الصورة الأولى: عريض الكتفين، حليق الرأس، فانلة ضيقة يشتكي كمها القصير من عضلات ذراعيه المنفوخة كالبالون. يخرج من "الجيم" وفي يده سيجارة وباليد الأخرى يشرب علبة "ريدبول"
الصورة الثانية: ملابس تكسوها الورود كستارة غرفة نوم، شعر طويل "ملولو" بعناية أو مربوط ذيل حصان.. تحتاج للتحديق في منابت شاربه ولحيته لتتأكد أنه ليس فتاة لعوب. وتتمنى ألا تسمعه يتكلم حتى لا تصاب بالإسهال.
الصورة الثالثة: وزن زائد وكرش "مدلدل" يربيه على الغالي.. ذقنه غير محلوق كسلا وانتظارا لأول الأسبوع. يختلي بهاتفه الجوال يلعب "الكاندي كراش" أو يسب أحد أصدقائه على الفيس بوك، تاركا زوجته تركض خلف الصغار لتمنع أذاهم عن خلق الله.
الصورة الرابعة: جميل الطلعة، لكن مهلهل الثياب في ثوب أبيض قصير يظهر من تحته سروال أبيض وجورب و"شبشب" أسودين.. لحية شعثاء وشعر تغطيه طاقية بيضاء صغيرة. ينظر في الأرض غاضا للبصر وهربا من تبرج النساء اللاتي تربى أنهن سيكنّ سببا في كل شرور الكون.
الصورة الخامسة: نائما على "الكنبة" ممددا رجليه على الطاولة، يلعب "البلاي ستيشن" وحوله بقايا الطعام وأكياس الشيبسي وعلب الصودا، تنظفها أمه من حوله، بينما أخته في السوق تشتري لوازم المنزل.
وغيرها كثير من الصور التي نراها يوميا لنتسائل عن المعنى الحقيقي للرجولة... هل تفي إحدى هذه الصور لتكمل القطع الناقصة في "بازل" العلاقات الاجتماعية؟ هل يصلح أصحاب هذه الصور لركوب الحصان الأبيض وتحقيق أحلام الفتيات بفتى الأحلام المنتظر؟
تعالو ننظر إلى الصورة الأعم والأشمل، صورة البيوت والأسر التي تأوي أبطال هذه الصور. لنجد الأم تصرخ طوال الوقت داعية عليهم لأنها فشلت في تربيتهم وتهددهم بجهنم وبئس المصير لعقوقهم الفاجر وتبشرهم بزواج فاشل لأنهم "مش رجالة" ولن يسوو "بصلة" في سوق الرجال، وتتسائل كيف سيصبح أبنائه الذين سيكون مسئولا عن تربيتهم... وتجيب على نفسها قائلة: "أكيد هيعملوا فيك اللي بتعمله فيا".
ثم تقابل صديقاتها مساء لتتحدث عن صعوبة تربية الأولاد وتتفاخر أنها ربت "رجالا" عسى تصدقها ساذجة منهن وتزوجه ابنتها. يسئلونها كيف فعلت المهمة المستحيلة، فتجيب منتفخة الأوداج: "تركتهم للشارع والدنيا لتعلمهم وتربيهم. أصل العلم في الراس مش في الكراس".
تعالو لنصف الضحايا الآخر، النصف البائس.
ولدت أنثى بين بؤس الآباء ومصمصة الشفايف حزنا على الولد الذي أخذت مكانه. تكبر لتتحمل المسئولية قبل أخاها "الراجل"، فالرجال أنفسهم يصبحون مسئوليتها، وعليها إرضاءهم صاغرة، عليها أن تسمع الكلام لأنها "بنت"، عليها أن تتقبل أن يفضلوا عليها الولد، ولا تسمع مبررا لذلك غير أنه "راجل" وأن "ربنا اللي قال ليس الذكر كالأنثى".
