مقدمة
ما معنى تأكيد الذات؟
سؤال قد يلح على خاطرك عندما تطرق سمعك هذه العبارة! والآن لنبحث سويا عن معنى هذه العبارة السحرية، فيقول مثلا [صاحب معجم "محيط المحيط" المعلم بطرس البستاني: وكَّد العهدَ توكّيدا وأكَّده تأكّيدا وأوكده وآكده إيكادا وبالواو أفصح بمعنى حشده وأوثقه. وتوكَّد توكُّدا وتأكَّد تأكيدا أي اشتد وتوثَق، والتوكِّيد والتأكِّد وبالواو أفصح عند النحاة]، ولذا فيمكننا أن نقول توكيد الذات أو تأكيد الذات، ونظراً لشيوع كلمتي أكيد وبالتأكيد بين العامة فلقد فضلت ذكر "تأكيد الذات" على "توكيد الذات"، وإن ذكرت بعض مراجع علم النفس عبارة "توكيد الذات"، وذلك بدلاً من "تأكيد الذات" .
معنى توكيد الذات:
والآن ما معنى "تأكيد الذات"؟، والإجابة وببساطة هو نوع من العلاج السلوكي المعرفي يستعيد فيه الشخص السوي قبل المريض نفسيا ثقته بنفسه، مع قدرته على مواجهة الإحباطات المختلفة في شتى مجالات الحياة مثل الدراسة والحب والزواج والجنس والعمل وتربية النشء، بل وفي نطاق العلاقات الشخصية والاجتماعية وعلى كل المستويات.
هو، وبصورة أكثر تفصيلا، قدرة الفرد على التعبير الملائم (لفظياً وسلوكياً) عن مشاعره وأفكاره وآرائه تجاه الأشخاص والمواقف من حوله، والمطالبة بحقوقه (التي يستحقها) دون ظلم أو عدوان.
ـ توكيد الذات يرتكز على تقدير الفرد لذاته (رضاه عن نفسه وقدراته) وعلى إحساس الفرد بتقدير الآخرين له (مكانته عندهم واحترامهم له).
ـ فالمتذلل يبخس نفسه حقها وينزلها أقل من منزلتها.
ـ والمتكبر ينفخ ذاته ويعطيها منزلة أكبر مما تستحقه.
ـ أما المتزن فهو يقدر نفسه حق قدرها بحسب ما تستحقه.
والمتزن هنا هو الشخص المؤكد لذاته، فليس هو بالمتكبر أو المتعالي أو العدواني أحيانا، وليس هو أيضا بالمتذلل المتذلف للآخرين المضيع لحقوقه، المحتقر لذاته.
والآن تعالوا نعيش معا قصة عايشتها بنفسي كطبيب نفسي، تلك القصة توضح ضياع الذات وتشتتها لأن صاحبتها لم تتعلم أن تقول "لا" وتضع حدودا للآخرين يتوقفون عندها ولا يتجاوزونها، إن مدام نجوى هي مثال للأشخاص الأسوياء، ولكنهم بحاجة إلى شخص ما يعلمهم قول "لا" عند اللزوم، قد يكون ذلك الشخص طبيبا أو إخصائيا نفسيا:
مدام نجوى وتأكيد الذات:
نَظرت مدام نجوى إلى ساعتِها والتي تشير أرقامها إلى الخامسة وعشر دقائق عصرا، بالطبع سيكون زوجها أحمد غاضبَا منها، وحانقا عليها لأنها تأخرت في عملها، وفي نفس الوقت رئيستها في العمل مدام منى حضرت إلى مكتب مدام نجوى وعلى قسمات وجهها علامات التوتر والقلق، وطَلبَت مِنْها إعداد تقريرِ هام لاجتماع مجلس الإدارةِ، والذي سينعقد مبكرا في صباحِ اليوم التالي!! وبالطبع ستكون مدام نجوى من المبكرين في حضور مثل هذا الاجتماع الهام، لأنها المسئولة عن تحضير وتسجيل هذا الاجتماع!!
وكأن هذه المؤسسة لا يعمل فيها أحد إلا هي!! أضف إلى ذلك أي أمر صعب يحتاج إلى الإنجاز السريع، وذلك بعد فشل الآخرين في إنجازه، يقوم الإداريون في المؤسسة بتحويله إلى مدام نجوى لإنجازه وبسرعة!!!، وأصبح مثل هذا الأمر متكررا...
تخيل أنت مقدار الغضب والحنق والارتباك واضطراب المشاعرَ الذين من الممكن أن يعاني منهم من هو يعيش معاناة مدام نجوى.!!! ماذا يمكنك أَنْ تَعمَل لو كنت تعاني ما تعانيه مدام نجوى؟ وكَيْفَ لك أن تُعبّرُ عن مشاعركَ عندما تواجه مثل هذا الإحباطِ المتصاعدُ؟ ليس هناك أجوبة سهلة، لكن هناك أجوبة، إذا كنت راغبا في بَذْل بعض الجُهد، فالأمر قَدْ يَتطلّبُ منّك أن تَقُومُ ببَعْض التغييراتِ في حياتِكِ.
وبداية فتُغييّرُ نفسك هو تحديا صعبا، ولَيسَ سهلاَ، ولَكنّ بالإمكان إنجازه وتحقيقه. هذا الكتاب يَعْرض لك كثيرا منَ الطرق لتأكيد ذاتك، وذلك لاسترداد حقوقك، ولتَحسين عِلاقاتِكَ مَع نفسك أولا ثم مع الآخرين بعد ذلك.
أما إذا كنت تَبْحثُ عن دروسِ في كَيفيةَ معالجة الآخرين، فأنت تَقْرأُ الكتابَ الخطَأ، بل أستطيع أن أخبرك وببساطة أن هذا الذي تريده هو ضرب من المستحيلات كالغول والعنقاء والخل الوفي المذكورين فقط في أساطير ألف ليلة وليلة، وليس على أرض الواقع!! فقد خلقنا الله مختلفي الطباع والأهواء والمشاعر، ولذا فالقاعدة الصحيحة هي تقبل الآخر بطباعه وعلله ومشاكله في حدود احترامنا لذواتنا وتأكيدنا لحقوق أنفسنا، ودون تعدي الآخرين أيا كانوا على حقوق أنفسنا وذواتنا، لذا فنحن نَدْعوا إلى الإصرارِ على تأكيد الذات، وعلينا أن نتفادى الاستغلال من جانب أي مستغل أو مستغلة في علاقاتنا الأسرية أو المهنية أو الاجتماعية، إنّ العمليةَ بنفسها بسيطةُ جداً.
وبعد أن قمت بتعريف معنى تأكيد الذات باللف والنشر، ورغبة مني في وضع بعد تاريخي لتأكيد الذات فضلت أن أذكر هنا ملخصا عن قصة حياة الفيلسوف الإغريقي سقراط، وهو أستاذ أفلاطون ومن بعده تلميذه أرسطو، هذا الرجل المتواضع المتحمل لا لمجتمعه اليوناني المنغمس في اللذات الحسية، والصراعات المستمرة على كل المستويات وحسب، بل لزوجته أيضا التي طالما تحملها وتحمل تسلطها وعنف سلوكها، فكان سقراط مثالا يحتذى في احترامه لفكره، وتأكيده لذاته، وإيمانه بعقيدته المخالفة لآلهة الدولة المتعددة، ورفضه للعدوان بكل أشكاله، مع شجاعته وبسالته واشتراكه في جيش أثينا للدفاع عنها.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> سقراط وخصومه وآداب الخلاف في الرأي