأثير معاكس، وذلك بأن نغير من تعابيرنا على سبيل المثال. فبدلاً من انتقال التعبير عن الغضب، نبقى مسترخيين، ومن ثم فإننا نؤثر بهذا على حالتنا. وبالتدريج تنعكس عملية التزامن، ونؤثر على الآخر بشكل مهدئ. ونستطيع أن نظل من خلال الاتجاه التعاطفي منفتحين على إشارات الآخر، إننا نصغي بشكل أكثر دقة ونراقب بصورة أكثر حدة مما لو كنا متوترين أو مستثارين. وباختصار: إننا نستطيع فهمه بشكل أفضل، وأن نوصل له هذا التفهم.
الاحتفاظ بالماضي في المدى المنظور:
في الاتجاه التعاطفي يمكن ألا يكون للسلوك الراهن لشخص ما علاقة بالوضع الراهن، وبشكل خاص إلا تكون له علاقة بنا. فقد لا يكون زميلنا المتجهم غاضباً منا، فقد يكون مثقلاً بصراع أسري غير محلول، أو يعاني من غيظ متراكم بسبب مرتبه السيئ. إننا نجر وراءنا صراعاتنا غير المحلولة كلها أو نتذكر فجأة مرحلة مخجلة من حياتنا. يلون الماضي الحاضر، وغالباً ما ينصب هذا على الناس الخطأ. وفي مثل هذه المواقف يكون من المفيد كبت الاستجابة، وعدم المعامل بالمثل، وهكذا يمكننا البقاء موضوعيين ونرى بدقة أكبر.
جعل القصة تتفتح:
يتيح لنا التعاطف ترك الآخر يروي لنا قصته، دون التسرع في الحكم أو مقاطعته أو دون نلح عليه في قبول نصائحنا الجيدة. وهذا يعني في بعض الأحيان التمكن من الانسحاب وكذلك عدم تحريض الراوين المفرطين.
يتطلب التعاطف التوقيت الجيد: الإحساس بأنه "سيأتي شيء ما بعد ذلك"، الإنصات إلى أن الآخر يخفي خلف هذا الشعور شعوراً آخر. وعليه فالحنق أو الغضب غالباً ما يكون انفعالاً مقنَّع مختار، فخلفه تكمن على الأغلب الخيبة، والانجراح، واليأس ومشاعر العزلة وبشكل خاص غالباً ما يكمن خلفها الإحساس بعدم الفهم.
الرجال بشكل خاص كانوا قد تعلموا بأن ينبغي إخفاء المشاعر التي يمكن أن تعبر عن الضعف وراء واجهة من الحنق والغضب. ويشير عالم نفس النمو وليم بولاك William Pollack في كتابه بعنوان "شبان حقيقيون"، بأنه غالباً ما يتم تدريب اليافعين بالتحديد بالتعبير عن طيف انفعالاتهم كلها بالغضب والعدوان. إلا أنه من خلال التعاطف يمكن تهديم هذه الواجهة: فبمجرد أن يتعرف اليافعون بأنه يمكن أن يكن لهم التفهم والتعاطف وأنه أمر طبيعي أن يشعروا بالوحدة والإحباط أو بعدم الفهم، فإنهم يتوقفون عن الخجل من هذا المشاعر التي يعتقدون أنها "مشاعر لا إنسانية".
وضع الحدود:
لا يعني التعاطف الإفصاح للآخر عن مقاصدنا من أجل أن ندفعه للمصارحة. يعتقد الكثير خطأ بأنهم عندما يروون شيئاً ما من حياتهم الخاصة أو من محيط مشاعرهم ("لقد مررت مرة بخبرة مشابهة") فإنهم يحققون بذلك أساساً من الثقة. إن من يروي شيئاً ما عن نفسه يمكن أن يحقق بعض الراحة على المدى القصير إلا أنه على المدى البعيد فإن هذه المصارحة المساء فهمها غير فاعلة. فكل إنسان يرغب في أن يرى أن مشاعره محترمة بوصفها مشاعر أو مشكلات فريدة من نوعها، ومن ثم فليس من المفيد عندما يؤكد له احدهم بأنه قد مر بالخبرة نفسها. وحتى عندما يبدو الأمر غير منطقي، إلا أن الحقيقة أن تبادل الحميمية يعيق التعاطف.
فمن أجا التمكن من الإصغاء دون أحكام مسبقة علينا الانفصال لبعض الوقت عن خبراتنا: حتى عندما يبدو لنا أن كثير مما نسمعه معروف لنا، فعلينا أن نكون منتبهين، وكأننا نسمع قصة الآخر للمرة الأولى. وسواء كان ذلك في العلاج أم في الحياة اليومية: ينبغي للتعاطف أن يمكننا من اكتشاف الفروق الدقيقة بيننا -وفهمها- وتقبلها. فالتعاطف عبارة عن تفاعل معقد بين المشاركة والإحساس بالآخر (مشاركة الآخر المشاعر) من جهة والاستقلالية والبعد Distance من جهة أخرى. -إنها توازن بين الالتزام ودور المراقب الموضوعي: إنها معرفة أين يتوقف "الأنا" ويبدأ "الأنت"، حتى في أكثر العلاقات حميمية. ومن أجل أن نكون حساسين علينا ألا نكون جزءاً قصة الآخر.
في دراسة حول فاعلية باعي سيارات الفورد ظهر أن الناجحون يتميزون عن زملائهم الأقل نجاحاً، بأنهم لا يتماهون مع الزبائن وإنما بقوا محتفظين بمسافة داخلية. وبما أن الإصغاء التعاطفي يعد كفاءة محورية للبائعين فإنهم يستطيعون استشفاف الحجج والاستراتيجيات التي يمكن أن تقودهم للهدف -أي لعقد الصفقة في هذه الحالة.
تقويم الآخرين بشكل صحيح:
يتطلب الإصغاء التعاطفي تبني رؤية الآخر للعالم دون نظريات أو فرضيات مسبقة حول الآخر. من أجل خبرة حقيقته الذاتية التي هي الحقيقة حول نفسه. فنحن لا يمكننا أن نعرف شخصاً ما بالفعل لم نكن قد أصغينا إليه قبلاً لفترة طويلة وبشكل مركز. وهنا يساعدنا من التأكد بين الحين والحين فيما إذا كان شريك المحادثة يشعر بأنه مفهوم بالفعل، وفيما إذا كان يعتقد بأنه قد عبر عن كل ما يعتبره مهم بالنسبة له. ويقترح كارل روجرز مؤسس العلاج النفسي المتمركز حول المتعالج استراتيجية خاصة بهدف تحسين فن الإصغاء.
ففي نقاش ما أو جدل ينبغي استخدام القواعد التالية: "لا يحق لأي شخص أن يتحدث عن نفسه، قبل أن يكون قد أعاد أفكار ومشاعر محدثه أو محدثته بدقة" فعلى كل مصغ أن يكون إذاً قادراً على تلخيص رؤية أو وجهة نظر الآخر بدقة. ويشير روجرز في كتابه بعنوان "On Becoming a Person": "أيبدو ببساطة غير حقيقي؟ ولكن عندما تحاول فسوف تستنتج أن هذا من أصعب ما قمت به في حياتك. إلا أنك عندما تكون قادراً على تبني منظور الآخر فلا بد لك من أن تغير رأيك بشكل كبير. وسوف تلاحظ كذلك كيف يهدأ التوتر في المواجهة فجأة وكيف تختفي الفروق، وما يتبقى من الفروق يصبح أكثر وضوحاً وعقلانية".
الجانب المظلم من التعاطف:
القدرة على التعاطف ليست امتيازاً يختص به الناس ذوي النوايا الطيبة فقط. إذ يمكن أن يتم استخدام التعاطف ضدنا، من النصابين والأنانيين والمظللين. فقد كان هتلر تعاطفياً بطريقته الخاصة، وذلك عندما فهم رغبات وعقد وطموحات الألمان واستغله. فكلما استطاع شخص ما الولوج إلى جوهر عالمنا الداخلي، سهل عليه استغلالنا.
ومن أجل مقاومة ذلك علينا أن نشحذ انتباهنا التعاطفي الخاص، عن طريق:
1- التفريق بين التعاطف الوظيفي والأصيل authentically and functional Empathy :
غالباً ما نحس بدقة كبيرة فيما إذا شخص ما يريد سبرنا من أجل خداعنا أو استغلالنا أو يغبننا. فالحدس والموقف يقولان لنا بوضوح فيما إذا كان علينا أن نتقبل عرضاً للمساعدة أم من الأفضل ألا نفعل ذلك. إلا أن التعاطف الأصيل قد يختلط -حتى في العلاقات الحميمة- مع التعاطف الوظيفي: فقد يبدو الشخص لنا لطيفاً، إلا أنه يربط المشاركة الحقيقية مع رغبات أنانية ("بما أنك تقول لي أنك تملك مبلغاً في البنك، فهل لك أن تقرضني مبلغاً من المال"....)، وهذا أمر عادي طالما نظل قادرين على فهم اللعبة ولا نشعر بالاستغلال.
2- معرفة الرغبات الذاتية:
من يعرف نقاط ضعفه، يحمي نفسه من الاستغلال. جميعنا يملك رغبات وأحلام وعقد وميول تجعلنا حساسين للكلمات العاطفية الصادرة من الآخر. وكلما كانت معرفتنا "بالنقاط الرخوة" من نفسيتنا أفضل كنا أكثر حذراً عندما يبدو لنا شخص ما متعاطفاً، إلا أنه داخلياً يسعى للاستغلال.
3- تدريب النظرة الواسعة (اللاتمركزية):
تقوم اليقظة التعاطفية بتسجيل الأمور الدقيقة التي قد تبدو ليست ذات أهمية في سلوك الآخرين. فالتناقضات الصغيرة والتباعد بين أقنية التواصل المختلفة -التعابير، الصوت، لغة الجسد- تعد معلومات مهمة، التي تكشف لنا بمجملها الحقيقة التعاطفية. لهذا يحتاج التقويم الدقيق لمقاصد الآخر الوقت. التعاطف عبارة عن نتيجة لخبرة -أها.