تجد نفسها مجبرة على تغطية جسدها بعدة طبقات من الملابس في عز نار جهنم، لأن جسدها عورة على الرجال. الرجال الذين تربت أنهم ذئاب ستنهش لحمها حية.. مخلوقات شريرة ستلوث سمعتها لمجرد الكلام معهم. الرجال الذين منهم أباها وأخاها والذين لهم الفضل الأكبر - بكثير من المساعدة التي لا ننكرها من الأم- في عقدها النفسية التي تعيش معها عمرها كله. الرجال الذين هي - بكل أنوثتها- أصبحت "أرجل" منهم.
وفجأة -سبحان الله - تجد نفسها مجبرة أن تترك أهلها لتتزوج ذئبا منهم. رجل لا تعرفه كانت أمه تدعو عليه نفس الدعوات إياها. رجل لم تره في كامل زينته إلا في يوم فرحهم. وبعدها يتحول إلى صورة من الصور الخمس السابقة.
كانت تحلم أن تتخلص من الصورة القاتمة التي عاشتها في بيت أهلها، رغم أنهم بطبيعة الحال أكثر أهل الأرض حبا لها، إلا أنهم أيضا أكثر من عذبها وآذاها. تتمنى أن تهرب لحضن وحنان زوجها بعد محاولات جهيدة أن تقنع نفسها أنه مخلوق فضائي وليس من رجال أهل الأرض "الذئاب" الذين تحتجب عنهم طوال عمرها. تتمنى أن تلقي بعضا من مسئوليتها على عاتق رجل يريحها ويحتويها. رجل يكون ظله أفضل من ظل "الحيطة". ولكن بعد بضعة أشهر تتمنى لو كانت اختارت الحيطة حتى لو وقعت عليها، كان سيكون أفضل.
المسئوليات أكبر، العقد أكبر، والورطة أكبر بكثير. والذئب.... أقصد الرجل... ليس سوى طفل كبير يتجاوز كسله كسل فيل أفريقي يتمرغ في بركة وحل. ويتجاوز "دلعه" دلع قط بفراء يتمسح بحذاء صاحبه.
تزيد عقدها النفسية وسط الازدواجية التي يطالبها بها، أرادها ساذجة بيضاء مغمضة العينين كقطة، وبعد الزواج بيوم يريدها بخبرة بنات الليل، وخبرة الأم المتمرسة، وخبرة المحاسب القدير والاقتصادي البارع.
العجيب في الأمر، أن الازدواجية بدأت قبل ذلك بكثير، وستستمر طالما نستمر في تربيتنا لأبنائنا بنفس النهج. يبدأ هو بمعايرتها أنها لن ترقى لمستوى أمه والتي كانت السبب الأول في دلعه وقلة رجولته. وتعايره هي أنه ليس مثل أباها الذي كان بدوره سببا في معظم عقدها النفسية التي ترافقها عمرها.
رغم تدهور حال الشباب لهذا القدر، إلا أني لا ألومهم، فهم نتاج تربية خاطئة كانوا هم النتيجة الطبيعية لها. أفكار مغلوطة تصب في عقولهم من نعومة أظفارهم، يتبعها تعليم مدرسي عقيم يركز على دورة حياة دودة مخططة وحيدة الجنس تعيش في أشجار الغابات المطيرة بدلا من التركيز على الثقافة الحياتية اللازمة لبناء عقول وقلوب هؤلاء الشباب ليبنوا مجتمعات سليمة نفسيا واجتماعيا. ازدواجية تأكل في عقولهم بين خطبة الجمعة المليئة بالصراخ والترهيب من أنياب الشجاع الأقرع ووديان جهنم وبئس المصير، وبين أفلام السبكي وأغانيها وإعلاناتها وبذلات رقصها.
ارحموا أولادكم، وارحموا أجيالا قادمة تدمرونها وتحسبون أنكم تحسنون صنعا، ارحمونا من أنصاف وأرباع الرجال، وأنصاف وأرباع النساء، ارحموا أطفالا ليس لهم ذنب إلا أن كانوا نتاجا لزواج أنصاف بأنصاف.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: البحث عن عباس / البحث عن عباس مشاركة / يوميات زوجة مغتاظة ومغامرات د. عباس المحتاس / المرأة والرجل على الميزان / استغاثة امرأة
التعليق: