تابع الإصرار على المبدأ (2)
انزعجتْ غادة بشدة عندما زارتها جارَتها سعاد لأول مرة، فغادة عروس جديدة في العمارة، وسعاد جارتها في الشقة المجاورة قد أتت لتبارك لها على الزواج، ولكن ما الذي أزعج غادة؟
إن سعاد أتت دون موعد سابق، فقد انتهزت فرصة نزول زوج غادة إلى عمله، حيث استقل سيارة العمل، والتي استقلها من أمام باب العمارة، وذلك منذ حوالي ساعتين، فطرقت سعاد الباب، وقامت بتعريف نفسها لغادة، وأنها ترغب في زيارة العروس الجديدة، ذلك لتبارك لها الزواج، فشعرت غادة ببعض الحرج، لأنها لم تستعد لتلك الزيارة، ولكنها في نفس الوقت ترغب في التعرف على جاراتها، ولذلك فقد طلبت، على استحياء، من جارتها سعاد التفضل بالدخول، ولكن ما أزعج غادة حقا هو أن سعاد تَكلّمتَ بِاستمرار وبسرعة ودون توقف أكثر من ساعة، وكأنها تخشى أن تأخذ غادة ميكروفون الحديث منها!!.
وكان معظم الكلام عن سكان العمارة، وثرثرةِ الحيِّ التي لا تنتهي، ولم تنس سعاد التحدث عن زواجها والمشاكل التي واجهتها مع زوجها وأهله في سني زواجها الأولى، وكيف كانت لها الغلبة عليهم في النهاية، ولم ينقذ غادة من طوفان حديث جارتها سعاد إلا عودة زوجها إلى المنزل، وذلك بعد أن استأذن من عمله لإحساسه بصداع نصفي منعه من التركيز في عمله.
وقد أسقط في يد غادة تصرف جارتها سعاد، فهي لم تواجه موقف مثل ذلك الموقف من قبل في بيت أهلها، وهي التي اعتادت أن تكون أي زيارة لمنزل عائلتها بموعد سابق من الضيوف الزائرين، وذلك حتى يستعد أصحاب المنزل لمقابلة الضيوف والترحيب بهم، كما أن الحديث مع الآخرين يجب أن يكون في صورة حوار، يشارك جميع الجالسين فيه، لا أن ينفرد شخص بالحديث متجاهلا الجالسين معه، كما فعلت مدام سعاد!.
غالبا ما نطلق على من لديهم شخصية مدام سعاد بالشخصية النرجسية، وهو نوع من الشخصيات المزعجة، ولكننا نقابله في الحياة، وغالبا ما نصطدم معه ولو بعد حين، وأكثر ما يلفت نظرنا في تلك الشخصية هو زهوها وإعجابها بنفسها، ولذا فهم يتحدثون كثيرا عن مآثرهم وأمجادهم، فلا أحد يستطيع الوصول إلى ما حققوه من مجد، ولا أحد يدانيهم منزلة وفخرا!، لدرجة أن من يسمعهم قد يصفهم بالغرور والكبر، أو قد يهزأ من تكرارهم لقصص ومواقف تشير إلى براعتهم ونبوغهم!!، كما أن لديهم قدر لا يستهان به من الأنانية الظاهرة للعيان، مع قدرة هذه الشخصية على الاختلاط بسهولة ويسر مع الآخرين، لدرجة قد نصفها بالقدرة على الاقتحام ثم الالتحام بمن يريدون الاستفادة منه واستغلاله، فهم دائما يسعون لتحقيق مصالحهم عن طريق استغلال الآخرين، دون إبداء أي احترام لرغبات ومشاعر من يستغلونهم، وبعد انقضاء مصلحتهم و حصولهم عليها، قد لا يلتفتون إلى من استغلوه، فهم عندئذ يبحثون عن فريسة بشرية أخرى يحققون من ورائها مصلحة أخرى، دون الالتفات إلى من استغلوه من قبل، وكأن البشر جميعا قد خلقهم الله لخدمتهم وتحقيق غاياتهم في الحياة دون أن يقدم النرجسيون لهم أي مقابل مادي أو معنوي!!.
والنرجسيون وإن وصلوا لأرفع المناصب، وإن امتلكوا من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة، لديهم قدر هائل من الحسد والحقد على كل صاحب نعمة وإن كانت تلك النعمة لا تذكر بجانب ما يمتلكه النرجسي من نعم لا تحصى ولا تعد!!، ولا أنسى أستاذا جامعيا أجعد الشعر كان يعلن عن حسده (أمام أصدقائه) على كل من لديه شعر ناعم من الجنسين!!!.
والآن كيف تواجه سيدة رقيقة ومهذبة و لها خبرة محدودة في الحياة، لأنها مازالت في مقتبل عمرها، مثل مدام غادة، هذا الاقتحام الشرس من جارتها سعاد؟
إذا كان لدى مدام غادة قدر من قوة الشخصية وتأكيد الذات، فهي بلا شك ستضع حدودا للعلاقة مع جارتها سعاد، فقد استطاعت أن تتفهم جوانب الشخصية لدى جارتها المزعجة، وستستطيع في المرة القادمة أن تعتذر بلباقة عن مقابلة جارتها، إذا أتت لزيارتها دون موعد سابق، ولن تسمح لسعاد أن تستغلها بأي صورة من الصور، كأن تطلب سعاد منها الجلوس مع أطفالها الصغار عند ذهاب سعاد لزيارة أختها مثلا، أو أن تطلب سعاد منها أن تذاكر غادة لابنتها الطالبة في المرحلة الثانوية، دروس الكيمياء، وقد عرفت أن غادة حاصلة على بكالوريوس علوم قسم كيمياء، ولن تطلب غادة النصيحة من سعاد إذا دب خلاف زوجي في منزلها، فالعاقل لا يطلب النصيحة من حقود حسود، ولكن ماذا لو كانت مدام غادة غير مؤكدة لذاتها وضعيفة الشخصية، أعتقد أن مدام سعاد ستقتحم حياتها، وستقوم باستغلالها أسوأ استغلال، بصورة قد تحطم حياتها، وقد ينتهي الأمر بها إلى الإحباط، والذي قد يستلزم طبيب نفسي لعلاجه.
ولكن في الواقع والحقيقة قد يعاني معظمنا من ضعف ما بشخصيته، والذي قد يكون في البيت، أو في العملِ، أو في المدرسة، أو في المحلات أو المطاعمِ التي يتعامل معها، أو في اجتماعاتِ النادي أو في الطرقِ و المواصلات، فالعديد مِنْ الناسِ قد يَجِدونَ أنفسهم مرتبكين، وذلك فقط لخوفهم من أن ينظر الآخرين لتصرفاتهم نظرة نقد واحتقار، مما يدفعهم إلى التنازل عن الكثير من حقوقهم.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> تأكيد الذات: كيفيتهُ؟