4- منع الحميمية غير المطلوبة:
لا بد للحميمية العفوية للبائع أو رفع الكلفة المفاجئة دون مقدمات من مسافر ما يجلس بجانبنا، الذي نكاد لا نعرفه إلا من ساعة واحدة أن تجعلنا شكاكين. وكذلك هو الحال في كل حميمية التي لم "ندعو" لها. فمن لا يحترم حدودنا ويلح علينا انفعالياً ويستجيب باستياء لعدم اهتمامنا يكون قد كشف القناع. فالتعاطف الأصيل يحترم رغبة الآخر بالتباعد.
5- التعاطف لا يعني: "اللطف مع الآخرين":
ليس هدف الإصغاء التعاطفي خبرة ذلك الشيء الذي نريد خبرته، ولا يعني كذلك الحصول على إعجاب الآخر ونعززه بأخطائه أو آراءه. التعاطف ليس العطف أو الإشفاق. الهدف هو التقدير الواقعي والدقيق للآخر-بهدف مساعدته. فإذا لم يرد شخص ما أو لم يتمكن من تقبل اتجاهاتنا التعاطفية، علينا ألا نشعر بالذنب بسبب ذلك.
"أنت لم تعرفني أبداً":
العشق، بكلمات المحلل النفسي إيلفن سيمارد Elvin Semard، هو "الشكل الوحيد المقبول من الذهان في ثقافتنا". وينطبق هذا بشكل خاص على الطور الأول من الحب المتمثل في المثلنة المتبادلة Idealization . فنحن نكون صورة عن الشريك تتلاءم مع حاجاتنا ورغباتنا، وبشكل خاص الرغبة بأن نكون محبوبين. وبما أننا نصاب بالعمى عن كل ما يخالف هذه الصورة أو عن كل ما لا يتلاءم معها، فإننا نكون كأشخاص حابين جدد كل شيء عدا عن أن نكون موضوعيين. وفي هذه المرحلة النرجسية لا يمكننا أن نكون متعاطفين.
وبعد فترة من الزمن تبدأ وبصورة حتمية أولى التصدعات في الصورة غير الواقعية: فالشريك يشخر أثناء النوم، ويصدر أصواتاً من فمه أثناء الطعام، وفوضوي ويقهقه بصوت مرتفع لأسخف النكات... الخ. فإذا كنا الآن متعاطفين فإننا سوف نتحمل هذا. إذ أننا من خلال الملاحظات والملاحظات الذاتية بأنه ليس هناك من إنسان كامل. والتعاطف يستطيع أن يتحمل التناقضات بشكل جيد، ذلك أنه من حيث المبدأ تقنية التمايز أو التنوع. إنه لا يلون الأشياء إما بالأبيض أو الأسود. إلا أنه في هذه المرحلة من الصحوة غالباً ما ندفع الأمور نحو الاستقطاب، ونقلل من الشريك بشكل مخيب. وهنا تظهر العدوانية والخلافات المتكرر.
وفيما إذا كان هذا الطور الحرج سينتهي إلى طور التكامل، فإن ذلك يتعلق بما إذا كنا نحن نعرف على نقاط ضعفنا وأخطاءنا وألا نسقطها على الشريك وبما إذا كنا سنتعلم تقبل "عيوبه". ويتيح التعاطف دمج الصفات المتناقضة في صورة كلية إيجابية. وهذا يعني، أننا نستطيع أن ندرك أنفسنا وشريكنا على أننا "ليسا كاملان، إلا أننا مع ذلك فنحن جديران بالحب". فالتعاطف المتبادل يصنع من العشق حباً، ومن المثلنة المدفوعة بشكل نرجسي، ومن "الخيبة" المبالغ بها ينشأ التوازن بين التقارب والتباعد. بالإضافة إلى ذلك فإن التعاطف يثري الشخصية، ونصبح شفافين في الحوار مع الآخر، ونطور أنفسنا من خلال تعلمنا دائماً فهم الآخر.
وقد يصبح الأمر وخيماً في بعض الأحيان، وذلك عندما تتجمد عملية التعاطف المتبادل هذه، لأن أحد الشريكين قد توصل في لحظة من اللحظات بأنه "يعرف الآخر كلية"، فلا يعود يصغي إليه بدقة ويتوقف عن السعي نحو تعلم الرغبات المتجددة ووجهات نظر المتغيرة للآخر. وغالباً ما تعبر الجملة القائلة "أنت لا تعرفني على الإطلاق" عن بداية النهاية، وتشير إلى حقيقة أن هذا هو الواقع بالفعل وأن الشريكين قد عاشا إلى جانب بعضيهما البعض بشكل لا تعاطفي.
واقرأ أيضًا:
التوازن النفسي/ ازدواجية العواطف/ المنظومات السلبية النفسية